تضم صفحات كتاب أدونيس <<المحيط الأسود>> مجموعة من المقالات والدراسات والأفكار والشذرات، التي كتبت في فترات متباعدة نسبياً، يمتد بعضها إلى النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين المنصرم، لكن أغلبها يعود إلى فترة الثمانينيات والتسعينيات وصولاً إلى عام 2004 المنصرم.
ومن غير شك فإن اختيار أدونيس <<المحيط الأسود>> عنواناً لكتابه الذي بين يدينا، هو فعل مقصود ومدروس، حيث يطاول الاسم محيطاً عربياً، يجمعه السواد والتردّي والانهيار، وقد يمتدّ كي يطاول محيطاً أكبر، ويجمع تحت مسمّاه أقاليم أخرى في عالم اليوم. وربما يخرج مبدأ التسمية من الجغرافيا إلى أقاليم معرفية أخرى تخص مسائل الدين والهوية والتراث والحاضر.
ومواضيع الكتاب هي مواضيع جديدة ذات جذور قديمة، مثل قراءة النص الديني، والعلاقة مع اللغة، والعلاقة مع الآخر، وأزمة الهوية، والذات، والإرهاب، والحجاب، واحتلال العراق، والتقنية، والعولمة، وعلاقات الشرق بالغرب، وغيرها كثير، حيث يعيد أدونيس تناول هذه المواضيع التي سبق تناولها الفكر العربي منذ بداية القرن العشرين المنصرم ولم ينته بعد من إعادة طرحها إلى يومنا هذا. مع أن مفهومات، مثل <<التراث>>، <<الأصالة، <<الأصيل>>، <<الدخيل>>، تكشف عن الإيديولوجي السلطوي في الفكر العربي المعاصر والحياة العربية، ولا تكشف عن الإبداع وحركيته. ذلك أن الإبداع لدى جميع الشعوب وفي جميع العصور، لم يكن اجتراراً للذات، بل على العكس، كان تفاعلاً مع الأخر، عطاءً وأخذاً، والإبداع جوهرياً هو هذه الحركة الدائمة، من تلقيح الذات على نحو خاص يكفل للذات تميزها عن الآخر وخصوصيتها.
وينطلق الكتاب في ترحاله المعرفي والفكري من <<تدين السياسة، دنيوية اللاهوت>>، وفيها نعثر على مفاتيح اللغة، وسلطة الأصل، ثم يصل إلى <<الغرب العربي>>، لينظر في الصدمة، والنظرة، والعولمة الأميركية والمدينة العربية المعطلة، ثم يتوقف في أفقين: <<الأفق الثقافي العربي>>، و<<أفق بيروت>>، ويختتم ترحاله في <<شذرات>> لا تبتعد عن السياق المعرفي والفكري للكتاب. وهذا الترحال يرتبط أشد الارتباط مع كتابات أدونيس السابقة، ومع سياقات محيطية، عربية وعالمية، حيث يدعو أدونيس إلى مساءلة الأصول التي نصطلح على تسميتها <<التراث>>، لأن مسألة التراث، أي مسألة الارتباط به أو التمرد عليه، إنما هي مسألة سياسية. فهي قضية السلطة لا قضية المبدع. والتراث، في المنظور الذي يُدرس به اليوم، وفي طرق الدراسة، هو تراث السلطة، وهذا المنظور وهذه الطرق تدعم وترسخ النظام الثقافي الذي تنهض عليه وبه السلطة. وعليه يطالب أدونيس بقراءة الأصول قراءة نقدية، ذلك أن <<المشكلة الحقيقية تبدأ بقراءة ما اصطلح على تسميته ب<<الأصول>> قراءة نقدية، لا بقراءة القراءات الماضية لهذه الأصول>>، لكن مثل هذه القراءة التي يطالب بها محفوفة بالمخاطر، عربياً وإسلامياً، ولنا عليها أمثلة عديدة العديدة التي لحقت بمفكرين ومثقفين، لا تبدأ تلك الأمثلة من مصطفى عبد الرازق ولا تنتهي عند نصر حامد أبو زيد وسواهما.
