ذاكرة مشتركة
زرنا البعض من أهالي اللاذقية ممن عاصروا فترة ما قبل إنشاء الميناء وغاصت معهم في شريط ذكرياتهم .
فهنالك بعض الأماكن في هذه المدينة التي كانت تشكل ذاكرة مشتركة لأغلب أهالي اللاذقية وزوارها فما من أحد إلا ويذكر مقهى العصافيري وصخرة البطرني ومقاهي البحر وصخور الشاطئ والتي تحكي كل منها قصة عاشق أو حكاية صياد .
يقول سليم (1944)الأبن الأكبر لجميل قميرة مؤسس وباني مقهى العصافيري في عام 1941 : خربوا أجمل ما في اللاذقية لتوسيع المرفأ ، كان مطعم العصافيري شبه جزيرة بالبحر تحيط به المياه وتتلاطم الأمواج على الصخرة التي يتربع عليها وسمي بهذا الاسم نسبة للشيخ محمد العصافيري المدفون في أحد زوايا مدخل المطعم وهو ولي من أولياء الله الصالحين ، كان الكورنيش وإطلالته على البحر متعة حقيقية ليس لنا فقط بل لجميع أهالي اللاذقية ولزوراها وسياحها ، ذلك المنظر لا يمكن محيه من ذاكرتي ، عندما كانوا يردمون البحر والشط شعرت وكأنهم يردمون قبري أو يقلعوا عيوني
هنا الجنة
يتابع سليم : كنت أيام طفولتي أجلس هناك في مقدمة المقهى حيث كانت الصخور أرمي الخبز للسمك ، وأبقى على هذا الحال ساعات وساعات أراقب الأسماك كيف تتقاذف لالتهام حصتها ، كنت أحس بنشوة غريبة يمضي فيها الوقت بسرعة عجيبة ، سمعت الكثير من الناس عندما كانوا يأتون إلى الشط والكورنيش يقولون وبصوت عال حقاً هنا الجنة ، حتى الآن ورغم مرور ما يقارب الأربعين عاماً ما زالت شهرة العصافيري محفورة بذاكرة الناس نظراً للذكرى الجميلة التي تركتها في مخيلتهم .
وأذكر عندما عمت كان عمري ست سنوات وكان لي أخ صغير لا يتجاوز عمره السنتين ونصف كان يعوم أيضاً وكان اليوغسلاف الذين أتوا لبناء نادي الضباط يعطوننا بعض النقود لكي نتركه يسبح لأن منظره في الماء وهو يتحرك متعة حقيقية ، حيث كان بين المقهى والنادي خليج نسبح به وكانت تنتهي فيه السباقات العالمية للسباحة للمسافات الطويلة بين جبلة واللاذقية ، العديد من المرات سبحت مع أبطال العالم أمثال محمد زيتون وجلال زيدان وزهير شرف الدين ومحمد الشيخ عند وصولهم إلى خط النهاية . أما الآن فيجلس الناس ويتساءلون أين البحر وأين تلك المياه التي حل محلها الأسمنت فارتفاع الحاويات يخفي ورائه منظر البحر الذي خطفه المرفأ مع زحمة الحياة منذ زمن طويل . شعرت في تلك الأيام وكأنهم أخذوا قطعة جسدي ، وصادروا أجمل اللحظات في حياتي في زهرة شبابي .
مصادرة لهوية المدينة
أما الطبيب صفوان يوسف والذي لم يتجاوز بعد الخمسين من عمره زرته في عيادته في نفس المنطقة التي عاش فيها أيام طفولته ، راح يقلب معنا الذكريات و أرشيف الصور الضخم الذي جمعه عن تاريخ مدينة اللاذقية التي أحبها بكل قطرة من دمه شارحاً أدق التفاصيل التي عاشها في الحارات والأزقة القريبة جداً من المرفأ الحالي .
يقول صفوان : أذكر بأنه في عيد شم النسيم في الأول من نيسان من كل سنة كان الناس ينتشرون و يملئون الكورنيش في الخامسة والسادسة صباحاً ، وبعد أن يتمشوا ويستمتعوا بمنظر شروق الشمس يدخلون إلى مقهى العصافيري ليأكلوا الفول ، وكان البعض يجلسوا على التراس ويغسلوا أرجلهم بمياه البحر الدافئة .
