حاولت القيادة ومن باب الحرص على الرفاق الحزبيين، وبخاصة من كان لهم دور في ثورة 8 آذار 1963، وفي حركة 23 شباط 1966، أن تحتوي هؤلاء الرفاق، وتتجاوز ما تورطوا به ، وكما ذكرت ، استدعت القيادة الرائدين سليم حاطوم ومصطفى الحاج علي ليحضرا مع أعضاء القيادة القطرية جلسات عقدت خصيصا للقيام بنقد ونقد ذاتي، ولتقييم الفترة الوجيزة من 23 شباط (فبراير) وحتى شهر آب 966، وعاملتهما معاملة أعضاء فيها ،وهيأت لهما ولبقية الحزبيين المتورطين، كافة الظروف لاستعادة ثقتهم بأنفسهم، وبالحزب، ولتبديد كل الشكوك والمخاوف التي يمكن أن تساورهم،
ورأت القيادة أيضا ، أن تعقد لقاءات في منازل بعض أعضائها ، وبعيدا عن الاجتماعات الرسمية ، لتناول الغذاء ، يحضرها كل من الرائدين حاطوم والحاج علي تعزيزا لنفس الهدف، كما وجهت القيادة أعضاءها وبعض أمناء الفروع وبعض أعضاء قيادات المنظمات الشعبية لزيارة الرائد حاطوم وإحاطته بشكل مستمر وإبعاد تأثير المجموعة التي ورطته بلقاء الدكتور الرزاز .
بعد اجتماع للقيادة القطرية في 6 أيلول، صدر عنها بيان تضمن:
- أن كل مؤامرة جديدة ستعجل في قبر فلول الرجعية واليمين وتدفع قضية الجماهير إلى أمام.
- انتهاء مرحلة التسامح واللين ، وأن يد الشعب الجبارة لن ترحم وستضرب الرؤوس المتآمرة .
- أن اعترافات المتآمرين واضحة وسيقدمون إلى محكمة الأمن القومي.
كما قام الأمين القطري رئيس الدولة الدكتور نور الدين الأتاسي ورئيس الأركان اللواء أحمد السويداني يوم 7 أيلول بزيارة إلى الجبهة واجتمعوا ، هناك ، مع الضباط لتوضيح أبعاد المؤامرة المكتشفة .
ولكن، كما تبين بعد أيام قليلة، أن التأثيرات الخارجية على حاطوم وبعض أنصاره كانت أكبر اثر من كل ما فعلته القيادة القطرية لاحتوائهم ، إذ حاول الرائد حاطوم مرتين اغتيال أعضاء القيادة .
المرة الأولى أثناء عشاء في منزل اللواء أحمد السويداني حضره بعض أعضاء القيادة ومن بينهم اللواء صلاح جديد واللواء حافظ الأسد وبحضور الرواد حاطوم والشاقي والحاج علي .
< كان الرائد حاطوم قد وضع كمينا مسلحا من عدة أفراد من كتيبته في الحديقة العامة التي يطل عليها منزل اللواء السويداني بزقاق الصخر بغية القيام بعملية الاقتحام للمنزل واغتيال الموجودين فيه بعد مغادرة سليم والشاقي ، ولكن هذه المحاولة فشلت بعد أن رفض الرائد الشاقي مغادرة المنزل ولم يستجب لتأشيرات الرائد حاطوم الذي خشي من أن ينبه الرائد الشاقي الموجودين في حال مغادرته لوحده > .
والمرة الثانية حين اجتماع لأعضاء القيادة لتناول الغذاء في منزل جميل شيا وبحضور الرائدين حاطوم والحاج علي ، أيضا، ولكن خبر مغامرته وصل إلى القيادة ، وألغيت الدعوة ، ورغم ذلك استمرت القيادة على توجهها بالحرص على هؤلاء الرفاق .
بعد انتشار المعلومات عن تورط سليم حاطوم في تنظيم مع فهد الشاعر لقلب نظام الحزب ، استنكرت منظمة الحزب في السويداء ما أقدم عليه حاطوم ، بينما بعض الحزبيين من المتورطين أو المتعاطفين معه وباتفاق بينه وبينهم - وخاصة ، بعد أن أوحى إليه خالد الحكيم ونبيل الشويري وغيرهم بفكرة العصيان للتفاوض مع القيادة - أخذوا يلحون على قيادة فرع السويداء ضرورة حضور الأمين القطري الدكتور نور الدين الأتاسي والأمين االقطري المساعد اللواء صلاح جديد إلى السويداء للاجتماع مع الحزبيين وتوضيح المؤامرة وأبعادها وقرارات قيادة الحزب لمعالجتها واحتواء سليم حاطوم ومجموعته، لأن حاطوم وأغلب أنصاره هم من نفس المحافظة وتورطهم في المؤامرة خلق بلبلة فيها .
