فواز طرابلسي "السياسي المؤرخ"
مسعود ضاهر - النهار
ما جديد كتاب "تاريخ لبنان الحديث: من الإمارة إلى اتفاق الطائف" لفواز طرابلسي؟(o) سؤال بديهي حول كتاب استغرق إعداده سنوات طويلة لنيل الدكتوراه في التاريخ؟
مكتبة غنية على غرار أرقى الأطروحات الأكاديمية الجادة تجمع بين الأرشيف، والمصادر والمراجع المنشورة بالعربية والفرنسية والإنكليزية. ومنهج واضح الانتماء إلى مدرسة التاريخ الاجتماعي التي تعطي الباحث حرية واسعة في شكل الاقتباس، والتبويب، والتحليل، والاستنتاجات. وقد لا يلزم الباحث نفسه كما فعل فواز طرابلسي، في كتابة مقدمة توضح رؤيته في تحديد جغرافية الأرض اللبنانية، ومن هو اللبناني عبر التاريخ، وزمن العلاقة بين ماضي اللبنانيين وحاضرهم، وغيرها من الشروط الواجب توافرها في الدراسات التاريخية الكلاسيكية.
لكن مناقشتنا ستقتصر على مادة كتابه دون الغرق في التفاصيل الأخرى. ومع أنها مادة غنية ومتنوعة إلا أنها تبقى عاجزة، كجميع الدراسات التاريخية، عن الإحاطة بالأحداث التاريخية للمرحلة الممتدة ما بين 1585 و1989. كان لا بد من الاختيار المكثف جدا، وأحيانا عبر قفزات سريعة لم يألفها من اعتاد قراءة تفاصيل الأحداث اللبنانية، خاصة لمن أدمن قراءة مؤرخي الطوائف في لبنان.
في هذا الجانب ينحو الكتاب نحو المغايرة عما كتب سابقا عن تاريخ لبنان الحديث والمعاصر. فالدراسات الشمولية تتضمن، في الغالب، أبحاثا عامة دون الدخول في تفاصيل الأحداث.في حين أن الدراسات المعمقة تناول حقبة زمنية قصيرة أو شخصيات تاريخية بارزة، وبشكل خاص دور الأميرين فخر الدين المعني الثاني، والأمير بشير الشهابي الثاني في تاريخ لبنان الحديث. وهنا أيضا تبرز مغايرة المؤلف حيث لم يخصص لكل منهما سوى صفحات قليلة تصل إلى درجة الاختزال لشخصيتين شكلتا محور كتاب التاريخ المدرسي لعقود طويلة. فما هي الأهداف المرتقبة من هذه المغايرة؟
نشير بداية إلى أن المغايرة تعني طرح الموضوعات المعروفة بأسلوب جديد وصولا إلى استنتاجات جديدة. والجدة هنا ليست مفهوما قيما، سلبيا كان أو إيجابيا، بل محاولة للخروج من دائرة التأريخ التقليدي الطوائفي السائد في لبنان منذ عشرات السنين. فكتاب طرابلسي بحث أكاديمي مغاير وشديد الصلة بمنهجيتين:
1- منهجية التاريخ الاجتماعي من حيث هي مدرسة كونية متعددة الرؤى تشدد على تاريخ المجتمع أكثر من التركيز على تاريخ الأفراد، وتقيم التوازن بين ما هو سياسي، واقتصادي، واجتماعي، وثقافي و... -2 ومنهجية السياسي المؤرخ الذي لديه رؤية سياسية ليست جديدة بالكامل حول تاريخ لبنان. فتداخلَ الذاتي بالموضوعي إلى حد بعيد. وتعممت الرؤية السياسية لـ"الفتى بالأحمر" في نظرته العلمية التحليلية لتاريخ لبنان.
المؤلف متفاعل مع رؤية المؤرخين الاجتماعيين الذين كتبوا عن لبنان ويكاد لا يستثني أحدا منهم، لكنه لم يتفاعل مع روايات غالبية مؤرخي الطوائف في لبنان.
