بالطبع لم يكن المسلمون في لبنان او هؤلاء المسيحيون ومنهم الارثوذوكس، وهم الاقرب الى المسلمين في العادة، هم وحدهم الذين تأثروا بـ"تعريب" النضال الفلسطيني، وانما تأثر به الموارنة ايضا. فالثورة الكبرى بحد ذاتها، او ربما الرد البريطاني الصهيوني عليها الذي تسبب في نفور البقية الباقية، خلف تأثيرا عكسيا تماما عليهم، او على الاقل على البعض منهم الذين كانوا قد قرروا ان يقفوا بكل ثقلهم وراء الصهاينة منذ البداية. وكان لا بد ان يتعمق الانقسام الآن بين اولئك "المؤيدين للصهاينة" و"العروبيين" الذين اعتبروا انه مهما يمكن ان تكون مشاعر الموارنة الداخلية، فان عليهم ان يتخذوا الحيطة تماما في ما يتعلق بمشاعر العروبة الشاملة المناوئة للصهيونية والتي تعشش في صدور مواطنيهم المسلمين، ان لم نقل مواطنيهم المسيحيين غير الموارنة ايضاً. (...)
في البداية، ظاهرياً على الاقل، كان للاتجاه المؤيد للصهيونية اليد الطولى. ولم تكن هناك اي هيئة اكثر قبولا بذلك من الكنيسة المارونية، وبصفة شخصية من بطريركها آنذاك انطوان عريضة، الذي وجدت فيه مدافعاً قوياً. اما بين السياسيين فكان هناك اميل إدة، وهو مثقف حضري فرانكوفوني يشعر انه بين أهله في صالونات باريس أكثر مما يشعر بذلك في دواوين بيروت، وكان مخلصا متحمسا دوما، وكان يشغل في ذلك الحين منصب رئيس الجمهورية.
كانت الثورة بالنسبة الى امثال هؤلاء تبدو ردا طبيعيا بسيطا لما كان البريطانيون والصهاينة يمارسونه مع الفلسطينيين، وليس تذكيرا بما يعنيه قول المسيحيين اللبنانيين "بعد السبت الاحد": اي انه بعد ان ينتهي المسلمون من اليهود فان الدور سيأتي على "المسيحيين". وكتب احد ثقاتهم من الصهاينة يقول انهم يرون الامر على انه "دليل على ما يعنيه حكم الغالبية المسلمة"، وانهم كانوا "يشعرون بالجزع من انتصار العرب في هذه الحرب". وبصفتهم رسل مجتمع اشتهر بالتجارة فقد ابلغوه بمدى "اهتمامهم الحقيقي في امن اليهود في فلسطين وازدهارهم". وكانوا مذعورين من الخسائر التي اخذ تجارهم يتكبدونها بالفعل، وربما اكثر من ذلك بسبب حملة صحافية صهيونية تدعو اليهود الى مقاطعة مضادة للبنان - وخاصة في مجال صناعة السياحة المجزية التي يسيطر عليها الموارنة الى حد كبير ويعتزون بها.
غير ان نفوذ المفتي المتواصل في الدولة اللبنانية وتغلغله فيها وفي الجسم السياسي اللبناني كان يمثل مصدر ازعاج لهم- وكان بصورة شخصية جداً بالنسبة الى ادة مثيرا للحنق من اذ كلما حاولت حكومته منع حركة الرجال والاسلحة عبر الحدود، كانت الصحافة البيروتية تتهمه بالتواطؤ مع العدو. وفي الخلفية كانت هناك مخاوف متنوعة مشابهة. وكانوا يشعرون بالقلق من انه عندما يحقق لبنان استقلاله، مثلما كان يجري في دول عربية اخرى، فان فرنسا لن تبقى هناك للدفاع عن رعاياهم المحميين الموارنة، وان سوريا القومية ستلح في مطالبتها بتحرير واستعادة مقاطعاتها السليبة التي صارت لبنانية الآن، او ان يتمكن السكان المسلمون الذين جاءوا معهم، بنسبة توالدهم الاعلى بكثير، من التفوق على المسيحيين الذين كانوا يمثلون غالبية ضئيلة للغاية في عدد السكان الاجمالي.
