إذا قصرنا حديثنا على العصور التاريخية، فإن معالجة موضوع الزراعة في بلاد ما بين النهرين تعني الإحاطة بموضوع يتناول، في الواقع، الفعاليات البشرية جميعاً، وذلك منذ أكثر من خمسة آلاف عام في منطقة حالفها الحظ؛ فلم يكن من المستحيل أن تولد حراثة الأرض في ظروف حسنة جداً، وعلى نطاق لا مثيل له، بفضل خصال أولئك الذين نذروا أنفسهم لها من جهة، وبفضل تضافر الشروط اللازمة لذلك من جهة أخرى.
الموقع الجغرافي:
واسمحوا لي أن أبدأ بمسح الموقع الجغرافي، وأن أفرق بين المناطق الصالحة للزراعة الكثيفة التي تنامت فيها الزراعات الواسعة، وتلك التي ربما ساعدت فيها الزراعات المبعثرة -في سنة ممتازة- على مدّ البدو الرحَّل بالغذاء. وسأتفحص باختصار الجزاء الذي تقدمه الأرض لأولئك الذين يستثمرونها أي أولئك الذين يزرعونها ويجنون حاصلاتها الطبيعية التي تشمل المحاصيل التي تزرع بدراية وعن قصد، والمحاصيل التي تجنى من حين إلى آخر دون أي جهد. وقبل أن أشرح كيف يتم الحصاد ومتى، وبالقدر المستطاع كيف كان يحفظ الغذاء ومتى؟ ولأي قصد؟ ولمن؟ سأتحدث عن المالكين والمستأجرين وكذلك عن المشاركة في المحصول، وسأبين تأثيرات فلاحة الأرض في العلاقات الاجتماعية.
وسأدرس الربع الأول من الألف الثاني قبل الميلاد، وهي حقبة يتوافر لدينا عنها قدر من الوثائق المتنوعة.
يتناول تحليلي، من الناحية الجغرافية، حوضي دجلة والفرات اللذين يقعان اليوم في العراق وسورية وجنوبي تركيا. وينبع النهران من الجبال الأرمينية. ولقد كان سكان السهول يخشون دائماً قاطني الجبال، لأن أهل الجبال لا يزرعون سوى رقاع قليلة، متناثرة ولا يكفون عن النظر إلى السهول الغنية؛ وكانوا، مع البدو الرحَّل ساكني الصحراء، مصدر تهديد دائم للأغنياء المقيمين في الوادي. ولما كانت أعمالهم الزراعية مجتزأة، وجب إقصاء ربوعهم القلقة من بحثنا.
نهر دجلة:
في منطقة دجلة الوسطى التي تقع على بعد 80-100 كم إلى الأعلى من بغداد، وفي الزاوية التي تؤلفها الجبال العالية في الشمال والشرق، تتدفق الأنهار من السلاسل الجبلية.
والأمطار ليست نادرة، والربوع ممرعة. وقد نشأت هنا حضارة سكان الكهوف في البداية لتظهر فيما بعد القرى الأولى، لأن الأمطار المعزوة إلى الجبال المجاورة تؤمن مناخاً ملائماً للمراحل الباكرة للزراعة. وعلى محاذاة بغداد يصبح الفصل بين جفاف الجنوب والاخضرار النسبي للشمال لافتاً للنظر. أما إلى الجنوب من بغداد فإن المنطقة، الآن، قاحلة عملياً باستثناء المستنقعات في منطقة القرنة والبصرة والناصرية؛ وفي هذه الرقعة يسمح الماء، وهو أكثر وفرة من اليابسة، وفي النطاقات التي تنجو من التملح، باستثمار اقتصادي للأرض لا نصادفه في أي مكان آخر. وتجري الوسطى، التي تبدأ من قرية 50 كم تحت الموصل وتمتد حتى أبواب بغداد، في منطقة سهبية. وفي الشمال فقط تمتد الأحواض العليا على جانبي الزاب في أراض خصبة؛ إلا أن غناها يعود لقربها من الجبال وكثرة تساقط الأمطار وهنا ولدت زراعة بلاد ما بين النهرين. والقطاع الغني الآخر هو قطاع ديالى في الشمال الشرقي من بغداد، حيث ترويه سلسلة من الروافد الصغيرة القادمة من جبال زاغروس؛ وتخترق هذه الأراضي جميعاً شبكة من الأقنية صنعتها يد الإنسان. وهكذا أمكن، فيما يتعلق بحوض دجلة، للزراعة أن تنتشر انتشاراً عفوياً في الشمال والشمال الشرقي فقط. ومن هنا جاء ثراء الآشوريين الذين جعلت منهم نشأتهم الأولى فلاحين، ومكنتهم من التوسع الاقتصادي والتجاري والحربي. أما في الجنوب -حيث القحول صارخ في أيامنا- كما في منطقة ديالى، فإن النهضة الزراعية تعود إلى عدم تهاون السكان في شق الأقنية، وإقامة السدود، وحفر شبكة كاملة من المصارف والخنادق.