فهؤلاء في صراع دائم على تحديد من هو اللبناني، وما هي الحدود التاريخية للأراضي اللبنانية، وما نوع العلاقة العاطفية بين طوائف اليوم بمن سكن في تلك الأراضي، وذلك انطلاقا من معايير طائفية واضحة. وهم في صراع على امتلاك الزمن التاريخي طائفيا بحيث يبقى الموارنة أوفياء لنسب فينيقي مبهم منذ آلاف السنين، ويبقى السنة أوفياء لعروبة محتكرة وممزوجة بالإسلام.وتبحث كل طائفة عن بعد عاطفي مع إحدى دول الخارج، ويبحث كل مؤرخ عن دور طائفته في تاريخ لبنان "من الأزل وإلى الأبد".
وعبر الصراع على طائفية الأرض اللبنانية، والزمن التاريخي الموغل في القدم اشتد الصراع بين مؤرخي الطوائف وفق رؤى غير علمية وغير عقلانية. وأجاد أحمد بيضون في تصوير الكثير من سماته في كتابه "الصراع على تاريخ لبنان". وقد تجاوز فواز طرابلسي هذه الرؤية الطائفية المؤدلجة دون أن يتجاوز التنظير الإيديولوجي من موقع آخر عبر إشارات عدة داخل النص حيث قارن بين أسباب أحداث 1860 وأسباب الحرب الأهلية لعام 1975. وتبنى مواقف قاسية من بعض الزعماء اللبنانيين وصنفهم في خانة زعماء الطوائف والميليشيات وجماعة الكونسورسيوم أو تحالف رجال المال والتجار.
إن قراءة متأنية لعناوين فصول الكتاب وموضوعاته الفرعية تقدم دليلا قاطعا على أن هاجس المغايرة في كتابة تاريخ لبنان مسألة مهمة لكنها معقدة وخطرة. فهي تساهم في تحريك الكتابة التاريخية التي أصيبت مؤخرا بالجمود القاتل بسبب كثافة التنظير الطائفي، لكنها لا تقدم البديل المقنع لتجاوز التأريخ الطائفي ما لم تتحول إلى تيار واسع يؤسس لمدرسة تأريخية أكثر توازنا في رؤية عقلانية متماسكة لتاريخ مختلف الكتل السكانية في لبنان.
تضمن الكتاب ثلاثة عشر فصلا مع خاتمة ودون مقدمة.فجاءت عناوين الفصول على التوالي: إمارة جبل لبنان 1528 - 1842 عبر صفحات قليلة، وموت النظام المقاطعجي مخضبا بالدم، والمتصرفية في عظمتها وبؤسها، وبيروت عاصمة التجارة والثقافة، وجدليات الاتصال والانفصال، ومن الانتداب إلى الاستقلال، وجمهورية التجار، وعهد شمعون: السلطوية والانحياز الغربي، والشهابية وبناء الدولة، ومن الأزمة الاجتماعية إلى الحرب الأهلية، والإصلاح بواسطة السلاح، و"أطول انقلاب في تاريخ لبنان"، ونظام الحرب: الاقتصاد السياسي للميليشيات، وخاتمة مؤقتة بعنوان: اتفاق الطائف في التباساته والتناقضات.
مفردات الأزمة تسكن في غالبية تلك العناوين: الموت، الدم، البؤس،الأزمة، الحرب، السلاح، الانقلاب، الميليشيات، الالتباسات، التناقضات. وذلك من خلال توصيف نظام الإقطاع في جبل لبنان، ومعه نظام الملل العثماني وتجلياته في إمارة جبل لبنان.
تميز تاريخ هذه الإمارة بنزاعات مرحلية بين الحكام المحليين والسلطة المركزية في اسطنبول، وبنزاعات مستمرة بين الأسر المقاطعجية. ولعب الصراع على الإنتاج الريعي الهزيل أصلا، دورا بارزا في توليد نزاعات دموية. وفخر الدين المعني الثاني ليس سوى أمير تاجر يختصر تاريخ الأسرة المعنية التي لم تحظَ بأكثر من سبع صفحات. وأمضى الأمير بشير الثاني الشهابي قرابة نصف قرن في صراع دائم على مركزية السلطة، فاختصر بدوره تاريخ الأسرة الشهابية بأكملها. لكن العاميات الشعبية، خاصة في انطلياس ولحفد، أضعفتا مركزه، فتحول الصراع على السلطة إلى قطيعة ثم صراع دموي بين البشيرين. وحين انتصر الأمير الشهابي على الشيخ الجنبلاطي بدعم خارجي بسط سيطرته على مقاطعات الإمارة بالتحالف مع حاكم مصر.