كنا أطفالاً نأتي إلى الشط لنراقب الصيادين وهم يصطادوا السمك ، ونذهب بعد خروجنا من المدرسة إلى قرب خزانات النفط حالياً وكان الشاطئ رملي ، كنا نجد قطع نقدية قديمة مدفونة في الرمال .
بالقرب من نادي الضباط حالياً كان هنالك مسبح للعسكريين و لنقابة المعلمين وآخر للعمال والعامة وبالتالي عملياً كان لكل مواطن مكان ليسبح فيه وعلى بعد دقائق ، وفي هذه المنطقة كان أغلب أهالي اللاذقية يجتمعون في يوم السباق البحري في مسبح نقابة المعلمين حيث يوضع زورق على مسافة من الشاطئ وعلى المتسابقين قطع المسافة والالتفاف حول الزورق والعودة إلى نقطة البداية وكانت توزع الميداليات والكؤوس على الفائزين بجو من الفرح لا مثيل له .
يضيف صفوان : لقد قضينا أحلى أيام العمر على تلك الصخرات التي قد لا تعجب البعض لكنها أعطتنا هوي ثقافية وحضارية وإنسانية ، وأنا حزين أن أولادي ليس لديهم الفرصة أن يعيشوا اللحظات الجميلة التي قضيناها مع البحر ، فما حدث هو جريمة كبيرة بحق أبناء اللاذقية جميعاً ، حيث اغتيلت أجمل الأماكن وبكل دم بارد ، وكان هنالك أماكن كثيرة من الممكن إقامة المرفأ عليها ، وحتى الآن لا افهم ما المبرر أن يصادروا بحر الناس وواجهة المدينة .
وكانت المفاجئة
هذه المدينة التي كانت تعني لنا الكثير والآن أصبحت لا تعني لي شيئاً بعد أن تحولت إلى أكوام من الحجارة ،كانت سعادتنا الكبيرة عندما نلتقي في المشوار المسائي على الكورنيش ، جميع الناس كانوا يعرفون بعضهم بالاسم ، هذا الكورنيش ببساطته كان يشكل هوية للمدينة ، ومتنفساً لكل أبناءها ، الآن الكورنيش موحش جداً تنتشر عليه القهاوي العشوائية أو تلك المطاعم شديدة الفخامة التي لا تعنينا ، فلا هذه ولا تلك تمت للاذقية بصلة .
أذكر بأنه في عام 1984 ضربت عاصفة شديدة اللاذقية ليلاً ، أمطار غزيرة والبحر هائج من شدة الرياح التي اقتلعت الأشجار ، وفجأة هدأ كل شيء ورح الغيم وسطع ضوء القمر، فأيقظنا والدي في الثانية ليلاً لنتمشى على شط البحر ونرى الموج كيف يضرب جدار الكورنيش بمنظر لا مثيل له ، الآن وبعد ثلاثين سنة كأني أراه وأشتم رائحة رزاز البحر المتطاير مع الهواء .
أتمنى أن يحد ث الآن نو لكي آخذ ابني ليتفرج ولكن أين .؟ ( وقالها بغصة مع ابتسامة حزينة ) لا أستطيع أن أصل إلى البحر .
منذ أيام نظرت إلى درابزون الكورنيش الغربي و تفاجئت أن هناك شيء أزرق ولوهلة تخيلت أن البحر عاد من جديد ، وكانت المفاجئة بأن جدار مدهون بالأزرق شعرت وكأن أحداً صفعني عل وجهي ، لقد أحسست بالإهانة وشيء جرح كبريائي .
مازلت حتى الآن أذكر تلك الجرافات الضخمة التي كانت تطحن الصخور وتقذف الرمل من عرض البحر لتردم الشط أثناء بناء المرفأ ،كنت أحس أن ذلك الرمل يدخل بعيوني .... لن تذهب تلك الرمال من عيوني ولو بعد مئة عام .