وافقت القيادة على اقتراح فرع السويداء وعلى أن يكون الاجتماع يوم 8 أيلول ، وفي هذا الشهر كانت قد بدأت الانتخابات الحزبية في القطر السوري تمهيدا لانعقاد المؤتمر القطري الثالث .
لم يكن لسليم حاطوم أي امتداد في منظمات الحزب المدنية والعسكرية، كما أن بعض الطامعين الذين تورطوا، كانوا قد تخلوا عنه ، بينما نصحه الدكتور حمدي عبد المجيد " أمين عام حزب العمال الثوري العربي " بعدم القيام بمغامرة مصيرها الفشل والاستنكار معا، كما أنه في خلوة بينه وبين الرائد شريف الشاقي في محطة البث الإذاعي بخرابو ليلة 8 أيلول تظاهر بموافقته على ما طرحه عليه الرائد شريف بالتوقف عن أي تفكير للقيام بمغامرة ما ، ولكن، كما ذكرت، كانت التأثيرات الخارجية عليه قد دغدغت له لتنفيذ ما يطمح إليه، ولذلك ضرب بكل النصائح ومحاولات الاحتواء وخلق الثقة ، وأقدم على عصيانه في مدينة السويداء، يوم الخميس 8 أيلول 1966.
في صباح يوم 8 أيلول ، مر الرائد سليم حاطوم على فرع الشرطة العسكرية الذي يرأسه الرائد عدنان دباغ ، ومن هناك انتقل إلى مبنى وزارة الدفاع والتقى مع اللواء وزير الدفاع ، ثم مع الرائد مصطفى الحاج علي ، ومنها غادر إلى صحنايا وبرفقته الرائد محمد إبراهيم العلي الذي كان قد وصل لتوه من حلب والتقاه في مبنى وزارة الدفاع ودعاه للسفر معه إلى السويداء وتناول طعام الغداء هناك بحضور الأمين القطري والأمين القطري المساعد ، ومن صحنايا رافقهم العقيد طلال أبو عسلي ، وهو من المتورطين بتنظيم فهد الشاعر / منيف الرزاز وشمله توجيه القيادة بعدم الاعتقال .
حين وصولهم إلى السويداء توجهوا ، فورا ، إلى مقر فرع المخابرات العسكرية الذي كان يرأسه النقيب عبد الرحيم بطحيش وهو، أيضا ، من المتورطين في المؤامرة ودعا هذا الأخير قادة كتائب اللواء المرابط في السويداء < منهم النقيب علي غانم ...> لتناول طعام الفطور عنده مع الرائد محمد إبراهيم العلي ، ولبى هؤلاء الدعوة ، واحتجزوا في المقر .
غادر حاطوم المقر وأجرى اتصالات مع بعض الضباط في الوحدات العسكرية بإزرع، كما اتصل ببعض الضباط في القطاع الجنوبي بالجبهة لمؤازرته والتحرك نحو السويداء .
خلال الاجتماع مع أعضاء التنظيم الحزبي في السويداء والذي حضره ، أيضا ، عضو القيادة القطرية جميل شيا ، فوجئ المجتمعون باقتحام سليم حاطوم وبعض العناصر المسلحة < عسكرية ومدنية > قاعة الاجتماع ، وبالتعاون مع بعض المتورطين من المجتمعين احتجزوا الأمين القطري والأمين القطري المساعد واقتادوا كلا منهما إلى مكان .
استطاع سائق اللواء صلاح جديد الفرار بسيارته من السويداء متجها نحو دمشق وأبلغ حين وصوله عما حدث .