ومنذ تلك العصور التاريخية أدى الري المستمر للتربة ذاتها، دون صرف في الأعماق، إلى تراكم الملح وإلى نقص الأرض الصالحة للزراعة نقصاً منتظماً. وبوسعنا اليوم، مشاهدة خط متبدد من أشجار النخيل يتلامح في أرض مائلة للبياض تقريباً من ضفاف النهر. وفي المنطقة الجنوبية تمر الأجزاء السفلية من مجرى نهر دجلة والفرات عبر منطقة من السبخات لا تزال فيها رقاع من الأرض تزرع تحت ظلال أشجار النخيل حيث تم الحفاظ على الأرض بعزلها بحواجز يتجول الناس حولها بقوارب صغيرة. وفيما عدا زراعة النخيل لا توجد زراعة أخرى إلا للخضروات.
نهر الفرات:
أما نهر الفرات الذي ينبع أيضاً من الجبال الأرمينية، فإنه يتجه نحو الغرب أولاً ثم يصنع عروة كبيرة يتدفق بعدها هابطاً نحو الجنوب الشرقي ويقترب أكثر فأكثر من دجلة، ثم يتابع مسيره ليلتقي به عند القرنة ليكوِّنا معاً شط العرب الذي يصب في الخليج العربي.
ولا يكاد نهر الفرات يتجاوز منبعه في الجبال المجاورة لبيرسيك إلا قليلاً حتى يقطع منطقة جرداء. ويتسع سرير النهر ويضيق في تعرجاته باتساع الوادي وضيقه؛ ومع أنه يختنق غالباً بين جرفين فإنه يروي سهولاً ضيقة على ضفتيه قد تكون طويلة جداً. وهو يهيمن بدءاً من منطقة مسكنة إلى أقصى العروة الكبيرة على وادٍ عرضه من 3-6 كم وطوله من 20-25كم قبل أن يصل إلى سد الطبقة. وله السعة ذاتها في أخفض أقسامه التي تصل حتى تل الحريري (ماري القديمة).
وللفرات، باستثناء أودية قليلة لا تزخر بالماء إلا بعد وابل مفاجئ، رافدان دائماً يقعان كلاهما على يساره؛ أولهما البليخ الذي يصب في الفرات بالقرب من الرقة؛ ونادراً ما يكون البليخ أكثر من جدول لا يجف دفقه، ويتغذى من ينابيع كثيرة تأتي مياهها مباشرة أو بصورة غير مباشرة من سفوح سلسلة جبال طوروس؛ وثانيهما الخابور الذي يصب في الفرات بعد دير الزور، وهو أكثر أهمية باتساعه وتدفقه، ويتيح اتساع واديه، كالفرات، القيام أحياناً ببعض الزراعات الواسعة. وفي الأعلى، عند مدينة الحسكة الحالية، يوجد رافد للخابور نفسه وعن يساره هو الجغجغ القادم من الشمال الشرقي، بينما ينحدر الخابور من الشمال الغربي؛ وفي المثلث الذي يتشكل على هذه الصورة بين الخابور وجغجغ اللذين يزخران بمياه ينابيع عديدة تنحدر من الجبال الشمالية، كانت الأرض كثيرة الخصب على الدوام منذ أقدم العصور حتى أيامنا هذه.
الأنماط الزراعية:
وهكذا تفرض علينا الجغرافية التمييز بين أربعة أنماط زراعية.
