آخر الأخبار

حقول الغاز في شرق المتوسط

اكتشاف حقول الغاز شرق المتوسط خلق أجواء من المخاطر والآمال بالنسبة لدول المنطقة المعروفة بحوض "الليفانت" أو بلاد الشام، خاصة أن الطبيعة السياسية والاقتصادية للخلافات القائمة والمتوقعة قد تجعل تدخل دول أخرى من المنطقة أو خارجها أمرا ممكن

 

هذا الاكتشاف ليس جديدا. ففي نوفمبر/تشرين الثاني 1999 اتفقت شركة الغاز البريطانية مع السلطة الفلسطينية للتنقيب عن الغاز في منطقة غزة البحرية بكاملها ومن ثم تطوير الحقول المكتشفة ومد خط أنابيب إلى غزة.

 

وبالفعل قامت الشركة بحفر بئرين واكتشفت الغاز وقدرت الاحتياطي بـ1.4 تريليون قدم مكعب (ت ق م) مع احتمال الزيادة في المستقبل.

 

ولكن الشركة لم تتمكن من التطوير لأن إسرائيل امتنعت عن شراء الغاز أو الموافقة على نقله إلى مصر أو غزة معتبرة أن ذلك سيكون مصدرا لتمويل ما تسميه بالإرهاب.

 

وبالرغم من المحاولات الكثيرة والبدائل التي قدمتها الشركة فإنها لم تفلح، واضطرت إلى غلق مكاتبها

والانسحاب.

 

ويعتقد المراقبون أن إسرائيل  تأمل أن تواتيها الظروف لبسط سيطرتها كاملة على حقول غزة.

 

أما إسرائيل  فقد اكتشفت بعض الحقول بالقرب من منطقة غزة البحرية ووصل إنتاجها إلى 48 مليار  قدم مكعب (م ق م) في السنة وبدأ الانخفاض مما دفع إسرائيل إلى استيراد الغاز من مصر ضمن صفقة ووجهت بالانتقاد.

 

وكانت احتياطيات إسرائيل عندها تقدر بـ1.5 ت ق م وهو ما يكفي لست عشرة سنة من الإنتاج.

 

ولكن التطور الكبير حدث شمالا في المنطقة البحرية غرب حيفا حيث اكتشفت الشركة الأميركية نوبل إنرجي في 1999 حقل تامار باحتياطي 8.4

ت ق م وتبعه حقل دالي باحتياطي 0.5 ت ق م.

 

 

وتبع ذلك في أكتوبر/تشرين الأول 2010 حفر البئر الاستكشافية الأولى غرب الاكتشافات السابقة فيما تدعي إسرائيل أنه منطقتها الاقتصادية الحصرية حيث اكتشف حقل كبير أطلق عليه اسم طاغوت نسبة إلى وحش بحري ذكر في الإنجيل.

 

وقدرت احتياطيات هذا الاكتشاف بـ16 ت ق م وقال بعض المعلقين "إنه سيعطي إسرائيل فائدة اقتصادية".

 

وفي يونيو/حزيران 2011 أعلنت إسرائيل عن اكتشاف جديد في سارة وميرا وعلى بعد 45 ميلا غرب ناتانيا وقدرت الاحتياطي بموجب مسح جيولوجي بأن هناك احتمالا نسبته 54% بأن يحتوي الاكتشاف الجديد على 6.5 ت ق م من الغاز، و150 مليون برميل نفط باحتمال 18%،  ولابد من الحفر ومزيد من الفحوص للتثبت من هذه الكميات.

 

لكن اكتشاف طاغوت سرعان ما جلب انتباه وقلق لبنان على اعتبار أنه يقع في منطقته البحرية الحصرية كله أو أغلبه على عكس ادعاء إسرائيل أن الحقل في منطقتها.

 

وقد أخذت المسألة بعدا دوليا بعد أن قدم لبنان خرائط إلى الأمم المتحدة لتأييد حقه وتحديد حدوده.

 

ويبدو أن لبنان على جميع المستويات مصمم على متابعة حقوقه. وقال الرئيس ميشال سليمان "يجب ألا يشك أحد في عزم لبنان واستعداده للدفاع عن حدوده البرية ومنطقته البحرية لحماية حقوقه وثروته الطبيعية بكل الوسائل المتاحة والمشروعة".