السلطة والمعرفة
ويعتقد أدونيس بأن قراءة النص الديني هي قراءة إيديولوجية بحيث تصبح المعرفة سلطة قاهرة، وبحيث تتماهى السلطة بالمعرفة الكاملة، وبالتالي يتراجع التأويل، ويسوّغ العنف، وتتعدد المذاهب المنغلقة. وبما أن قراءة النص الديني الإسلامي دينية دنيوية، فإن المقدس والدنيوي يتبادلان موقعهما، ويصبح العنف نفسه، في بعض الحالات، دينياً مقدساً. وبما أن الثقافة الإسلامية قلّما عرفت بحسب التأويل السلفي عذاب الأسئلة أو الشك ومتاهاته أو الرفض وأبعاده، فليس أمامها غير اليقين وطمأنينة النفس. فكل مرتد مقتول، وهذا ما حصل فعلا في حروب الردة. والذاتية هنا ذائبة في الجماعة الى حد ان خروج الذاتية الى دين آخر أو الى اللاتدين يعد خروجاً من الأمة نفسها. ولذلك يتساءل أدونيس: <<كيف يحلل علم النفس العربي فرداً لا ذاتية له أو ذاتاً لا يُنظر إليها ولا تعيش الا بوصفها موضوعا>>.
وتوهم الهوية التي تنهض على الفصل، بالاستمرارية، والثبات واللاتغير، كما توهم تبعاً لذلك بالتماسك والوحدة، والتميز عن الهويات الأخرى، ولكن أدونيس ينظر إلى الهوية بوصفها مشروعا <<يبنى في العمل، وفي الإبداع، وفي التفاعل والحوار>>، بمعنى ما فإن الهوية ذات طابع كوني. وإن كان طموح الذات في الماضي أن تكون نفسها، فإن من المؤكد أن طموحها الأعلى اليوم هو أن تكون الآخر>>. ذلك أن الهوية ليست مجرد وعي، وليست المعلن وحده، وليست المتحقق وحده، وليست المتواصل وحده، وإنما هي التفاعل المتحرك أبداً، بحيث يمكن القول إن الهوية ليست في ما يثبت بل في ما يتغير، وبتعبير آخر، الهوية معنى لا صورة له، أو معنى في صورة متحركة دائماً. فالهوية لا تتطابق مع أية تجربة محسوسة، كما يقول ليفي شتراوس. إنها تتجلى في التفتح لا في التقوقع، في التفاعل لا في العزلة، في الإبداع لا في الاجترار.
أدلجة اليقظة
ويضع أدونيس ما عرف باسم <<الصحوة>> أو <<اليقظة>> الإسلامية، منذ بداياتها، في إطار العلاقات الإيديولوجية والدولية التي أحاطت بها، استجابة لخطط الاستعمار الجديد، أو للهيمنة ذات الطابع الإمبراطوري كما تتمثل في الولايات المتحدة الأميركية، سياسة واستراتيجية. وتضمر هذه الاستجابة قبولاً باستخدام الإسلام وسيلة لانتصار المعسكر الرأسمالي، وبالتالي وجد الغرب الأميركي في هذه <<اليقظة>> تسويغاً للعمل على إشعال حروبه، وتنفيذ مخططاته، في مناخ تسوده <<نكهة>> دينية خصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من أيلول.
ويمتد التساؤل فيما إذا صار الإسلام بفعل هذه <<اليقظة>>، شاء أو أبى، وقوداً في أفران النزعة الإمبراطورية الجديدة التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية، ذلك أن الحرب التي يشنها مسلمو هذه <<الصحوة>> على الولايات المتحدة الأميركية، هي موضوعياً وعملاً حرب إلى جانبها، وفي مصلحتها وفقاً لميزان القوى العالمي، والاستراتيجيات البعيدة المدى. وباعتبار أن الإسلام كان دائماً يقظاً، فإن ما نراه اليوم ليس <<يقظة>>، بل هو أدلجة لليقظة المتواصلة، وهو نوع من تغطيتها وحجبها، والانحراف بها نحو اتجاهات سلطوية عنفية. وبالاستفادة من جون بودريار، فإن الحادي عشر من أيلول 2001، لم يكن إلا مقدمة لمسرح يسمّيه أدونيس <<مسرح الشر>>، قياساً على مسرح القسوة ل<<آرتو>>. وتغدو السياسة الأميركية تبشيراً بهذا المسرح، والحرب ممارسة تمثيلية لتعميمه كونياً، وكأن الحرب، كما تتوهم هذه السياسة، هي الحل الأكثر سهولة لمشكلة الشر. لكن بما أن الحرب لا تقدر أن تتغلب على الشر، لكونها هي نفسها شراً، فإن الحرب الأميركية ليست إلا نوعاً آخر من التأسيس لشقاء العالم. وحين أسدل الستار عن خشبة المسرح، سمعنا جميعاً الصوت الذي خرج منذراً، يفتتح التمثيل: <<يا شعوب العالم، ان ممثل الشعب الأميركي، أعلن الحرب على الشر. وأطلب منكم جميعاً أن تنخرطوا فيها ممثلين إلى جانبي. وإلا فأنتم، خارجاً، ضدي>>، ثم خرج ستون مثقفاً أميركياً برسالة إلى العالم، يمتدحون فيها قرار الحرب. ويطالبون بالانخراط في الحرب ومسرحها، مؤكدين على ضرورتها، بوصفها ضرورة أخلاقية للرد على العنف والكراهية واللاعدالة.