ما كاد إدة يتولى الرئاسة حتى وضع امامه مبعوثٌ من طرف وايزمان مسودة "معاهدة صداقة" شاملة، كانت حتى ذلك الوقت تمثل اوسع الخطوات في تطبيع العلاقات الللبنانية- الصهيونية. واعترفت (مسودة لمعاهدة تلك)، بدولة يهودية مستقبلية في فلسطين - حتى قبل ان يتحدث البريطانيون او الصهاينة صراحة عن ذلك الامر - وتكهنت بتحالف سياسي وعسكري بينها وبين لبنان المستقل. وقد وافق إدة عليها بحماس بصفة شخصية على الاقل. لكنها لم تلبث ان الغيت بقرار من المفوض السامي الفرنسي، الذي قدر، وكان مصيبا في تقديره، ان مثل هذا التشجيع العلني لتطلعات الصهاينة في فلسطين سيكون امرا بغيضا بالنسبة الى جميع المسلمين ومعظم المسيحيين وكثير من الموارنة "العروبيين" ايضا.
ادة يهنىء "اول رئيس للدولة اليهودية المستقبلية"
في ذلك اليوم ذاته، 23 تموز (يوليو) 1937 الذي اصدرت فيه لجنة تحقيق بريطانية تقريرها في ما يتعلق بالوضع في فلسطين، واقترحت في سياقه - وهو ما اغضب العرب - ان يتم تقسيمها الى دولة يهودية واخرى عربية، التقى إدة مع وايزمان في باريس واعلن "انه طالما ان تقرير بيل أصبح مستندا رسميا، فانه يشرفني ان اهنئ اول رئيس للدولة اليهودية المستقبلية".
وفي الوقت الذي روَج فيه وايزمان بكل اهتمام - وان كان من دون نجاح في النهاية - لمشروع لتوطين لاجئين يهود من المانيا هتلر في لبنان، واعتبر كثير من اللبنانيين، وبصفة رئيسية الموارنة منهم، ان ذلك سيحمل اليهم فرص عمل، فان البطريرك عريضة دعا جميع الكنائس المارونية الى الصلاة من اجل اليهود الاوروبيين - وعرض ارضا بطريركية قرب بيروت للبيع على المنظمة الصهيونية. ومن داخل معبد يهودي في بيروت في وادي ابو جميل، اعلن رئيس اساقفة بيروت اغناس مبارك، وهو اكثرهم جرأة في تأييد الصهيونية، ان في لبنان متسعا لجميع اليهود الذين لم يستقبلهم عرب فلسطين بمودة... "نريد القول لكم اننا نرحب باليهود....وأنصب نفسي الان رئيس اساقفة لليهود". وهو لم يكن يرحب بهم كصهاينة او حتى كيهود، لكنه وغيره كانوا يرحبون بهم باعتبارهم مجرد غير مسلمين، اوروبيين "من نوعية متفوقة" لطرد المسلمين ولايجاد توازن ديموغرافي بين الطوائف لما فيه صالح لبنان المسيحي المنكمش.
الا ان ما كان يمثله عريضة وإدة ومبارك لم يدم طويلا. اذ لم يكن ذلك في الواقع اكثر من علامة غير دائمة بالنسبة الى جيل باكمله نتيجة النفوذ الصهيوني في لبنان لتأمين "ائتلاف اقلية" باي شكل من الاشكال داخل الدولة العربية التي ظلت دوما الاكثر تبشيراً بتأمينه.