 

هذا الموقف كان له صدى واضح لدى الأحزاب والمجموعات السياسية التي حذرت إسرائيل من سرقة موارد لبنان البحرية.

 

وقال ليبرمان وزير خارجية إسرائيل "إننا لن نتنازل عن بوصة". غير أن يوش كابلان –الباحث في إسرائيل إستراتيجست– قال "في النهاية ربما يكون ادعاء لبنان يحظى فعلا بدرجة من الحقيقة بموجب القانون المعترف به دوليا".

 

ولكن السؤال المهم هو متى التزمت إسرائيل بالقانون الدولي؟

 

إن الأمم المتحدة أصدرت قانون البحار في 1994 وأسست بموجبه محكمة لحل النزاعات التي قد تنظر في النزاع الحالي ولو أن هذه المحاولة لا تخلو من صعوبات بسبب التفسيرات المختلفة لقانون البحار وعدم وضوحها أحيانا.

 

لكن الموقف تأزم بصورة أكبر بعد إقدام إسرائيل وقبرص في ديسمبر/كانون الأول 2010 على توقيع اتفاق يحدد الحدود البحرية بينهما دون أي اعتبار لحقوق وآراء اللبنانيين.

 

وبدأت قبرص في نفس الوقت بالاستكشاف في منطقتها بالتنسيق مع إسرائيل ومن خلال شركة نوبل إينرجي ذاتها التي تسعى لإنهاء حفر بئرها الأول لتتأكد من حجم الاحتياطي الذي قيل إنه بموجب معطيات قبل الحفر قد يصل إلى  3 أو 9 ت ق م.

 

 

هذه التطورات أدت إلى شعور تركيا بخطورتها وأدخلتها بصورة قوية وعاجلة في الصراع.

 

وتقول تركيا إن على قبرص ألا تستكشف الموارد البحرية قبل أن تحل قضية انفصال الجزء التركي القائمة منذ 1974 والتي تسعى الأمم المتحدة لحلها منذ سنوات أو أن تعلن أنها ستتقاسم أية موارد مع الجزء الشمالي من الجزيرة.

 

وقال رئيس الوزراء التركي أردوغان مؤخرا "إن القبارصة اليونانيين وإسرائيل يمارسون جنون استكشاف النفط في البحر المتوسط" وإن تركيا ستقوم باستكشافاتها في المنطقة ذاتها بالتعاون مع الجزء التركي من قبرص حتى لو تطلب ذلك مرافقة السفن الحربية.

 

وبالفعل قامت تركيا بتوقيع اتفاق مع حكومة القسم التركي من الجزيرة يخولها الاستكشاف نيابة عنها وقامت بالفعل بإرسال سفينة مسح زلزالي إلى نفس المنطقة المستكشفة من قبرص بمرافقة سفن حربية مما دعا إسرائيل إلى إرسال طائراتها المقاتلة لتخويف السفينة ولكن تركيا بالمقابل أرسلت طائرات اعتراضية أيضا.

 

ودعت المفوضية الأوروبية تركيا وقبرص إلى ضبط النفس والسعي للوصول إلى تسوية حول الجزيرة المقسمة.

 

وليس هناك أدنى شك في أن الموقف سيزداد تعقيدا بدخول أطراف أخرى كاليونان وروسيا والولايات المتحدة على الخط بشكل أو بآخر.

 

في ضوء ما يحدث و قبل قعقعة السلاح أرى أن الصراع سيزداد شدة خاصة أن الدول المعنية –باستثناء سوريا– فقيرة في الموارد الهيدروكربونية.

 

وقبل ذلك علينا أن نعرف حجم الموارد في حوض بلاد الشام الذي يمتد من حدود غزة جنوبا إلى سواحل تركيا الجنوبية.

 

وليس لدينا حاليا سوى ما أعلنت عنه هيئة المسح الجيولوجي الأميركية الذي جاء -وكأنه مؤقتا- في مارس/آذار 2011. وكان بذلك أول تقييم للمنطقة على أساس احتوائها على 1.7 مليار ن برميل من النفط و122 ت ق م من الغاز.

 

وحتى لو كانت كل هذه الكميات يمكن إنتاجها فإن النفط لا يتجاوز 1%  مما موجود في السعودية أو 14% مما هو موجود في الجزائر أقل دول أوبك من حيث الاحتياطات النفطية.