1-في النطاقات المتاخمة للجبال التي تتزود بمياه الأنهار والأمطار بصورة طبيعية دون إدخال تعديلات عليها (أو بإدخال تعديلات لا تستحق الذكر)؛ وهي التي تؤلف المنطقة الشرقية من مملكة آشور القديمة (كركوك- السليمانية- أربيل) ومثلث الخابور الذي يمتد متسعاً في جنوبي تركيا وراء الحدود التي تفصل هذه البلاد عن سورية في أيامنا.
2-في النطاقات التي تحف بالأنهار والجداول الهامة، وهي أراض سهلة الخدمة وتُروى دون معاناة كبيرة سواء من المياه الجارية أو بوسائل الري البسيطة.
3-في السبخات حيث يكثر الماء إلا أن الأرض نادرة ومستوحلة.
4-في المنطقة الممتدة بين دجلة والفرات جنوبي بغداد، حيث سهَّل اختلاف المنسوب بين النهرين جريان الماء من أحدهما إلى الآخر، وأضاف الإنسان إلى هذا الانصباب شبه الطبيعي شبكة محكمة للغاية من قنوات الري التي جعلت غنى أرض سومر قائماً ما دامت العناية بها قائمة. وقد استلزمت صيانتها، والمحافظة عليها جاهزة للعملِ، جهداً دؤوباً من أولئك الذين اعتمدوا في معيشتهم عليها. وكذلك كان الأمر في منطقة ديالى أيضاً ولكن على نطاق أضيق.
ومن الشمال إلى الجنوب كانت متاعب الناس الذين عاشوا على الزراعة تزداد سوءاً دون أن يحصلوا بالضرورة على قدر من المحصول يتناسب مع الجهد الشاق الذي يبذلونه. وفي الشمال تفصل السهوب من الشرق إلى الغرب وادي دجلة الأوسط عن وادي الخابور، والخابور عن البليخ، والبليخ عن عروة الفرات، والفرات عن منطقة حلب التي تعد من مفاتيح ساحل البحر الأبيض المتوسط. وفي الجنوب وبعد عروة الفرات الكبيرة تبدأ البادية مباشرة من الجرف المشرف على الفرات. وهنا تعتمد قبائل البدو الرحل في حياتها وحياة قطعانها على مراعٍ قليلة من الحشائش الجافة وعلى القليل من النباتات الشوكية التي تكثر في السهوب وتقل في البادية وعلى عدد من الآبار النادرة.
التغيرات الجغرافية:
ولإنهاء هذا المسح الجغرافي يجب أن أبين باختصار الصورة التي اختلفت فيها الظروف الجغرافية الماضية عن الظروف الحالية.
الغابات أولاً: لقد حدث، لا شك في ذلك، استئصال شديد للغابات على المنحدرات الجنوبية للسفوح الأولى في جبال الهضبة الأرمينية. وقد سبب زوال الغابات تعري التربة بفعل الانجراف وتردي الأحوال المناخية لانخفاض هطل الأمطار، واضطراباً حاداً في تدفق الأنهار. ومنذئذ تعرت الصخور على السفوح وحكم عليها بالعقم وتراكمت التوضعات الرسوبية في قاعدة الجبال. وكان استئصال الغابات قد حصل بشكل رئيسي قبل عصر التاريخ. والخشب المقطوع المذكور في النصوص المسمارية جاء من الأمانوس لا من الشمال. أما آثار قطع الغابات الجائر فلا يكون محسوساً إلا تدريجياً. ولعل التخلي النهائي عن موقع قديم كتلّ رماح (نحو 80 كم غرب الموصل) في نهاية الألف الثاني ق. م يعزى إلى زوال الغابات في جبل سنجار ونقصان الماء المتعاقب.
السهول ثانياً: إن دجلة والفرات يجريان في منطقة ما بين النهرين في سهول ذات حد أدنى من الانحدار وكثيراً ما يغيران من مسارهما. فالفرات الذي كان يروي مدينتي سبّار ونيبّور قد ابتعد عنهما غرباً. وكذلك تحول المجرى السفلي لنهر ديالى باتجاه الشرق.
وليس مستبعداً أن جرف شط الحي قد كان مهداً لدجلة الأدنى. وهذه التبدلات التي نراها في أيامنا مثلما كانت تحدث في الماضي هي التي غيرت التنظيم الزراعي محلياً على الأقل.
