تدير بيت الدعارة في المحل العمومي القوادة التي تسمى بالعامية البترونة ( و هو مشتق من الكلمة الفرنسية باترون التي يطلقها الفرنسيون باحترام على السيد او السيدة التي تتولى إدارة مكان ما) ، و تقوم القوادة باستئجار الدار ، و تشرف على تأمين مفروشات و متطلبات مكان عمل و مبيت الفتيات ، لقاء الجزء الأكبر من الأجور ، و يقع على الفتاة مصاريف أكلها و كسائها ، و تقبض الباترونة المال مباشرة من الرجال و لا تقبضه الفتاة ، و غالبا ما تمضي الفتاة حياتها و هي مدينة لهذه القوادة التي تستنزف مالها بشتى الوسائل و السبل ..
أشهر القوادات في ذلك الزمان هي حميدة ، و التي تابت في آخر حياتها ، و قررت التبرع بكامل أموالها لعمل الخير ، في عمل نبيل قل من يقومون به ،رجالا و نساءا ممن امضوا حياتهم في جني المال الحرام ، و توجهت الى أحد رجال الدين ، و طلبت منه ان يقبل تبرعها بعدما رفض البقية قبوله ، و فعلا بُني منزل من أموالها خصص للتائبات الراغبات في تمضية بقية حياتهن فيه ،و يقمن فيه ببعض الأعمال اليدوية لكسب العيش الشريف .
خارج المحل العمومي في البناء الذي أزيل و أقيمت مكانه المكتبة الوطنية ، كان منزل سيرانوش الشهيرة و هي يونانية الأصل ، و لديها مجموعة من الفتيات ، و كان لها الكثير من المشاكل و الدعاوي في المحاكم .
كما يتعاون مع القوادة في خدمة الدار رجل يسمى بالعامية - عذرا من القارىء - ( العرصة ) ، و كلمة عرصة هذه لها تصحيف و معان مختلفة ، فحاليا يقال لقطعة الأرض غير المبنية (عرَصة ) بفتح الراء ، و قد اعتاد العرب ان يبدلوا حرف الصاد بحرف السين ، فكلمة ( سراطا ) مثلا تأتي أيضا ( صراطا ) ، و نقول أيضا سنارة و صنارة .
و تأتي كلمة عرّص عند العرب مطابقة لكلمة عرسّ ، و تعني انه نزل أرضا او مقاما للاستراحة ، و منها العريس و العروس اللذين يأخذان مكانا خاصا ليلة العرس للاستراحة فيه .
و بذلك تكون مهمة ( العرصة ) في المنزول تأمين مستلزمات مكان الاستراحة ، و مهمته أيضا القيام بمهمة صلة الوصل بين القوادة و السلطة ، و في حال قدم أي زبون شكوى بحق الدار يتحمل العرصة المسؤولية التي تصل للحبس .
من المتعارف عليه دخول الرجال مجانا ، للفرجة فقط على الفتيات في ارض الديار ، و يسمى هؤلاء ( حييكة ) و تسألهم الباترونة في صيغة تحريضية هل انتم ( حييكة أم ..... )
أحيانا تقع الفتاة في هوى رجل فتستقبله مجاناً ، و غالباً بعد منتصف الليل ، و ينبغي على الفتاة التعويض على القوادة من مالها الخاص .
الرجل الذي تقع الفتاة في هواه و يقع في هواها ، تقيم له حفلا يسمى البالو ( و يبدو أن الاسم مشتق من كلمة ball التي تستعمل في الانكليزية و تعني حفلة راقصة مختلطة ) ، تدعو إليه صديقاتها من المومسات و يدعو هو بعض أصدقائه - إذا شاء - و تصبح محرمة على أصدقائه كما يصبح هو محرما على صديقاتها .
و يتحول الى متردد دائم عليها و يقوم بحمايتها و مبادلتها الهوى ، و تقوم هي بالإنفاق عليه إذا شاء ، و أطلق الحلبيون على هذا الرجل لقب السيفونجي ، و قد كان محتقراً جدا في المجتمع، و لقبه مشتق من الكلمة الفرنسية ( سيفون ) و التي يطلقها الحلبيون على مجرى تصريف المياه الوسخة .
و قد يتورط أحد شباب العائلات المعروفة بقصة حب مع فتاة من المحل العمومي فيطرده أهله و يمنعوا عته المال ، فيتحول الى سيفونجي .
روى لي قاضي متقاعد حقق في قصة كاترينا اليونانية عندما كان نائبا عاما ، التي قام أحد الأشرار بقطع يدها ، لنزع مصاغها الذهبي منها بعدما لم يستطع إخراجه من يدها ، ففقدت وعيها و نزفت ، حتى وصل دمها للطابق الأرضي فحُملت للمشفى ، و في بادرة إنسانية أغلقت الفتيات المحل العمومي و توجهن جميعا للتبرع بالدم لكاترينا.