وفي بقية الفترة السابقة للدولة - وبطبيعية الحال لمدة طويلة بعد قيام دولة اسرائيل - كان لا بد لهم من القبول بـ"العروبيين" من أبناء الطائفة المارونية الذين سرعان ما حققوا تفوقهم على "مؤيدي الصهيونية" ووطدوه بعد ان ساعدتهم في ذلك جزئياً انعكاسات الهزيمة الفرنسية في الحرب العالمية الثانية على الشرق الاوسط. وجاء الاختراق الحاسم الذي حققه "العروبيون" في 1943 مع استقلال لبنان رسمياً وتولي بشارة الخوري، منافس ادة القوي، منصب الرئاسة واقراره التحالف الوطني الذي كان الحل الوسط في اقتسام الطوائف للسلطة والذي وسم الدولة الوليدة، بحكم طبيعته، بصفة القومية العربية المناوئة للصهيونية. ولم يكن الخوري اقل قلقا من إدة تجاه وضع الطائفة التي ينتمي اليها ضمن اطار هذا التحالف. الا انه، وهو الفرنسي الثقافة المتمكن من الثقافة العربية، كان ينظر الى فرنسا، خلافا لإدة، ليس كضامن للبنان المستقل ذي الغالبية المارونية، وانما باعتبارها عقبة امام التعاون المسيحي - الاسلامي الذي يمكنه وحده توفير ذلك الضمان.
وهكذا، فان لبنان تحت حكم الخوري تبنى رسميا سياسة مناوئة للصهيونية. وقام بتنفيذها مسؤولون مناوئون للصهيونية من مسيحيين ومارونيين. وانتشرت مشاعر الدولة المناوئة للصهيونية من دون عوائق،
فكانت لا تدعو الى معارضة المشروع الصهيوني في فلسطين فحسب، بل ايضا الى مقاومة خططه المحتملة في لبنان. وصدرت قوانين جديدة حظرت تماما، وتشير في أبعادها الى ان الصهيونية هي الهدف الحقيقي والرئيسي، شراء الاجانب لاراض لبنانية. واصبح لبنان عضوا مؤسسا في الجامعة العربية. وفي 1946 شارك في رئاسة اول القمم العربية التي ظلت لعقود مقبلة، تضع دوما فلسطين، "حالة فلسطين الطارئة الدائمة"، على قمة جدول اعمالها.
وفي 1946، وصف جميع الشهود اللبنانيين الذين مثلوا امام لجنة تحقيق انغلو اميركية، من مسيحيين ومسلمين، بانهم اعربوا عن "معارضة عنيفة للصهيونية، وعن تصميم على مقاومتها مهما كان الثمن، وعن رفض النظر في موضوع هجرة اي يهودي الى فلسطين". ولم يلبث السفير اللبناني الرسمي في الولايات المتحدة شارل مالك، وهو ارثوذوكسي المذهب، ان نصب نفسه بالفعل باعتباره "الناطق غير الرسمي في الغرب باسم المعارضة العربية لاقامة دولة اسرائيل" . وفي المجمل، كتبت لورا زيترين ايزينبيرغ، وهي مؤرخة ترتبط بعلاقات صهيونية-مارونية، تقول ان "لبنان المسيحي وهو المفهوم الذي ظل يوجه سياسة الوكالة اليهودية تجاه لبنان، يتصرف بشكل واسع كاي بلد عربي اخر". ولا يعني ذلك ان المؤيدين للصهيونية لم يقاوموا. ونظرا لشدة ما شعروا به من ذعر تجاه احتمال استيعاب لبنان داخل دولة عربية اكبر، رغم تطمينات عربية بعكس ذلك، فانهم سعوا الى هز اركان اول حكومة منتخبة ديمقراطية ومستقلة.
وقد حاول إدة مرارا اقناع الوكالة اليهودية بانه يستطيع بدعم مالي منها العودة الى كرسي الرئاسة في الانتخابات المقبلة، وانه في هذه المرة سيتمكن بصورة نهائية من التوقيع على معاهدة صداقة مفتوحة معها. ويبدو ان البعض في "الوكالة" كانوا يعتبرون قدراته غير واقعية، وهو ما كان يراه هو ايضا. بل ان خبيرها في الشؤون اللبنانية، الذي اقام في لبنان لفترة طويلة وكان موفدا بصورة منتظمة للقاء المؤيدين للصهيونية، خطا الى ابعد من ذلك ليشدد على ان "الرأي الاجمالي اللبناني يشعر بشكوك وقلق تجاه بداية قيام امبراطورية عربية تهدد وحدة الاراضي اللبنانية" - وهي مبالغة واسعة للغاية حتى وان كان يشير الى المسيحيين وحدهم في البلاد.