المتنفس الوحيد
وكذلك زرنا السيد قيس محجازي ( يتجاوز عمره الـ 65 سنة) قال : أن البحر كان مشاع لكل من يريد أن يسبح أو يتصيد أويتنزه ، والكورنيش القديم كان المتنفس الوحيد لأهالي اللاذقية للمشوار وللقاء ، وكانت تنتشر عليه المسابح مثل أندراوس وفارس وجورج الكسندر ونقابة المعلمين وغيرها ،إضافة للمقاهي البحرية مثل العصافيري، فينيسيا ، اللكبان ، رشو و مقهى شناتا الذي غنت فيه أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وسعاد محمد .
كانت زوارق النزهة ( الشخاتير ) تتجمع في مينة البطرني و تعد المينا السياحية للمدينة ، بينما تتجمع زوارق الصيد في مينة القزيز بالقرب من مقهى العصافيري، وكان شاطئها رملي يلمع كالزجاج لذلك سميت بمينة القزيز .
كانت زوارق النزهة تصطحب أهالي اللاذقية والغرباء في مشوار بحري بين بواخر الشحن كان يدعى بمشوار البوابير .
وكان الكورنيش يلعب دور الملتقى للعشاق والمغرمين ، وأقرب إلى الخاطبة في الرؤيا وللقاء والتعارف ، اليوم كل من بعمري يعيشون على ذكريات الكورنيش القديم ـ، وكل ما تبقى من صور من هذا الصرح أصبحت بمثابة جدار مبكى لي ولهم ، ففي أواخر الـ 79 تبدل كل شيء حيث قامت الجرافات والآليات التي لا ترحم المشاعر والذكريات بردم صرح الجمال بلا رحمة ولا شفقة للأحاسيس الإنسانية المرتبطة بهذا التراث الذي كان أولى بنا جميعاً أن نحافظ عليه ونبقيه متنفساً حضارياً يربطنا بالماضي القريب كما تفعل معظم شعوب العالم والبلدان المجاورة في المحافظة على تراثها وربط المواطن ببلده وجذب السائح .
عندما تم ردم الشاطئ بالرمال والصخور المطحونة دفنت معها أجمل الذكريات للعاشقين والصيادين ، واستبدلت اسماك الغريبة بأسماك من الشيلان مشبعة بالمازوت والزيوت الذي تخلفه البواخر وآليات المرفأ .
كان هناك عرضان للتوسع بالمرفأ إما كما هو قائم حالياً أو تنفيذ مكسر جديد يمتد من رأس الكورنيش الجنوبي باتجاه الشرق حتى مصب النهر الكبير الشمالي ، لقد اجتمعت بمن تبقى من مهندسين في اللجنة القديمة المكلفين لاختيار أحد العرضين وقالوا بأن عذرهم لاختيار الموقع الحالي كان لتوفير 200 مليون دولار حينذاك الفارق بين إقامة مرفأ جديد أو توسيع المرفأ بالوضع الراهن .واتخذ القرار من قبل إدارة المرفأ في بداية السبيعنات وبدأ العمل في عام 1979 وتم الانتهاء منه في أوائل الثمانينات وقامت بتنفيذه شركة روسية.
أمل .. ولكن
وها هو يأتي اليوم طلب مدير مرفأ اللاذقية سليمان بالوش من فريق الجايكا الياباني المقيم في المرفأ لتقديم دراسة لإمكانية تنفيذ ميناء بحري بديل للحالي بين مصب نهر الكبير الشمالي ونهر الصنوبر ليوقظ الأمل لدى أهالي اللاذقية في استعادة مدينة اللاذقية لواجهتها البحرية وأن تعيد ألقها كمدينة ساحلية وسياحية ، وأن يوقد النار في شريط الذكريات ليستعيدوا الأوقات الجميلة التي قضوها على الشاطئ الجميل ، فهل يتحقق ذلك و هل "يكحل" هؤلاء أعينهم برؤية الشط محرراً كما عهدوه قبل اغتصابه من المرفأ الحالي . من يدري ربما يحمل المستقبل بعض المفاجآت. ..؟!!!
سيريا نيوز