و في خطوة نادرة و غريبة ، تأثر بها بشدة القاضي الذي روى لي الحادثة ، تبين و جود الشعور الديني عند هؤلاء الفتيات ، اقترحت إحداهن إقامة مولد نبوي شريف على نية شفائها ، و فعلا جلبت حميدة ، عدة قراء من العميان الذين يتواجدون في ساحة الجامع الأموي لإقامة المولد ، و تحجبت جميع الفتيات ، المسيحيات منهن و المسلمات ، و أقمن مولدا على هذه النية ، و لكن كاترينا فقدت الحياة من شدة النزيف.
و كانت بعض الفتيات يصمن في شهر رمضان و يصلين و يتوقفن عن العمل حتى أول أيام العيد .
يحكي الحلبيون عن كثير من الرجال أحبوا فتيات من داخل المحل العمومي ، و تبنّ على أيديهم و تزوجوا منهن فأخْرَجَوهم من دار البغاء ، بشرط ان يقدموا تعهداً للسلطة و على مسؤوليتهم بعدم عودة زوجاتهن للدعارة ، متحدين بذلك كل أعراف المجتمع ، و يروى عن هؤلاء الزوجات أنهن تبن توبة نصوح و كن خير أمهات لأولادهن ، و كانت كل الفتيات في المحل العمومي يتمنين هذا المصير .
كما روى لي أحد المحامين المتقاعدين قصة غريبة عن فتاة كانت تُعرف بأنها تخاف من حلف اليمين - سواء يمين صادق أو يمين كاذب - فهي لا تحلف يمين أبدا ، و قد عُرف هذا الأمر عنها ، فقام رجل محتال جشع بإقامة دعوى عليها زاعما أنها استدانت منه مبلغ مائة ليرة سورية ، و عندما أنكرت الفتاة أمام القاضي دعاها المحتال الى حلف اليمين بأنها لم تستدن ، فرفضت وفقا لمبدئها ، و قام القاضي بإلزامها بدفع المبلغ .
و بعد فترة كرر هذا الرجل الأمر ، و دعاها مرة أخرى لحلف اليمين ، فنصحها البعض بشرح حقيقة الأمر للقاضي ، الذي تأكد من الأمر ، و ألزم المحتال بإعادة المبلغ القديم و هدده بالحبس ان كرر ذلك .
و روى لي قاض متقاعد آخر دعوى عرضت عليه ، قام فيها أحد الشبان بالاتفاق مع امرأة من المنزول على التوبة و الزواج منها بعد أن تشتري بيتا من مالها الخاص ليكون بيت الزوجية ،و اصطدمت المرأة برفض أصحاب البيوت بيعها أي شقة كانت لأنها معروفة منهم ، فاضطرت الى إرسال هذا الرجل لشراء الدار و تسجيل ملكيتها باسمه ، و بعدما فرشتها و جهزتها من مالها الخاص فوجئت به يغير أقفال المنزل ، و يتزوج فيه من غيرها .
فما كان منها إلا ان راجعت القضاء للحصول على حقها ، فوقف أغلب الناس في صف هذا الرجل و رفضوا مساعدتها في استعادة حقها .
حتى وصلت الدعوى الى محكمة قاض معروف ، اشتهر زمنها بالنزاهة و الشرف ، فأجبر الشاب بعدما تأكد من صدق روايتها على إعادة المنزل لها ، و قد توسط الكثيرون لدى هذا القاضي لمصلحة الشاب ، باعتبارها مومساً و مالها مالا حراماً ، مباركين فعل سلب الشاب لحقوقها ، و يذكر الكثيرون دخولها المحكمة ، و تقبيلها الأرض بين يدي ذلك القاضي ، رافعة يديها بالدعاء له ، و هي غير مصدقة إنصافه لها .
كان أهالي البغايا أحيانا يقتلن البغي عندما يعلمون فجأة بمكانها و بعملها هذا ، بعدما تكون قد هربت من بلدها لأسباب مختلفة ، و وصل بها الأمر الى المحل العمومي ، و أحيانا كانت تقوم بهذا العمل بعلم أهلها و تمدهم بالمال من شدة فقرهم ، و قد يقوم احد أفراد عائلتها بقتلها إذا ما توقفت عن إمدادهم بالمال .
حدثني قاض متقاعد ثالث عن دعوى عرضت عليه ، قصتها أن فتاة كانت تعمل هناك ، و كان أخوها يقوم بزيارتها للحصول على مصروفه منها ، و بعد مضي عشر سنوات تقدمت الفتاة في السن و قل روادها و بالتالي قل واردها المادي ، فلم تعد تعطي أخاها نقودا ، فقام بقتلها انتقاما منها ، و قد دافع المحامي الذي توكل عن الأخ بأن القتل كان بدافع شريف ، و قد حكمت محكمة الجنايات بإسقاط العقوبة عته بأكثرية مستشارين بمواجهة المستشار الثالث و هو القاضي المذكور ، الذي رفض اعتبار الجرم انتقاما للشرف ، و طلب تشديد العقوبة على الأخ لأنه أمضى عشر سنوات يستغل شقيقته ، و لم يستيقظ شرفه إلا بعد ان أوقفت الأموال عنه ، و أيدت محكمة النقض رأي المستشارين و حكمت بأن القتل لدافع شريف ، و عللت أن دافع الشرف قد يفاجىء الإنسان في أي وقت و لو جاء متأخرا .
