الأب سهيل قاشا
وكان نهر يخرج من عدن ليقي الجنة ومن هناك ينقسم فيصير اربعة رؤوس
لقد تتبعت آثار الأنهر الأربعة التي ورد ذكرها في الفصول الأولى من سفر التكوين مبتدئاً من البقعة التي ذكرت التقاليد الإسرائيلية انها كانت (ابواب الجنة) ومستعيناً بالخرائط والمستويات التي توضح طوبوغرافية البلاد، فظهر لي ان الفرات يدخل دلتاه من نقطة تقع على بعد بضعة أميال جنوب بلدة هيت عند أبواب بابل حيث تركت حملة كورش الصغير المؤلفة من عشرة آلاف جندي، الصحاري ودخلت السهول الدلتاوية المنتهية بخليج العرب. والذي أطلق عليه السائر نحو الجنوب في اتجاه الفرات اسم أبواب بابل هو الذي سماه الأسرى اليهود الذين جيء بهم الى سهول بابل أبواب الجنة .
والحوادث التي ورد ذكرها في الفصول الأولى من سفر التكوين وقعت في أرض لا تجود سماؤها بالأمطار، فكانت تعتمد كل أنواع الحياة فيها على الري الذي هو أقدم علم عرفه الإنسان (الرب الإله لم يكن قد أمطر على الأرض إلا أنه كان ضباب يطلع من الأرض ويسقي كل وجه الأرض تك 2: 5 و6 ).
ومن البديهي أنه لا يمكن ان يؤمن الضباب المذكور، مهما كانت الحالة أولية؛ نمو الأشجار وبقاء الحدائق فلا شك اذن في ان المراد بالكلمة الأصلية التي ترجمت بالضباب (الارواء السيحي) المقابل للارواء (برجل المرء) او (الارواء بالواسطة): وقد سالت الأستاذ المحترم سايس عن هذا الموضوع فأخبرني بأن هذه الكلمة لم ترد في أي مكان آخر في العهد القديم ومن المعقول أن يكون المقصود بها هنا هو (الري السيحي) . ولما كانت مصر والعراق وهما أقدم البلاد المتحدثة في العالم، واقعتين على حافة صحاري بلاد العرب فمن المظنون جداً أن تكون أقدم الأقوام قد استوطنت هذين القطرين إنما نزحت اليهما من بلاد العرب.
وكان ظهور الجنس البشري على وجه الأرض أول مرة في مناطق حبتها الطبيعة بنعمة الغيث الوفير الذي يكفي لتغطية وجه الأرض بالعشب والغابات. وهذه الغابات هي التي كفلت بقاء الجيش البشري وحافظت عليه من خطر الوحوش الضارية المحدقة به، اذ كانت بمثابة الملاجىء الطبيعية التي تقيه عدوان هذه الوحوش وشرها. وكان تنازع الإنسان البقاء المستمر في مثل هذه البيئة القاسية بالغاً أشده، فلم يكن لدى الإنسان الأول متسع من الوقت ليقوم بعمل أساسي في تقدم الحضارة. على أن الحالة تغيرت كثيراً عندما نزح الإنسان إلى الواحات الكائنة في الصحاري أو الى السهول الواقعة على ضفاف الأنهار كالسهل الواقع بين عانة وهيث في أعالي الفرات إذ أصبح في مقدور الإنسان في هذه البيئة الجديدة إبادة هذه الوحوش الضارية التي اخذ عددها يتناقص نتيجة كفاح الإنسان لها بينما انعدم المورد الذي كانت تأتي منه في الصحراء.
وكان القضاء على هذه الوحوش سبباً في أن يكون لدى الإنسان متسع من الوقت ليعمل في سبيل تمدنه وتقدمه العمراني.
العرب الذين كانت مساكنهم تمتد من مصب النيل الى هيت الواقعة على الفرات. وقد فاه بهذه العبارة الكاهن الوثني الذي كان يسكن الفرات والذي كان استعراضه لأحوال العالم الآسيوي الغربي وديانته مصدر وحي لبني إسرائيل.