وقد حث بعضهم لبنان على نزع "قناع العروبة الاصطناعي الذي فرض عليه من الخارج". بينما لاحظ آخرون في "الوكالة" انه كلما ازدادت خسارة المؤيدين للصهيونية ازدادت نظرياتهم انتعاشا بل واثارة". ومن بين تلك الافكار ان على الموارنة الان التخلي عن فكرة لبنان الكبير، وان يسلموا الى سوريا بعض المناطق التي تقطنها غالبية مسلمة على الاقل والتي كانوا سابقا قد صارعوا من اجلها. وكانت لدى إدة - الذي لم يكن حقا من المؤمنين بلبنان الكبير اولا وقبل كل شيء - نزوة أحدث واكبر وقعا من ذلك. اذ انه لم يقترح تحويل تلك المناطق الى سوريا، لكنه رأى ان لبنانَ مسيحياً مصغراً بمثل ابعاده السابقة يجب ان يتخلى عن بعض الاراضي التي لم يعد مرغوبا فيها الى الدولة اليهودية التي لم تتشكل بعد. ويمكن لها ان تضم صيدا وصور والـ100 ألف مسلم الذين يعيشون هناك. وعندما وضع الامر بين يدي وايزمان لم يلبث هو نفسه ان فغر فاه بسبب ما دعاه "الهدية التي تلدغ". وعلى اي حال فقد كانت الكنيسة المارونية في شخص البطريرك عريضة هي التي حملت الارتباط الماروني - الصهيوني في فترة ما قبل الدولة الى اوجه. فقد توجه عريضة في العام 1946 الى مدينة القدس، حيث وقع بالنيابة عن الكنيسة والجالية المارونية اتفاقاً مع وايزمان الذي وقع باسم الطائفة اليهودية. وقد تضمن الاتفاق اعترافا متبادلا: بدولة يهودية ذات سيادة في فلسطين وبطابع مسيحي للبنان. وتعهدت الكنيسة - بافتراض غير عادي - انها بمجرد ان تحقق السيطرة السياسية في البلاد، ستجعل المعاهدة جزءا لا يتجزأ من سياسة الدولة اللبنانية، كما انها ستقوم من بين امور اخرى بتسهيل هجرة اليهود الى فلسطين عبر لبنان".
"صباح الاحد، 13 نيسان (ابريل) 1975، حضر "الشيخ بيير" (الجميل، مؤسس حزب الكتائب) تكريس كنيسة جديدة في شارع يحمل اسمه في ضاحية بيروت المسيحية الفقيرة الكثيرة السكان، عين الرمانة. وقد توفي اربعة من رجال ميليسشيا الكتائب، بما في ذلك احد حراسه، في شجار اندلع بينهم وبين ركاب سيارتين عابرتين مسلحين مجهولي الهوية. وفي ذلك الصباح ذاته، كان لاجئون فلسطينيون يحضرون احتفالاً من نوع مختلف جداً: الذكرى الاولى لهجوم فدائي ناجح على غير العادة على بلدة كريات شمونا الاسرائيلية. وكانت مجموعة منهم في طريق العودة الى مخيم تل الزعتر الواقع في الجانب الشرقي المسيحي من المدينة. وكان عيهم ان يمروا عبر ضاحية عين الرمانة للوصول الى هناك، وبينما كانوا يفعلون ذلك، نصب مسلحو الكتائب كميناً للباص الذي كانوا فيه وقتلوا بالرصاص سبعةً وعشرين راكباً غير مسلحين، بما في ذلك نساء واطفال.
كانت تلك "سراييفو الحرب الاهلية اللبنانية". (...).
يقول مؤلف كتاب "احذروا الدول الصغيرة: لبنان ساحة معارك الشرق الاوسط" ديفيد هيرست ان اشتباكات وحوادث قتل كثيرة اعقبت ذلك ومنها، على سبيل المثال اطلاق رجال ميليشيا النار في آذار (مارس) 1970 على موكب جنازة قيادي عسكري فلسطيني وقتلهم عشرة فدائيين فلسطينيين. وكرر الكتائبيون بعدئذ هجماتهم على مخيمات اللاجئين، خصوصاً مخيم تل الزعتر.