 

أما بالنسبة لموجودات الغاز فإنها ليست أكثر من 14% من احتياطيات قطر والجزائر لوحدها تتمتع باحتياطي قدره 159 ت ق م. إذًا لن تكون هناك "قطر" أخرى في شرق المتوسط كما قال لي أحد المعلقين مؤخرا.

 

 

ومع ذلك فالموارد كبيرة بالنسبة إلى الدول المعنية. فلبنان يستورد 96% من احتياجاته من الطاقة أي حدود 150 ألف برميل يوميا معظمها زيت الوقود والديزل لتوليد الكهرباء.

 

وتبلغ قيمة وارداته النفطية ستة مليارات دولار أي ما يعادل 14% من الدخل القومي. لذا فإن 500 مليون قدم مكعب (م ق م) في اليوم ستساعد على تقليص وارداته بنسبة الثلثين خاصة إذا استكمل شبكة توزيع الغاز التي تقول الحكومة إنها مشروع قيد التخطيط.

 

وتستورد تركيا 90% من احتياجاتها للطاقة خاصة

أن مواردها الهيدروكربونية قليلة جدا، وأن وارداتها من الغاز لوحده تبلغ 3.9 مليارات قدم مكعب يوميا ويمكن أن تزداد مستقبلا بالنمو أو بإحلال الغاز محل النفط المستورد أيضا.

 

إن برنامج تركيا الاستكشافي يتركز في البحر الأسود وفي شواطئها الجنوبية في البحر المتوسط وهناك رغبة لا يمكن التقليل منها في استكشاف موارد إضافية في المنطقة البحرية الحصرية لتركيا.

 

وقد وقعت تركيا مؤخرا على اتفاق مع شركة شل للبحث عن الغاز والنفط حول سواحلها الجنوبية شرق المتوسط ولكن ليس من الواضح أن ذلك يشمل مناطق بعيدة عن المياه الإقليمية.

 

وينطبق نفس المنطق على قبرص التي تفتقر تماما لموارد النفط والغاز وتستورد نفطا في حدود 2.5 مليون طن في السنة أي ما يعادل 50 ألف برميل يوميا   يستهلك نصفها لتوليد الكهرباء.

 

لذا فإن أي اكتشاف ينتج 150 م ق م يوميا يمكن أن يخفض واردات قبرص إلى النصف.

 

سوريا لها من النفط والغاز ما يجعلها متميزة عن الآخرين. ومع ذلك فهي تستورد الغاز من مصر وستحتاج إلى المزيد وربما تستورد الغاز مستقبلا من العراق ومن الشبكة التركية.

 

فسوريا لا تزال تستخدم ستة ملايين طن في السنة من زيت الوقود لتوليد الكهرباء ويمكن إحلال الغاز محلها فور توفره وهو أرخص وأنظف ويسمح بتصدير زيت الوقود أو تصنيعه إلى منتجات نفطية أخف. لذا فإن سوريا بحاجة إلى ما يقرب من 700 م ق م يوميا لإحلاله محل زيت الوقود وإلى كميات إضافية بسبب نمو الاستهلاك.

 

أما إسرائيل فإن استهلاك الغاز ينمو فيها منذ 2003 ولكنه بقي نسبة متواضعة مقدارها 11% من استهلاك الطاقة في 2008 حيث بلغ إنتاجه ما يقرب من 132 م ق م يوميا.

 

ولكن الاستيراد من مصر أدى إلى  زيادة حادة في الاستهلاك وصلت إلى 318 م ق م يوميا.

 

وهناك بالتأكيد مجال لزيادة أكبر لأن إسرائيل تستهلك ما يقرب من ثمانية ملايين طن من الفحم إضافة إلى نصف مليون طن من زيت الوقود سنويا لتوليد الكهرباء.

 

لذلك فإن إحلال الغاز سيؤدي إلى التخلص من كلفة الاستيراد ويحافظ على البيئة.

 

إن إسرائيل تحتاج إلى ما يقرب من 700 م ق م يوميا وهو إنتاج  تامار الذي يخطط له بطاقة 1000 م ق م يوميا في 2013.

 

أما حقل طاغوت فليس من المتوقع أن يبدأ الإنتاج قبل 2017 وسيكون فائضا عن حاجة إسرائيل التي تفكر في تخزين إنتاجه في حقل نوا الناضب إضافة إلى تصديره إلى أوروبا عن طريق خط بحري إلى اليونان أو بإقامة مشروع لتسييل الغاز في قبرص أو باستخدام معامل التسييل في مصر.