حين علم وزير الدفاع بما يحدث في السويداء استدعى رئيس شعبة المخابرات العسكرية الرائد مصطفى الحاج علي الذي أكد للواء الأسد أن لا علم له بما فعله سليم حاطوم ، وحينها أمره اللواء حافظ أن يوعز للضباط المرتبطين به كي لا يتحركوا دعما لسليم حاطوم ، وبتنفيذ هذا الأمر أخذ وعدا بعدم المساس به ، و بعد انتهاء المؤتمر القطري الثالث صدر قرار بنقله إلى السلك الخارجي .
في نفس الوقت الذي تلقى فيه اللواء حافظ تلك المعلومات دعا أعضاء القيادة القطرية لاجتماع في مكتبه بوزارة الدفاع لاطلاعهم على ما يحدث في السويداء واتخاذ التوجيهات اللازمة لإدارة الأزمة .
< كنت أول الواصلين إلى مكتب اللواء حافظ ، ومع وصولي طلب من مدير مكتبه أن يرسل عناصر لإحضار " الكل... " عبدالله الأحمر وخزاعي ملي - الأول أمين فرع الأطراف والثاني أمين فرع القنيطرة - وسيعدمهما في ساحة مبنى وزارة الدفاع ، فهدأت من ثورة غضبه ، وفهمت أنهما كانا يمران عليه في مبنى أميرية الطيران بشارع مرشد خاطر ، وينقلان له أخبار سليم حاطوم ، ظن اللواء حافظ أنهما على اطلاع بما سيقوم به في السويداء ولم يبلغاه الحقيقة ، واتفقت معه على التحقيق معهما فور القضاء على العصيان ،< أكد لي المرحوم خزاعي ملي ، بعد إطلاقي من المعتقل ، أنه زار الرفيق حافظ برفقة عبدالله الأحمر مرة واحدة فقط ، بعد أن التقيا بسليم حاطوم ، وأبلغاه عن أطروحات سليم > .
التأم شمل القيادة عصر ذلك اليوم وقررت إعلان حالة منع التجول بدءا من الساعة التاسعة من مساء 8 أيلول ولإشعار آخر < تم إنهاء هذه الحالة يوم 9 أيلول > ، كما قررت وبروح المسؤولية، معالجة هذا العصيان ، وباتصال هاتفي مباشر مع الرائد حاطوم أبلغته - بناء على طلب القيادة - أن يفرج عن المحتجزين، ويسلم نفسه للقيادة، ليمثل أمام القضاء ، فلا مساومة لأنها مرفوضة تماما، والالتزام بما قررته القيادة، هي فرصته الوحيدة، وأن القيادة ستنظر بعين العطف تجاهه - كان اتجاه القيادة هو العفو عنه بعد محاكمته، ثم تعيينه في السلك الخارجي بإحدى بعثاتنا الدبلوماسية في أمريكا اللاتينية - فوافق على ذلك، ووعد بإطلاق المحتجزين وتسليم نفسه .
حاول سليم حاطوم مساومة اللواء صلاح جديد الذي رفض أن يستمع إليه أو يعطيه أي وعد ، واكتفى بإجابة واحدة " أن أي موضوع يجب أن يناقش مع القيادة ، وهو غير مخول ببحث أي موضوع " ، كما أنه سمع نفس الجواب من الأمين القطري الدكتور الأتاسي .
في الوقت الذي كانت القيادة تقوم فيه باتصالاتها مع سليم حاطوم ، حامت بعض الطائرات فوق مدينة السويداء ، كما تحركت بعض الوحدات العسكرية نحوها، بقيادة عضو القيادة القطرية عبد الكريم الجندي - ولأن بشرة الجندي شقراء نشرت بعض وكالات الأنباء أن ضابطا سوفييتيا يقود القوات العسكرية -، بهدف تطويق المدينة ، وحظر عليها إطلاق النيران والاكتفاء بالتهديد بالقوة.
وتحركت وحدة عسكرية من القطاع الأوسط بالجبهة بقيادة النقيب كاسر محمود على محور الرفيد - إزرع لمنع تحرك وحدات عسكرية من الجبهة لمؤازرة حاطوم.
مع غروب الشمس وصل حمود القباني أمين فرع السويداء إلى مبنى وزارة الدفاع وأطلع القيادة على تفصيل ما حدث وأن جهودا حثيثة تبذل لإنهاء المشكلة ، وزودته القيادة برسالة مفادها أن لا مساومة أبدا مع العصاة وما من سبيل أمامهم إلا تسليم أنفسهم .