أما مسألة دلتا الفرات ودجلة فلما تحل. وكان يعتقد في الماضي أن الخليج كان يمتد أكثر من اليابسة ويعود تراجعه إلى الترسبات الطميّية التي يحملها النهران. ويعتقد اليوم أن شاطئ البحر لم يختلف كثيراً، فالرسوبيات كانت تتوضع قبل وصولها إلى البحر. ومن المؤكد في جميع الأحوال أن المجرى الرئيسي لكلا النهرين قد تبدل كثيراً من خلال السبخات والبحيرات الساحلية: ففي عهد الاسكندر الأكبر كان النهران يصبان منفصلين في الخليج.
وربما كان تبدل مجرى النهرين والتغيرات الممكنة الحدوث في الساحل سبباً في تحويل الحياة الحضرية تحويلاً عميقاً إلا أن نتائجها بالنسبة للزراعة لم تكن ذات مفعول كبير.
التملح ثالثاً: ولكن كيف كان الأمر بالنسبة لنوعية التربة ونعني التملح؟ في الجنوب حيث يتميز المناخ بصيف شديد الجفاف، يخلف النهر رسوبيات مشبعة بالماء تتخلى عن مائها بفعل التبخر ويبقى الملح الذي يتركز على السطح مسبباً عقم الأرض. ولا يؤدي الري المنتظم إلا إلى تسريع العملية. وتدهور التربة هذا معروف على مر الزمن منذ أكثر وثائقنا قدماً. وهذه إحدى البلايا التي تنزلها الآلهة لتهلك البشر كما جاء في أسطورة الرجل الحكيم أتراحاسيس الأكادية: "لقد أصبحت الحقول السود بيضاً واختنق السهل الواسع بالملح". والتملح في أيامنا واضح على امتداد المجاري المتوسطة لدجلة والفرات.
وهكذا، علينا أن ندخل بالحسبان أنه منذ 3-5 آلاف سنة مضت كانت الغابات والأدغال في الشمال أكثف والرطوبة أعلى مما هي عليه في الوقت الحاضر. وكانت التربة تمر بعملية تردٍّ إلا أنها أقل تضرراً مما عليه في أيامنا. ويجب أن نضيف أن القنوات التي شقت في أرض سومر واعتُني بها بدقة، شهدت أراضي جانبي النهر ترتفع تدريجياً من خلال الفعل المشترك لعمليات تجريف المجاري والترسبات الناتجة عن الطمي. وكان من الواجب تدعيم التفرعات العليا أكثر فأكثر، وترميم المزيد من الروافع بصورة دائمة.
وعند بلوغ الحد كان الحقل يُهجر وقد ازداد هذا العامل سوءاً بفعل الغزوات المدمرة في القرن الثالث عشر الميلادي التي أنقصت بنسب كبيرة مساحة الأرض الصالحة للزراعة في جنوبي ما نسميه بالعراق اليوم.
الإنشاءات الزراعية:
وفي كل عام، عندما يحل الدفء الذي يذيب الثلوج، وفي الموسم الماطر، يفيض نهرا دجلة والفرات. ويبدأ دجلة بالفيضان في بداية شهر آذار/ مارس، أما الفرات فبعد ذلك بأسبوعين، ويرتفع منسوب الماء حتى حزيران/ يونيو إلى نقطة تبلغ عشرة أضعاف مستوى الماء الجاري فيهما قبل ذلك. وهكذا تتحكم تغيرات الأنهار بالحياة في أرض ما بين النهرين، كما في مصر. إلا أن هناك اختلافاً جوهرياً بين فيضان النيل وفيضان دجلة والفرات. ففيضان النيل يتوقف في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، ولا تستلزم الزراعات الشتوية رياً إضافياً. أما فيضان دجلة والفرات فينتهي مع بداية الصيف؛ وبدون الماء يجف النبت ويموت، وتغدو زراعة أي نوع من الحبوب مستحيلة. فيجب تخفيض منسوب الفيضانات، وخزن المياه في الصهاريج وقنوات التحويل، كما يجب أن تُشاد السدود والحواجز لكسر عنف المياه تحسباً من المطر الوابل أو العواصف، وأن تدعم مجاري المياه الطبيعية وأن تبنى ضفاف متينة ويعتنى بها. وإذا كان الجفاف، في الواقع، العدو الرئيسي للزراعات فإنه ليس الوحيد. وكما قيل في شريعة حمورابي: إن النبت يزول بسبب نقص المياه ولكنه قد يُكتسح بفعل فيضان أو عاصفة. ويقترن هذا الصراع ضد المفعول المدمر للمياه الهادرة بالحاجة الملحة إلى الاحتفاظ بما يمكن حفظه منها وبناء صهاريج مزودة ببوابات يمكنها أن توزع الماء عبر قنوات مكشوفة أو من خلال أنفاق يجري فيها ليروي الأراضي الزراعية بواسطة شبكة محكمة من الأقنية التي يمكن فتحها وإغلاقها حسب الرغبة. إنه نظام يتلاءم مع الأراضي المنخفضة، أما في الأماكن الأخرى فيلجأ إلى الجَرِّ اليدوي أو الشادوفي.