لم يترك لنا العرب القدامى الذين سكنوا الخيام واتخذوا آنيتهم من الطين، من الآثار ما تركه لنا المصريون والبابليون ولكن بلاد العرب قذفت من أعماقها المحرقة بأبنائها الأشاوس الذين كانوا اول من أخضع سهول النيل والفرات. ومن السهل معرفة السبب الذي من أجله تفوق سكان سهول الفرات على منافسيهم سكان سهول النيل وذلك لأن كل شيء في مصر سهل يمكن الحصول عليه بدون جهد وعناء، فالنيل (ملك الأنهر) كان ولا يزال يجري ويفيض على غاية من الانتظام والوقار وهو يحمل في كل عام كميات معتدلة من الترسبات ولأجل هذا فإنه لا يخلق للذين يسكنون ضفافه مشاكل صعبة. وأرض مصر، جنة الله، خصبة جداً، وذات مناخ رائع في الشتاء ومعتدل في الصيف، لهذا كله فإن مصر لم تنتج أفكاراً عالمية ولم يكن بين أبنائها من اتصف بالنظرة الواسعة بحيث تكون له عيون تحدق من السماء إلى الأرض ومن الأرض إلى السماء.
أما الحالة في العراق فتختلف عن مصر كثيراً، فالسيول الجارفة التي تملأ حوض دجلة والفرات في موسم الفيضان يحتاج التغلب عليها وضبطها الى قوة خارقة. ثم ان أراضي العراق خصبة جداً الا ان شتاءه قاس جداً في حين ان الصيف شديد الحرارة فيه، وطويل الأمد، ونسبة الفرق في درجة الحرارة في الظل كنسبة الفرق بين 20 درجة و120 فهذه المدرسة القاسية التي نشأ فيها سكان بابل هي التي اوجدت فيهم هذا الارهاف في الحس والقابلية الفكرية العظيمة.
وعندما اتجه الساميون القدماء (أو الأكاديون) كما كانوا يسمون أنفسهم، أسلاف عرب الشمال، وفي ضمنهم بنو إسرائيل إلى الفرات تاركين وطنهم الأصلي الذي تتوفر فيه الأمطار الموسمية المنتظمة ودخلوا السهوب الواقعة في شمال بلاد العرب، كانت الواحة الأولى التي واجهوها في طريقهم هي البقعة الكائنة بين عانة وهيت. والفرات في هذه المنطقة يمر اليوم بسلسلة من الشلالات غير المنتظمة فيستخدم التيار المتكون منها في تدوير النواعير الكبيرة التي ترفع المياه فتسقي الوادي الضيق الذي ينتهي بالصحراء. وقد كانت هذه البقعة ولا تزال ملأى بالحدائق والبساتين تتخللها حقول الذرة او القطن. وليس هذا بالأمر الغريب فالحياة والرخاء يتوفران حيث تتوفر المياه. واليوم بعد هبوط تلك الشلالات - ذلك الهبوط الذي لاحظ نموه المطرد كتّاب عصر أوغسطين - أصبح من الضروري الاستعانة بالنواعير في أرجاء تلك البساتين والحدائق. وتدل الطبقات الرسوبية التي نلاحظها في النهر فوق منسوب أعلى الفياضانات الحالية ان المياه كانت منذ زمن غير بعيد تؤخذ بالطريقة السيحية من مقدم الشلالات فتروي بها البساتين التي كانت واقعة جنوب هذه الشلالات والتي كانت بعيدة عن اخطار الفيضان. هكذا كانت جنة عدن الوارد ذكرها في العهد القديم.
واليوم عندما ننحدر في اتجاه الفرات فأول شيء نواجهه في هذه البقعة هو النخل ذلك الشجر الذي يعتبره العالم العربي بأجمعه حتى أيامنا هذه، رمزاً للحياة. (ومن الجدير بالملاحظة أن العادة المتبعة في جميع بلاد العرب هي أن من يغرس نخلة فإنه يكون مالكاً لها حتى ولو كان هذا الغرس في أرض تعود إلى غيره او في أرض ملكيتها عامة) وكانت هذه البقعة الممتدة من الفرات إلى دمشق ملأى بحقول الحنطة الكثيفة التي كانت تنمو بطبيعتها.