ما إن وصلت القوات ، قبل حلول الظلام ، إلى مشارف المدينة حتى أطلق سراح الأمين القطري الذي وصل إلى مبنى وزارة الدفاع بعد غروب الشمس ، وأطلع القيادة على ما حدث وأنه لا يعلم شيئا عن اللواء صلاح جديد .
بعد أن وصل العصاة إلى الطريق المسدود ، وفشلوا في كسب أي دعم من الوحدات العسكرية - عدا دعم الملازم فواز أبو الفضل من مؤيديه والنقيب ابراهيم نور الدين وبعض الضباط من مؤيدي الفريق أمين الحافظ في معسكرات ازرع - وأدركوا أنهم أصبحوا محاصرين من القوات العسكرية ، أطلقوا سراح اللواء جديد .
وهنا تأتي الروايات على لسان العصاة من أنصار سليم - سردوها بعد عودتهم من الأردن - فإحداها ، أن الرائد حاطوم اتصل بوزير الدفاع قائلا :أنه سيحضر إلى دمشق مع بقية العصاة لتسليم أنفسهم ، ولكن وزير الدفاع حذره من الوقوع بيد عبد الكريم الجندي فيما إذا جاء بالطريق البري ، وأنه ، أي وزير الدفاع سيرسل حوامة لتنقلهم إلى دمشق ، وحينما تأخر وزير الدفاع بإرسال الحوامة ، توجس العصاة ولم يجدوا أمامهم إلا الهرب نحو الأردن .
أما الحقيقة ، وتجاوزا للروايات ، فهي أن العصاة كانوا ينتظرون نتيجة الاتصال مع المسؤولين في الأردن وحينما تلقوا الضوء الأخضر لجؤوا إليه ، وهذا ما يؤكده نبيل الشويري في كتاب " سورية وحطام المراكب المبعثرة " لصقر أبو فخر ، إذ يقول : " كان هناك خط مع الأردن ، رصدته فيما بعد ، له صلة ببعض الأشخاص من آل الأطرش ، وكان همزة الوصل مع سليم حاطوم شخص يدعى صابر المعاز " .
ورد نبأ فرار حاطوم مع بعض أعوانه، ، ومنهم من قاده تحت التهديد، باتجاه الحدود الأردنية، حيث كان بعض المسؤولين الأردنيين باستقبالهم، وتبين، بعد فرار حاطوم، بأنه أثناء اجتماعه مع بعض الضباط في 8 أيلول ، كان قد أجابهم على تساؤلهم: ما مصيرنا في حال الفشل؟ فرد عليهم: إننا مضمونون، واللقاء في الأردن وكل شيء مرتب. ومما يلفت الانتباه أن بعض المتورطين في منطقة الجبهة وعلى الحدود اللبنانية، لم يتسللوا إلى لبنان، وإنما قطعوا مسافة طويلة حتى وصلوا إلى منطقة الحمة ومنها عبروا إلى الأراضي الأردنية .
ومن الجدير بالتنويه، أن عصيان سليم حاطوم، قد تم إنهاؤه بسرعة بسبب موقف قواعد الحزب بأكثريتها وجماهير المحافظة ضد هذا العصيان، وأظهرت عدم رضاها عما يقوم به حاطوم، وتنصلت من كل تصرفاته المعادية.
كما أن بعض المتورطين الأساسيين مع الرائد سليم حاطوم ممن لم يكونوا معه في السويداء أفادوا أن الرائد مصطفى الحاج علي رئيس شعبة المخابرات العسكرية كان قد عرض عليهم الهروب إلى لبنان وتزويدهم بما يكفيهم من الأمواال ، ولكنهم رفضوا عرضه ، هذا ، خشية من اغتياله لهم أو خشية من إلقاء القبض عليهم من قبله لتدعيم موقفه وإظهار حسن نيته تجاه القيادة .
وصل الفارون إلى المقر العسكري في مدينة المفرق الأردنية ، وبعد وقت قصير من وصولهم جاء الشريف ناصر < خال الملك حسين > واجتمع مع سليم حاطوم على انفراد وابلغه ترحيب الحكومة الأردنية به ، ثم اجتمع مع بقية الفارين في نادي الضباط بمدينة الزرقاء ، ومكثوا بالنادي بضعة أيام حيث توارد بقية الضباط المتورطين ومن بينهم العقيد طلال أبو عسلي ، وأيضا بعض المدنيين .