وتقتضي هذه الإنشاءات جميعاً عملاً جماعياً، ومراقبة لصيقة، وتوزيعاً عادلاً. إنها تتشرب في العلاقات الاجتماعية وتنطبع عليها.
تلك حال السهول. وإن من الواجب إضافة الزراعة غير المنتظمة للوديان بواسطة سدود صغيرة متتابعة يمكن أن تعطي محصولين صغيرين أو ثلاثة في عقد من السنين. وإذا ما احتوت سفوح الجبال على أراض صالحة للحراثة فإن الحقول تُنظم على شكل مدرجات تُروى بماء المطر الذي يُحتفظ به أحياناً في صهاريج يجري الماء منها في هذه الحالة من مدرج إلى آخر. ويمكن للإنسان أن يحفر كذلك في الأودية حُفراً تحت الأرض تتغذى سراديبها بالمياه المنحدرة من الجبال.
أنواع الأراضي:
ونقلاً عن السكان المقيمين فإن أراضي السهول الغرينية Usallum أو Ugarun هي من أفضل أنواع الأرض، وتكون حول مجاري المياه الطبيعية أو الصنعية، ويخشى عليها من الفيضانات أكثر من الجفاف، وتقع بالقرب من المناطق المعمورة. وهناك نوع آخر يدعى الأراضي البور Aburru وقد تكون أيضاً بجوار مجاري المياه؛ وتستعمل على الأغلب مراعي تستسيغها قطعان الأبقار التي تمرع فيها. وهناك حقول أخرى ذات أراضٍ دلوية Daluwàtum يؤمن ريها بالروافع كالشادوف. ولا يزال هناك أراضٍ أخرى غنيةً وتتمتع بالخصوبة ذاتها إنما تروى من الآبار المحفورة وتسمى بالأراضي البئرية Birtum . ويذكر دائماً في عقود البيع إذا كانت القطعة مزودة بالآبار أم لا.
ملكية الأراضي:
ويتطلع الناس جميعاً إلى أفضل الأراضي؛ وتخبرنا شريعة حمورابي أن أراضي السهول الغرينية كانت توزع بين العدد من المستأجرين، وتنظم فيها مهامهم المشتركة والتزاماتهم تجاه المالك بدقة.
ويوحي ذلك بوجود رأسمالية الأرض التي كان التجار أو المكارون Tamakaru ، وهم الباعة القدماء الذين أصبحوا دائنين "مصرفيين"، يستثمرون فيها أرباحهم الكبيرة.
وفي الماضي السحيق، ولنقل في فجر التاريخ، كانت ملكية الأرض على الأغلب محصورة بالآلهة ممثلة بالعابد. ومع توسع السلطة الملكية تبدلت حيازة العديد من الحقول أو على الأقل الشخص المسؤول عنها، ألا وهو المؤاكر. وربما بدأت الملكية الخاصة مع الأراضي البائرة ذات المواقع الجيدة التي كانت تمنح مكافأة على الخدمات. وعندما تغدو النصوص أكثر وضوحاً وتوافراً (أي من الألف الثاني ق. م وما بعده) نرى أن الأرض الصالحة للزراعة، على الرغم من أنها لا تزال نظرياً ملكاً للآلهة وتدار من قبل الملك ممثلها، تتوزع كما يلي:
1-أرض المعبد وأرض القصر، ويمكن أن تؤخذا معاً طالما أدارها الملك هو الذي يديرهما، أما عن طريق إدارة كهنوتية تدعي أن لها حقاً بها، أو عن طريق إدارة مدنية، أي بواسطة حكام الأقاليم المسؤولين عن الأراضي التي تعود للتاج. والملك نفسه مسؤول عن تطوير الأرض واستثمارها سواء أكانت أرضاً للمعبد أم ملكاً للتاج.