استهدفت أثناء إقامتي في العراق مدة ثلاث سنوات دراسة نهر الفرات من منبعه إلى مصبه لأصل الى معرفة مكان الجنة التي يمكن تأمين وصول مياه السيحة إليها خلال الاثني عشر شهراً من السنة؛ فظهر لي أنه لا يوجد في المنطقة الواقعة جنوب هيت مكان يمكن أن تتوفر فيه الشروط المذكورة سوى الأراضي المستصلحة في منطقة الأهواز قرب خليج العرب، جنوب الناصرية، بجوار مدينة أريدو القديمة حيث كانت عدن السومريين التي سنتكلم عنها بعد قليل.
والدليل على ذلك أن الأراضي الواقعة بين هيت و منطقة الأهواز التي تبدأ بمدينة الناصرية شمال مدينة أور الكلدانية لا يمكن أن تؤمن لها الحياة الزراعية المستديمة طوال السنة في ذلك الوقت لأن القسم المنخفض منها كان يسقى سيحا في فصل الصيف بسبب هبوط مستواه بالنسبة إلى منسوب ماء النهر. أما في فصل الشتاء فإنه يصبح معرضاً لخطر الفيضان. والقسم الذي لا تصله المياه إلا في موسم الفيضان بالنظر لارتفاع مستواه بالنسبة إلى مستوى النهر فإنه لا يمكن ان تؤمن له المياه المطلوبة للزراعة في فصل الصيف. وعلى هذا فإننا إذا سرنا جنوب هيت لا نجد منطقة تصلح للإرواء المستديم طوال العام حتى نصل إلى منطقة الأهواز المذكورة.
(وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة ومن هناك ينقسم اربعة رؤوس) وكانت هذه الجنة حديقة غناء مليئة بالنخل الذي لا يزال يعتبر حتى يومنا هذا شجر الحياة كما انها كانت مليئة بأشجار الكروم، أشجار المعرفة التي حرّم أكل ثمرها. والتربة والمناخ هنا يصلحان بطبيعتهما لنمو الأشجار المثمرة على اختلاف أنواعها، كالنخل وشجر البرتقال والخوخ والإجاص. غير أن النخل يعتبر من أهم ما تنبته هذه الأرض وذلك لأن زراعته لا تحتاج إلى جهد كبير كما يقول المثل اغرسه في الماء واتركه فهو ينمو بطبيعته .
وينقسم النهر جنوب جنة عدن إلى أربعة فروع رئيسية، يسمى الأول فيشون ويشمل هذا منخفض الحبانية وأبا دبس الواقعين بين الرمادي وكربلاء، واللذين تغمرهما مياه الفيضان. وكان الاعتقاد السائد قديماً أن هذين المنخفضين متصلان، ولكن المسح والتسوية اللذين أجريا أخيراً أثبتا خلاف ذلك. وقد وضعت تصميماً لربط هذين المنخفضين واستخدامهما كمخرج لسحب المياه الزائدة أثناء الفيضان وتخليص البلاد من أخطار الغرق. وبمقتضى هذا التصميم يمكن أيضاً خزن هذه المياه الزائدة للاستفادة منها لأغراض الري. وقد بوشر بتنفيذ هذا المشروع.
وكان البابليون يعتقدون أن نهر نيشون، هذا يشمل كل أرض الحويلة وهي المنطقة الواسعة التي تمتد من حدود مصر إلى بلاد آشور وذلك لأنهم شاهدوا في جوار هذه المنخفضات مئات من الأميال المربعة من الصحراء وهي مغطاة بالماء فظنوا ان هذه المياه تمتد الى مسافات طويلة في جزيرة العرب. ويرى الناظر اليوم في هذه المنطقة طبقات كثيفة من المحار الصدف الفراتي تغطي وجه الأرض من حدود النهر إلى مسافة تبلغ 50 ميلا داخل حدود الصحراء. والنهر الثاني جيحون - نهر الهندية الحالي - وهو نهر خابور الذي دُفن النبي حزقيال في إحدى ضفّتيه. وقد أطلق عليه في سفر عزرا اسم (أهورا).