وفي ايار (مايو) 1972 رعت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطينين مذبحة سياح في مطار تل ابيب نفذها انتحاريون من الجيش الاحمر الياباني. وبعد ذلك صعَدت اسرائيل حربها ضد لبنان باعتباره "مضيف القتلة والارهابيين" و"بدأت تتحدث عن احتلال اراض لبنانية والبقاء فيها الى اجل غير مسمى". والواقع انه في اقصى الجنوب، كان ضابط لبناني هو الرائد سعد حداد، قد انتقل الى جانب اسرائيل.
وفي نيسان (ابريل) 1973نزل كوماندوز اسرائيليون من البحر على شاطىء بيروت ووصلوا الى وسط المدينة بسيارات وقتلوا ثلاثة من كبار القادة الفلسطينيين وعادوا ادراجهم كما جاؤوا. ولم يفعل الجيش اللبناني شيئاَ لوقفهم. وطالب رئيس الوزراء السني صائب سلام بطرد قائد الجيش لكن رئيس الجمهورية الماروني سليمان فرنجية رفض طلبه فاستقال هو (سلام). وفي تنديد بـ"التواطؤ نظرياً وعملياً" بين الحكومتين اللبنانية والاسرائيلية، وصف الزعيم الدرزي كمال جنبلاط لبنان بأنه "دولة بلا شرف".
وقتل 150 فلسطينيا ولبنانيا من المسلحين والعزل من السلاح في اشتباكات في العاصمة. واستخدمت طائرات سلاح الجو اللبناني لقصف مقار للفلسطينيين في مخيمات مثل صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة.
وفي آذار (مارس) 1974، مع هرب القرويين الشيعة باعداد كبيرة الى حزام البؤس في العاصمة، اطلق رجل الدين اللبناني الشيعي الامام موسى الصدر حركة المحرومين في مهرجان ضخم في مدينة بعلبك ووصف السلاح في كلمته هناك بانه "زينة الرجال". وانتجت معسكرات التدريب ميليشيا امل الشيعية التي تحولت في نهاية الامر الى الحزب السياسي الرئيس للطائفة الشيعية "المسحوقة لكن الواعية".
في شباط (فبراير) 1975 اطلقت النار على معروف سعد، وهونائب ناصري مسلم سني من مدينة صيدا فاصيب بجرح قاتل عندما صارت المظاهرة التي كان يقودها وجهاً لوجه امام وحدات من الجيش عينت لمرافقتهتا. وكان المتظاهرون يحتجون على احتكار لصيد الاسماك منح للرئيس السابق الماروني كميل شمعون، وهو احتكار بدا انه يمثل خطراً جسيماً على ارزاق آلاف من صيادي الاسماك التقليديين في صيدا، والى حد كبير في كل مكان آخر. وانضم فدائيون فلسطينيون من مخيم عين الحلوة القريب، اكبر مخيمات لبنان، الى حلفائهم المسلمين اليساريين في اشتباكات دامية مع الجيش. ومثلت الحادثة اختلاط العناصر الاجتماعية-الاقتصادية والطائفية والفلسطينية في مزيج متزايد الخطورة.
كانت حرباً اهلية، ولكن اقليمية ايضاً:
لبنان ساحة معارك الشرق الاوسط
يتحدث هيرست عن استمرار الاقتتال والاشتباكات التي كان يعقب كل موجة منها اتفاق لوقف اطلاق النار ما يلبث ان ينهار ويقول ان تلك الاتفاقات تعد بالمئات وكانت تمتد لايام او بضعة اشهر او سنوات او ساعات قليلة قبل الاتفاق الاخير الذي صمد، اي اتفاق تشرين الاول (اكتوبر) 1990. ومرت الحرب الاهلية خلال السنوات الخمس عشرة التي استمرت فيها عبر مراحل عدة مميزة، وعبر اعقد التبدلات الجغرافية والاستراتيجية والطائفية. ولكنها انقسمت بصورة عامة الى قسمين. الاول هو "الفلسطيني" الذي انتهى بمغادرة ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1982، بينما كانت السمة الرئيسة للثانية صعود حزب الله، الحركة المقاتلة المدعومة ايرانياً، والمتشددة اسلامياً والمناهضة لاسرائيل.