2-يتصرف الملك بالأراضي جميعاً إلا أن أفضلها وهي التي تزرع لا يحتفظ بها، فللملك مزارعوه الذين يدفعون الأجر من محصولهم عيناً. وتذهب هذه الإسهامات إلى المستودع الملكي.
3-وهناك مستأجرون آخرون من الملك لا يدفعون عيناً بل يفعلون ذلك لقاء الخدمة الطوعية للملك أو الآلهة أو الدولة، ويطعمون بالمقابل. ولكن منحة الأرض هذه، التي لم تكن في الأصل إلا انتفاعاً، تنزع لأن تصبح إرثاً بصورة طبيعية.
ولم تنتقص الزراعة المنظمة من حق التلقط واللملمة: فالإنسان يمضي إلى قطع القصب وجمع النباتات الطبية، وظلَّ العسل يشتار، ويذهب الناس للصيد واقتناص الطيور ونصب الشراك للحيوانات البرية أو صيدها بالقوس والسهام. والقصب ينمو بصورة طبيعية، وكذلك الحراج إلا أنها كانت محظورة: ويشير نص من أيام حمورابي إلى إرسالية مؤلفة من 24650 حزمة من الحطب. وكان هناك موظفون في الدولة تنطوي مهمتهم على مراقبة الأحراج لمنع اللصوص من الاحتطاب لأن الأحراج كانت موضعاً للإغراء في بلاد ليست غنية بالخشب غنىً كافياً. وتفرض شريعة حمورابي عقوبة شديدة على أي شخص يقوم بقطع الحطب من بستان شخص آخر.
النباتات الزراعية:
والآن، ما النباتات التي كانت تزرع؟
تعد زراعة الشعير الزراعة الأولى وقبل أي زراعة أخرى. فقد كان الشعير أكثر الحبوب استهلاكاً في بلاد ما بين النهرين وخاصة في مثلث الخابور. ومن هذا الموقع بالذات أرسل ملك ماري الذي استُجر إلى معارك متلاحقة للحفاظ على مملكته، يطلب ما يعادل ثلاثين طناً من الشعير. وكان عليه أن يفعل ذلك ليسد عجز مخزونه. فالشعير طعام أساسي للناس، ويضاف إلى علف الحيوانات، وتستوجبه الآلهة، إنه عملة عينية. وتحدد القيمة النقدية للشعير بأوامر ملكية رسمية تأخذ في حسبانها قرب موسم الحصاد أو بعده، وما إذا كانت الحبوب متوافرة أو نادرة. وهكذا تتقلب أسعاره. وكانت أفضل الأراضي تخصص لزراعته، فلا يُلقى بالبذور فيها إلا بعد حراثتها وتمشيطها وتهيئتها وغمرها.
وعلى المستأجرين الذين يستثمرون الحقول المتجاورة أن يعتنوا بسقاية قطعة أرضهم، فإذا أضروا بأرض الآخرين أجبروا على دفع إيجارها. وتميز شريعة حمورابي واقعياً بين الشخص الذي لا يبالي والشخص المجد، وتنزل العقوبة في الأول على الأخص.
وما أن يُحصد المحصول حتى يخزن الحب الجاف إما في صومعة للأعلاف أو في مرتكى خاص بصاحب المحصول أو بغيره -وفي ظروف قانونية معينة فقط- في مخزن للإيداع حيث يكون المساس بالحب محظوراً. ومستأجر الأرض التي حُصد الشعير منها هو حصراً مالك المحصول. ويبين هذا بوضوح أن الشعير كان عملة بطريقة ما، ووضعه كمحصول حبي رئيسي يتمثل، بالإضافة إلى ذلك، في عدد من التدابير القانونية.
إلا أن الشعير لم يكن المحصول الحبي الوحيد، فقد كان هناك القمح أيضاً الذي تناقصت حقول زراعته مع ارتفاع ملوحة التربة. وكان هناك الدَخن الذي يتحمل الجفاف شأنه شأن الشعير والنجيل. والخبز المصنوع من الشعير فقط حريف الطعم، أسود اللون. والشعير من الحبوب المناسبة للعصائد تماماً مثل الدخن والذرة البيضاء (الرفيعة) والنجيليات البرية.