لكن التجربة التاريخية، والراهنة، تثبت أن مجرد اللجوء إلى <<القوة المسلحة>> بحجة إقامة العدل وعدم الاعتداء، إنما هو، عملياً، ظلم واعتداء، ذلك أن الإرهاب <<فردي>> بمعنى أنه يستحيل أن يكون شعبياً عاماً يمارسه كل فرد في الشعب. ويستحيل أن يمارس الإرهاب شعب بكامله، او بلاد بكاملها، ولهذا لا يمكن أن تكون القوة المسلحة التي تحتل بلداً وشعباً من أجل القضاء على الإرهاب، إلا قوة ظلم وبطش، ولا علاقة لها بالكونية والإنسانية.
وإذا كان الإرهاب مسألة كونية، فهو يهم كل شعوب العالم. غير أن الخطاب الأميركي يشير إلى أن أميركا وحدها معنية به، وهي وحدها تعرف كيف تحاربه، متى شاءت وأين شاءت وكيفما شاءت، وهذا عائد إلى سيطرة الولايات المتحدة الأميركية أو روما الجديدة التي تحتاج الى يسوع جديد يقلّم اظافرها ويدجّن غرائزها الوحشية، ذلك أن الخطاب الاميركي يميّز بين البشر واصفاً بعضهم بأنه يمثل الخير، وبعضهم يمثل الشر. وهو تمييز يخرج هؤلاء من دائرة الانسانية ويحررهم من حقوقهم بوصفهم بشراً. ولعل الحاجة ماسّة الى نهضة جديدة تشارك فيها اوروبا وشعوب العالم الثالث فتعيد التأسيس لعالم إنساني منفتح وخلاّق.
بالمقابل، فإن التأمل الشامل في البنية التاريخي السياسية الاجتماعية، يفضي إلى معرفة الظاهرة التي أنتجت الديكتاتورية في التربة العربية الإسلامية، فمستبد مثل صدام حسين ليس هو من أنشأ العراق، وإنما العراق هو الذي أنشأه، لذا يتساءل أدونيس عن هذا البلد الذي يتيح نشوء نظام وحشي مثل النظام الصدامي. فالمشكلة اذن في الشعب الذي يقبل الاستبداد او يسوّغه لأسباب عديدة تعود الى بنية الذهن ذات البعد الواحد. فلا عجب ان حارب النظام السابق الابداع في مختلف تجلياته ورسّخ سلطوية الثقافة وثقافة السلطة، من غير ان ننسى سلطة القبيلة والعشيرة والولاء المذهبي الايديولوجي. من هنا تأتي السخرية من الشعراء والكتاب الذين كانوا يتقاطرون على <<مرابد>> النظام، ويتغنون ببطولاته وأمجاده وانجازاته من <<أم المعارك>> الى <<قادسياته>> إلى <<حلبجاته>>، ومختلف معاركه الصغيرة والكبيرة. غير أن تعقد نظام الحكم ونوعية أجهزة استخباراته والاسلحة المتقدمة قد يحولان دون ثورة الشعب، تلك الثورة التي كانت أكثر سهولة في زمن السيف والرمح. أما اليوم فإن غياب الحركية الإبداعية الحرّة في الشعب هو ما يجعل تاريخه نوعاً من المحاكاة لبداياته.
من الصعب تتبع مختلف مواضيع الكتاب وقضاياه، فهي تمتد لتطاول الأزمة، بوصفها علامة حياة لو أتاحت فرص الاختيار والنمو والتجدد، مع أن المشكلة هي أن غالبية العرب لا يشعرون بعمق الأزمة، وأن مجتمعاتهم لا تعرف الأزمة بل الانحلال. كما تطاول نمط الحياة القائم على القتل والإقصاء والإلغاء، وعلى المثقفين الذين تحولوا إلى فقهاء جدد، وهم لا يستجيبون في ايجابية للتحديات، لكن ذلك كله لا يعني أن نخرج من قراءة الكتاب بإحساس أن العالم العربي قد تحول محيط من رماد أسود، مع أن الدلائل توحي بموتى الروح أو الجسد. والقول بهذا، يصدر عن تشخيص عميق وصادق، يصور واقع الحال كما هو، وأمله هو أن يأتي يوم تتغير فيه هذه الأحوال
عمر كوش