منذ البداية كانت الحرب حرباً اهلية جداً، قاتل فيها اللبنانيون بعضهم بعضاً. واما الامور التي اقتتلوا بسببها، اي تلك المسائل المتعلقة بالهوية والانتماء والتي اربكتهم منذ ميلاد بلادهم، وسيطرة الموارنة على الآخرين، والاصلاحات التي سعى اليها الآخرون لتصحيح هذه الاحوال - هذه كلها، وكثير غيرها، كانت لبنانيةً كلياً ايضاً.
ولكن الحرب كانت، بصورة مباشرة او بالوكالة، اقليميةً ايضاً. ومن الاكيد ان اللبنانيين قدموا الاسباب الداخلية لها. ولكن التفاعل بين بلدهم المعقد والمنطقة غير الاقل تعقيداً التي ينتمي اليها كانت حادة وخِلقية الى درجة انها - مثل المواد الكيماوية المزدوجة التي لا تنشط الا عندما يلامس عنصر منها العنصر الآخر - وما كانت لتشكل في الواقع سبباً بالمرة بدون مدخل من الخارج. كان وقع مدخل العوامل الاقليمية - خصوصاً مجيء الفلسطينيين - على العوامل المحلية السابقة لها هو الذي فجر الصراع، تماماً مثلما كانت العوامل الاقليمية والدولية هي التي وضعت نهايةً لها في آخر المطاف. وقد كان لبنان دائماً ساحةً لمعارك الآخرين السياسية او الدبلوماسية. والآن، مع "كون الحرب" - حسب النظرية الكلاوسفيتزية - "ليست سوى استمرار للسياسة باستخدام وسائل اخرى"، فقد صارت ايضاً حربهم العسكرية والعنيفة بالمعنى الكامل.
لم يكن الصراع اذن متعلقاً بمستقبل لبنان وحسب، وانما بمستقبل الشرق الاوسط برمته، وقبل اي شيء آخر بالمكانة التي سعت اسرائيل الى شغلها ضمنه. فبعد ثلاثين سنة على ظهور الدولة اليهودية الى حيز الوجود، كان نوع تلك المكانة لا يزال المسألة المركزية غير المحسومة بالنسبة الى المنطقة، وكانت لا تزال، كما وصفها المؤرخ البرت حوراني في وقت مبكر جداً "المشكلة العامة التي تتطفل على كل علاقة سياسية في الشرق الاوسط". ومنذ ان اوجد رعاة اسرائيل الغربيون هذه المشكلة، سعوا بدون توقف الى حلها. ولكن، بحلول منتصف سبعينات القرن العشرين، صار كل ما تشير اليه "عملية السلام"، كما تسمى، مجرد "عمليةً" الى حد كبير - اي مقداراً كبيراً من الجدل، والعناد والتأخير - يوازيه قدر ضئيل جداً من التقدم الملموس نحو هدفها المستحيل الى حد كبير - اي قبول اسرائيل من جانب عالم عربي يرفضها غريزياً. لم تكن هناك بعد معاهدة سلام، او اعتراف رسمي بوجود الآخر بين اسرائيل واي من جاراتها، ولم يبد ان ذلك سيحدث ابداً. كان هناك مجرد مجموعة من الترتيبات الموقتة لاغراض محددة - تتراوح بين اتفاقات الهدنة الاصلية وطائفة من الاتفاقات التكميلية التي ولدها المزيد من الاعمال القتالية - وقد "احتوت" هذه الترتيبات المشكلة، ولكنها لم تنجز شيئاً يستحق الذكر على طريق حلها. وكان لا مفر تقريباً من انه اذا لم يستطع العالم الخارجي تحقيق ذلك بوسائل سلمية، فان اسرائيل ستسعى إن عاجلاً او آجلاً لعمل ذلك بوسائل العنف التي اعتمد عليها المشروع الصهيوني دوماً. واذا لم يمكن منح القبول العربي طوعاً، فلا بد من انتزاعه بالقوة. وكان لبنان الميدان الذي سيحدث فيه الآن ما لا مفر من حدوثه.