أما الزيت فكان يستخرج من السمسم، ويمثل، مع الكتان، زراعة صناعية حقيقية.
وكان الأجر الشائع مقداراً مقنناً من الشعير مع مقدار مقنن من الزيت. أما زيت الزيتون والنبيذ فكانا يجلبان من الشمال والغرب، ولم يكونا يقدمان عادة إلا في بيوت الأشراف.
وكانت البهارات تستعمل أحياناً لحفظ المواد القابلة للتلف كما كان من الممكن استعمالها أيضاً لإخفاء الحالة المتقدمة للعفونة أو للحموضة.
وكانت بعض النباتات تستعمل لصنع العطور والأصبغة، كما كان الزبيب والبهار يستعمل في صنع الخبز أحياناً. ويجد المرء أيضاً أن ثماراً حبية وثماراً عنبية وبخاصة ثمار الفستق كانت شائعة الاستعمال. وكانت الفواكه كالتفاح والتين والكمثرى والخروب والتي تؤلف ثروات أهل الجنوب منتشرة في أنحاء البلاد كافة، وتؤكل غضّةة أو مجففة، بل وكان يصنع منها النبيذ والمشروبات الروحية.
وكان الأغنياء يحبون الحدائق والجنائن. وقد أمر سنحاريب بحفر جور في صخور آشور لزراعة الأشجار. ويذكر أسارحادون Asarhaddon أنه قد زرع "جنينة رائعة تزينها ضروب النباتات كافة وأشجار الفاكهة على امتداد القصر" وإننا نتذكر جنائن بابل التي لا بد أنها قد أقيمت في قرابة الألف الثاني قبل الميلاد وزيَّنت بابل نفسها، وتوسعت فيها، وانتصبت أمثالها في أماكن أخرى. وكانت باحة القصر تُظلل عادة بالأشجار التي ألفوا إقامة الولائم تحتها. وللآلهة خمائلهم المقدسة التي كانت تزرع ويعتنى بها بمبادرة من الملك.
العناية بالتربة:
ولا نعرف شيئاً عن العناية بالتربة. وتشير عرضاً إحدى وثائق ماري (القرن الثامن عشر ق. م) إلى نثر الزبل على الأرض. والوقد (حرق الأرض المعشبة) الذي يجلب البوتاس لم يكن مستعملاً إلا في بعض الحالات. وحقيقة أن قطعان الأغنام كانت ترعى، بعد جني المحصول، بحرية في الحقول تفسر لماذا كان يُعمد إلى الوقد بشكل رئيسي في الأرض البور أو بعد انتهاء الدورة الزراعية. فالدورات الثنائية أو الثلاثية كانت تطبق في أراضٍ ذات نوعية أدنى وبعيدة عن الإمداد المنتظم بالماء. وعلى الرغم من أن غمر الأراضي الأغنى كان يجلب معه الملوحة في النهاية إلا أنه كان يسمح بالزراعة الدائمة لمحصول الحبوب نفسه كالشعير، كما يمكن استنتاج ذلك من شريعة حمورابي.
إدارة الزراعة:
وكما قلت من قبل كان المعبد المالك الوحيد للأرض؛ وظل يملك معظم الأرض منذ بداية الألف الثالث قبل الميلاد حتى نهايتها؛ وهذه كانت حالة النظام الاقتصادي في مملكة سومر. فكان معبد إلهة لاغاس Lagas يملك قرابة 4500 هكتار كان رُبعها يُستثمر مباشرة من أجل الحاجات الداخلية للمقدسات، في حين أن الباقي كان مخصصاً لتأمين المعيشة أو يُؤجَّر لقاء عائد متواضع هو سبع المحصول. وتغيرت الحال في عصر حمورابي البابلي أي في القرن الثامن عشر ق. م فلم يعد المعبد المهيمن الأول في الدولة. وفي الحقيقة ظل كل حرم مقدسي يملك مساحات واسعة ولكن الملك هو الذي كان يديرها. وهذا يعني أن ممتلكات التاج قد ازداد عددها. وأصبحت معظم الأراضي تعود إلى الملك، وتليه المقدسات وبعض الرأسماليين الذين تحولوا من التجارة إلى المصارف واستثمروا أرباحهم في ملكية الأرض وأخيراً بعض أفراد حاشية القصر الذين كانوا يمنحون قطعاً من الأرض مقابل خدماتهم للملك.