 

ولا حاجة للقول إن هذا الحلم الإسرائيلي بحاجة إلى استثمارات عالية لتطوير الحقول وبناء البنية التحتية من معامل معالجة وشبكة أنابيب.

 

وتقدر شركتا نوبل إينرجي ودليك الإسرائيليتان الشريكتان في تطوير حقل طاغوت الحاجة إلى عشرة مليارات دولار لتحقيق التطوير والتصدير وتسعيان إلى إقناع مستثمرين من قبرص وربما الصين وروسيا.

 

لكنّ هناك شكا كبيرا في أن تضحي الصين وروسيا بمصالحهما في الدول العربية والإسلامية لمساعدة إسرائيل في جعل غازها منافسا للغاز الروسي في أوروبا.

 

ويقترح تقرير للكونغرس الأميركي -بدون خجل– على إسرائيل الاستمرار في استيراد الغاز المصري المتدني السعر و"البدء في تصدير الغاز في الأغلب إلى أوروبا والأردن لتعزيز أمن الطاقة والاقتصاد".

 

ولكن مصر تحت ضغط الجماهير وخبرائها تعمل على تعديل الأسعار على الأقل إذا استمرت الصادرات إلى إسرائيل. وخلال هذا الصراع فإنه من المستغرب غياب صوت مصر في تحديد حقوقها البحرية شمال سيناء التي تمتد إلى مناطق قبرص على الأقل، ولمصر اتفاقية مع قبرص لتحديد الحدود البحرية منذ 2004 وكان وزير الطاقة المصري السابق سامح فهمي قد صرح بأن مصر "تدرس أبعاد الحدود البحرية للتمكن من تحديد حصتها من الاحتياطي".

  

والآن أصبح واضحا أن إسرائيل قد سبقت الجميع في تطوير موارد الغاز في حوض بلاد الشام. فهي تقوم بالاستكشاف والحفر والتطوير في أكثر من حقل.

 

وأفادت تقارير أن اتفاقا مبدئيا قد عقد مع شركة دايوو الكورية لبناء وتشغيل معمل بحري لتسييل الغاز.

 

أما قبرص فهي تسعى كذلك بجد لتطوير منطقتها وتنسق مع إسرائيل بدلالة الزيارات التي قامت بها وزيرة الخارجية وزيارة مسؤولين لمواقع الحفر.

 

وهي إذ تعمل في رقعة واحدة في الوقت الحاضر مع نوبل إينرجي فإنها ستعلن عن قريب 12 رقعة إضافية أو تستدعي الشركات لتقديم عروضها أو تتفق مباشرة مع بعضها.

 

أما لبنان فقد كانت له اتصالات منذ زمن بعيد مع الشركات الاستشارية التي بينت أن هناك إمكانيات هيدروكربونية في مياهه الإقليمية والدولية.

 

لكن من الملاحظ بطء لبنان في التحرك وأن الإطار  القانوني لاستكشاف الموارد لم يقر إلا مؤخرا.

 

وساهمت أكثر من 85 شركة في منتدى الاستكشاف النفطي الذي عقد في لبنان في يونيو/حزيران 2011.

 

وربما يقوم لبنان قريبا بدعوة الشركات إلى الاستكشاف إلا أن  الخلافات السياسية في هذا البلد قد تؤخر مجددا هذه العملية. وتجاه مشاكله مع إسرائيل فإن تركيا قد صرحت بأنها "ستفعل كل ما بوسعها لدعم رأي لبنان في مياهه وحقوق الحفر فيها".

 

وكذلك الحال في سوريا التي كانت تعتزم الإعلان عن جولة تراخيص في مطلع 2012، إلا أن أوضاعها الداخلية ومقاطعة الشركات الغربية وتأزم علاقاتها مع تركيا قد أخر ذلك.

 

ويبدو الوضع معقدا أكثر بسبب تداخل المناطق البحرية الحصرية للدول مما يقتضي أحيانا اتفاقا متعدد الأطراف.

 

وتقول صحيفة الفايننشال تايمز إن موارد الغاز "كبيرة جدا بحيث إن الخارطة الاقتصادية للمنطقة تتغير حتى في ظل اشتعال التأزم".