في أواخر أيام المحل العمومي اشتهرت قصة الفتاة عتاب ، التي كان أخوها الأول يعمل معها في المنزول ، و قام أخوها الثاني الذي كان في السجن - لجريمة ارتكبها - فور إطلاق سراحه ، بذبحها ، و العودة ثانية للسجن .
في عام 1958 ، أيام الوحدة بين مصر وسورية ، أصدر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر القانون رقم 10 للقطرين السوري و المصري ، قضى هذا القانون بإلغاء البغاء وإغلاق كل دور الدعارة .
و عاقب القانون في حينه كل مدير للمحل العمومي يستمر بالعمل ، بالحبس لمدة تصل حتى أربع سنوات ، و قد نص القانون أن على وزير الشؤون الاجتماعية والعمل إيداع البغايا المرخص لهن من تاريخ العمل بهذا القانون بمؤسسة خاصة ، وللمدة التي يراها مناسبة لتأهيلهن لحياة كريمة وتدريبهن على الكسب الشريف .
من غرائب القانون المذكور ، الذي ألغى ترخيص بيوت الدعارة -علما انه القانون الساري حتى يومنا هذا - ان الرجل لا يعاقب بأي عقوبة في حال ضبط مع فتاة دفع لممارسة الدعارة معها ، بل تعاقب الفتاة فقط .
أما عقوبة من يسهل الدعارة و هي القوادة أو القواد الحبس حتى ثلاث سنوات ، ويحكم بإغلاق المحل ومصادرة الأمتعة والأثاث الموجود به ، و في حال قام هؤلاء بإكراه و إجبار الفتاة على الدعارة او استقدموا المومسات من خارج القطر ، يكون الحبس حتى خمس سنوات .
و في حال استخدم القوادون فتاة قاصراً عمرها دون السادسة عشر ،تشدد عقوبتهم و تصل حتى الحبس لسبع سنوات.
و في حال كان من يسهلون دعارتها أبوها أو شقيقها او زوجها ،سواءاً كانت قاصراً أو غير قاصر ، تشدد عقوبتهم كذلك ، و تصل حتى الحبس سبع سنوات .
أما مالك أو مؤجر بيت الدعارة ، الذي سلمه لقواد يديره و هو عالم بنشاط البيت ، فيعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر و حتى ثلاثة سنوات .
أما الفتاة التي تمارس الدعارة و تعتاد عليها و يتم ضبطها عدة مرات ، فتعاقب بالحبس من ثلاثة اشهر و حتى ثلاث سنوات ، و تتهج أغلب المحاكم حاليا بتطبيق الحد الأدنى للعقوبة و هو ثلاثة أشهر .
لم ينفذ هذا القانون عند صدوره إلا لجهة توقف السلطة عن إيداع الفتيات اللواتي يقبض عليهن بجرم الدعارة في المحل العمومي .
خلال سنوات.. تم ترحيل الفتيات اللواتي لم يكن يحملن الجنسية السورية ، و بذلك تناقص عدد الفتيات تدريجيا ، و كبرت المتواجدات في المحل العمومي في السن .
و لغاية عام 1974 كان عددهن قد أصبح قليلا ، و أصغر النساء سنا قد تجاوزت الأربعين .
أخيراً ... بعد أربعة و سبعين عاما ، قررت بلدية حلب هدم منطقة المحل العمومي ، في إطار مشروع تحسين منطقة باب الفرج.
و فعلا هُدم المنزول ، و ما زال مكانه خراباً حتى هذا التاريخ ، و تفرقت المومسات إلى أماكن مختلفة في المدينة ، منهن من تابت ، و منهن من استمرت في ممارسة الدعارة السرية .
و انتقلت بعضُ منهن الى مدن بعيدة لتجنب الاقتراب من أهلهن ، مثل مدينة دير الزور ، و مدينة القامشلي التي سمي المحل العمومي فيها باسم (البيت الأبيض) .
أخيرا ...و في نهاية هذه الدراسة أقول : سمعت تعليقا طريفا كرره الكثيرون أمامي عند جمعي لمعلومات هذه الدراسة ، و لا أدري فيما إذا كانوا محقين به : ( من زمان كان الوضع أفضل ..فقد كانت الدعارة محصورة في المحل العمومي في حي بحسيتا ، أما الآن فقد صارت قرب بيوتنا ، في العديد من الأحياء ، و في المنازل الخاصة و المزارع المقامة في الضواحي).
المحامي :علاء السيد
[url=http://www.jablah.com/modules/news/article.php?storyid=3888]تابع الجزء الأول[/url]