وقد ذكرتُ أن أراضي التاج قد تستثمر مباشرة، أو تؤجر، أو تسلم مؤقتاً لموظفي الدولة على أنها أجر جزئي عن خدماتهم. وفي مملكة ماري كان التاج يمتلك قطعاً من الأرض يستثمرها في أرجاء المملكة جميعاً. وكانت المملكة مقسمة إلى أقاليم يدير كُلاً منها حاكمٌ يسكن في قصر، مضيفاً إلى واجبه المتعلق بإدارة الإقليم واجب المالك الأساسي نيابة عن الملك. ولأداء هذا الواجب كان يستخدم العديد من المختصين. وهكذا كان يبدو أنه يشرف شخصياً على أولئك الذين كان التاج يمنحهم إعانات مالية لقاء أعمالهم، ويستفيد منهم السكان جميعاً في الإقليم، وهم المشرفون على أقنية الري والأحراج والمختصون في تدعيم الضفاف وبناء السدود وشق الطرقات وبالنسبة للأعمال الزراعية الصرفة كان الحاكم يراقب فقط إطاعة التوجيهات العامة للملك. وفيما عدا ذلك فإنه يضع ثقته بأكَّاريه Ikkaru وهم الفلاحون القيّمون الذين يحلون المشكلات المتعلقة بالزراعة جميعاً بأنفسهم ضمن المساحات الواسعة التي منحت لهم. وللحاكم الحق في تسخير السكان جميعاً رجالاً ونساءً وأطفالاً في إقليمه إذا تطلب العمل أيدٍياً كثيرة. وقد يكون ذلك في حالة استثنائية كالتدهور المفاجئ للشبكة المائية عقب سقوط الأمطار، أو يكون في حالة عامة كجمع المحاصيل الزراعية. وفي مثل هذه الحالات يستدعي الحاكم السكان جميعاً، ويعززهم بعمال موسميين متنقلين مأجورين وهم أحرار في القبول أو الرفض.
وعلى الرغم من أنَّ وثائق ماري تتحدث عن هذه السخرة التي يخضع لها السكان جميعاً دون تمييز في الجنس أو العمر إلا أنه يجب أن تخرج منهم الطبقة الأولى Awilu وهي طبقة الأحرار الذين ينخرطون جميعهم تقريباً، بطريقة أو بأخرى، في الخدمة الإدارية.
وتبقى السخرة مطبقة على الطبقة الثانية طبقة السكان Muskenu المقيمين المتمثلة في الجماهير ذات المنزلة الاجتماعية الأدنى من الأحرار، فهم في الأساس طبقة فقيرة من الفلاحين من مرتبة دنيا، معرضين للسخرة المتواصلة.
وأما المصرفيون مالكو الأراضي فهم يؤجرون حقول الحبوب وغيطان النخيل الخاصة بهم مقابل أجر يزيد كثيراً عما عليه قبل قرنين أو ثلاثة. وأصبح الأجر نصف أو ثلث محصول الحبوب أو الثلثين بالنسبة لبساتين الفاكهة وغيطان النخيل. والمزارع سواء أكان حراً أم من الساكنين المقيمين هو رجل فقير تحمله ظروفه على الخضوع إلى مطالب المرابي والتي لا يمكن أن يرتاح منها موقتاً بتأجيل سداد ديونه إلا بقرار رسمي رافقه التزام بإرادة الملك السنية أو إذا شملته العناية الإلهية بالموت.
خاتمة:
يمكن قول ما هو أكثر بكثير عن الموضوع الذي لا ينضب ألا وهو طرائق الزراعة في بلاد ما بين النهرين. إذ أن النقوش المسمارية تجعل من الأنواع المزروعة، وترتيب الحظائر والصوامع، وصناعة المعدات، حقيقة واقعة بالنسبة لنا. أما الآلهة وهيئة الكهنوت الخاصة بها، والأساطير المنسوجة حولها، وحروبها وانتصاراتها وهزائمها، فإن الحضارة الزراعية التي عكستها ترتسم بصورة واضحة. ويسري ذلك على الأعمال الأدبية أياً كان نوعها أو موضوعها. والحياة الاقتصادية والاجتماعية والرأي في السلطة، وطرق المعارضة، وباختصار حضارة ما بين النهرين كلها شاهدٌ على الزراعة التي أنجبتها، وغذتها باستمرار.