أما في زمن الإسكندر فكان يسمّى (بالاكوباس) وكان يسمّى في أوائل عهد الخلافة الإسلامية نهر الكوفة. وهذا النهر يشمل كل منطقة كوش إلى نمرود الذي تبدأ ممكلته في بابل وأوروك وأكاد وكلته الواقعة في سهل شعّار. وكان يطلق اسم (كوش) في زمن موسى على بابل. اما في عصر الأنبياء فكان يطلق هذا الاسم على اثيوبيا ولا شكّ ان (جيحون) كان يملك كل أراضي كوش في زمن موسى وقد حكم الكوشيون هذه الأراضي مئات السنين. والنهر الثالث كان يعرف باسم (حداقل) و(دقل) و(دجلة) وهو فرع الصقلاويّة الحالي. ويبلغ عرض هذا النهر 250 قدماً أمّا عمقه فيبلغ 25 قدماً. وهو يشبه في جريه مصنع القناة التي تدير الطاحونة. أمّا اتجاه جريه فإنه ينحدر أولاً نحو منخفض عقرقوف ثم يمر من هناك فيصب في دجلة قرب بغداد. وهذا النهر لو ترك وطبيعته فإن في إمكانه أن يزوّد دجلة بأكثر من نصف مياه الفرات. ولا شك أن الأقدمين كانوا يعتبرونه المنبع القديم لدجلة اما اعتقاد البابليين بأنه الجاري شرقي آشور فهو في الحقيقة نصف مطابق للواقع تماماً.
والنهر الرابع الفرات وهذا النهر غني عن التعريف فهو نهر بابل نفسه.
وكما نقل البابليون المستعمرون اسم دجلة البابلي معهم الى نينوى كذلك اطلقوا بلا شك بعد مضي ازمنة طويلة اسم نهر بابل على المجرى العظيم الذي كانت ضفافه مهداً للجنس البشري. فكان هناك اسمان لنهرين احدهما الفرات والاخر دجلة.
سبق لي أن ذكرت أن مستوى الماء في المنطقة الواقعة بين عانه وهيت قد هبط في الخمسة آلاف او الستة آلاف سنة الأخيرة حتى أصبح من المتعذر إرواء الجنائن الواقعة في تلك السهول بطريقة الري السيحي كما كان الحال سابقاً وغدا من الضروري استخدام النواعير لتامين إرواء تلك الأراضي القديمة. أما الهبوط الذي حصل في مستوى الماء في دجلة فكان عظيماً وفجائياً. فقد بلغ في شمال سامراء 40 قدماً في الخمسمئة سنة الأخيرة وبذلك تحوّلت الجنائن الخضراء التي كانت تروى في هذه المنطقة إلى صحاري قاحلة.
ويرمز بآدم إلى الذكور من البشر ويرمز بحواء الى الإناث منهم، كما يرمز بقايين إلى طبقة الفلاحين وهابيل إلى طبقة الرعاة. وهذه هي الطريقة الشرقية في تسجيل الحقائق أو سرد الحوادث فقولهم كوش ولد نمرود معناه أن الأسرة البابلية أعقبت الأسرى الكوشية وأن نهر بابل أعقب نهر كوشا المتشعب من الفرات. فلو أردنا أن نعبّر عن استقلال الولايات المتحدة بلغة العهد القديم لكان علينا ان نقول: إن جورج الثالث ملك إنكلترا ولد جورج واشنطن الذي ابتدأت دولته في بوستون ونيويورك وفيلادلفيا وسافا .
وكان أول السكان الساميين المتحضّرين الذين استوطنوا البقعة المحصورة بين عانه وهيت، يعتمدون في حياتهم على الري. ولكن هبوط الشلالات في تلك المنطقة حرمهم من المياه التي كانت تروي جنائنهم واستحالت أراضيهم الزراعية الى صحاري قاحلة فاضطروا إلى مغادرة ديارهم والاتجاه شرقاً غير انهم لم يجدوا سوى منطقة مليئة بمنابع القار والنفط وهي منطقة محرقة وموحشة تقع شرق مدينة هيت وقد تراءت لهم هذه المنطقة كأنها أصيبت بلهيب سيوف سيرافيم المظاظ.