الفلسطينيون فجروا الحرب، لكن اسرائيل شنتها في الحقيقة
لذا ليس من المفاجىء ان اسرائيل كانت، من بين جميع اللاعبين الخارجيين في الحرب، اللاعب الرئيس بأي معيار، سواء مقياس طموحها او الدمار الذي سببته. وبينما يمكن ان يكون الفلسطينيون هم الذين الذين فجروها، فان اسرائيل هي التي جعلتها حرباً في الواقع. والآن، بعد طول انتظار، حانت فرصتها التاريخية. الآن ستتشرع في تنفيذ ذلك المخطط الكبير، تلك الخطة "الرائعة"، التي تحدث عنها دائماً مؤسسها، بن غوريون، ولكنه لم يحققها. ستتقوم بتحويل "لبنان المسيحي" الى حليف "طبيعي" وسمته اسرائيل دوماً بهذه الصفة، ثم تقوم - من خلال تأثير "الهامش" على "المركز" - بتحويل المنطقة كلها ايضاً، وتفكيك ما بقي من شرق اوسط القوميين العرب، متحدةً في عدائها تجاه القادم الجديد، مستبدلة به شرق اوسط الصهاينة، وهو شرق اوسط تعددي، و"موزاييك" من الاقليات. وبين هذه الاقليات، كانت اسرائيل ستبرز قويةً بصورة فريدة الى حد انها ستفرض سيطرتها شبه الامبريالية على جميع الآخرين.
كان خصوم الاسرائيليين الرئيسين هم ذلك اللاعب الخارجي الآخر على المسرح اللبناني، اي الفلسطينيين. في بادىء الامر، كانت المقاومة الفلسطينية قد جاءت الى لبنان لتقاتل، وفقط لتقاتل، الاسرائيليين. ورسمياً، كانوا ما يزالون متمسكين بـ"التحرير الكامل" و"الكفاح المسلح" كوسيلتهم الوحيدة لتحقيقه. وفي هذا، اي تشددهم المستمر، كانوا ما يزالون، إن جاز التعبير، ابناء حرب 1967، ورطة العروبة التي اكملتها والراديكالية التي تسببت في ظهورها. ولكن في واقع الامر، بينما كانت اسرائيل تزداد طموحاً وعدائيةً وتطرفاً، كان الفلسطينيون يزدادون اعتدالاً، مقارنةً باهدافهم الاصلية.
في الحرب العربية-الاسرائيلية الرابعة، حرب تشرين الاول (اكتوبر) 1973، وهي الوحيدة حتى الآن التي بدأها العرب، ولس اسرائيل، بصورة لا نزاع فيها - لم تخرج مصر وسوريا منتصرتين. وعلى العكس، هزمت سوريا بوضوح، وكانت مصر قريبةً جداً من تكبد هزيمة. ولكنهما كبدتا اسرائيل صدمةً استراتيجيةً وسياسية شديدة، وبالتالي الحقتاها ايضاً بالولايات المتحدة، صديقتها وحاميتها الدائمة. وبهذا فان النظام العربي الرسمي - خصوصاً اجزاءه القومية التي كانت "ثورية" في وقت من الاوقات - الذي الحق العار بنفسه في 1967 حقق تعافياً جزئياً وكذلك تحولاً كبيراً لصالح العرب في ميزان القوى الاقليمي والدولي. لذا قرر العالم العربي استغلال ميزان القوى الجديد لا لمواصلة الصراع، وانما لانهائه. او، على الاقل، هكذا قررت "قوته الكبرى"، مصر. وباستثناء "الراديكاليين" او "الرافضين" مثل العراق وليبيا، صادقت الدول الاعضاء في الجامعة العربية كلها على قرارها. والقت هذه الدول بنفسها في "عملية السلام" النشيطة مجدداً التي ترأستها الولايات المتحدة بصورة حصرية تقريباً، ممثلة بشخص الدكتور هنري كيسنجر.
وسعى الفلسطينيون الآن الى ادخال نفسهم في العملية ايضاً. او، بعبارة ادق، سعى عرفات وقيادة "فتح" الممثلة للتيار العريض الى عمل ذلك. ذلك ان كان لهم ايضاً "رايكاليون" و"رافضون"، بقيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين برئاسة حبش، والذين احتجوا صراخاً على ذلك.