وشهدت مرحلة الحكم الشهابي تبلور ظاهرات جديدة في تاريخ الجبل منها المدبرون، والتجار، والبلدات التجارية، والنفوذ المتزايد للكنيسة المارونية.
وبعد هزيمة بشير الثاني تقدم البطريرك حبيش ببرنامج عمل لدعم بشير الثالث خشية تعيين حاكم مسلم مكانه. وسرعان ما تفجرت ركائز المجتمع القديم في الجبل بسبب التطور غير المتكافئ بين القوى الطائفية المحلية. وتمخض نظام القائمقاميتين عن سنوات من الاضطراب امتدت خمس عشرة سنة برزت خلالها هوية جديدة للجبل بعد انتفاضة الفلاحين على مشايخهم في عامية كسروان، وقد طردوا آل الخازن منها خلال سنوات 1858 -1860. لكن الانفجار الطائفي كان سريعا في عام 1860 حيث وصل حريقه إلى دمشق. وتساءل طرابلسي عن هوية المجزرة وما إذا كانت ضد المسيحيين كرعايا أم كتجار، وعن دور القوى الأوروبية فيها. ودخل في مقارنة إيديولوجية واضحة مع الماضي بما هو حاضر، ومقارنة بين رواية أسباب حوادث الستين حين بدأت بشجار بين ولدين 1860، ورواية أسباب الحرب الأهلية بعد مجزرة بوسطة عين الرمانة في عام 1975 وما تلاها من حرب أهلية.
تبدو متصرفية جبل لبنان في تأريخ طرابلسي حكما ذاتيا نسبيا. وقد أفسحت المجال أمام تجارة استعمارية كان فيها الحرير المنتوج الأوحد في جبل لبنان. وشهدت المتصرفية توسع ظاهرة هجرة اللبنانيين إلى الخارج، وبروز التجار كقوة اجتماعية وسياسية جديدة، وتبلور الأطماع الاستعمارية الخارجية بالتزامن مع المطالب الاستقلالية المحلية. وتطورت بيروت بسرعة لتصبح بوابة الشرق والغرب. فباتت مدينة جديدة تضم مجتمعا من نوع جديد، ولديها الكثير من البنى التحتية الحديثة، التعليمية منها والثقافية. وانطلقت النهضة الأدبية والثقافية من مصر وبيروت إلى المشرق العربي. ورفع العرب شعارات متناقضة بين مطالب بحكم اللامركزية في سلطنة عثمانية موحدة ومنادِ بالاستقلال التام عنها. وبعد أن عانت بلاد الشام ويلات الحرب العالمية الأولى، دخلت متصرفية جبل لبنان في بازار تجزئة المشرق العربي.واحتدم الجدل بين دعاة الاتصال والانفصال في ظل الانتداب الفرنسي على لبنان.
برزت المعارضة الأشد في المقاطعات التي ألحقت بالمتصرفية وبيروت. وشهد لبنان تيارات متعددة منها دعاة الاتحاد العربي، وأنصار الحماية الفرنسية، ودعاة الاستقلال اللبناني، وأنصار "لبنان الكبير والمتوسط والصغير"، حسب توصيفه.
كان الخيار الأساسي في تلك المرحلة بين الاقتصاد والاستقلال السياسي، وترسيم الحدود الجنوبية، والانتقال من تشبيه لبنان بفينيقيا إلى اعتباره "سويسرا الشرق".
وتزايدت حدة الخلاف بين مصالح تجار مدينة بيروت ومصالح وجهاء الجبل.
فانفجرت الأزمات الاقتصادية والتحركات الاجتماعية المناهضة للسلطة وبلغت أوجها عام 1936، عام الأزمات مجتمعة. وتوج ذلك العام بمعاهدة تحمل من الاستقلال الشكل دون المضمون. فاستمر نضال اللبنانيين لتحقيق استقلالهم الذي جاء مصحوبا بنصين تأسيسيين: الدستور وميثاق 1943.
كان على النظام اللبناني في عهد الاستقلال أن يبحر في محيط هائج. فشارك في حرب فلسطين لعام 1948 واستفاد من المصائب التي حلت بشعبها. وبعد أن افشل انقلاب الحزب السوري القومي الاجتماعي، تعزز دور الكونسورسيوم المتشكل حديثا من تحالف التجار ورجال المال. فانتعش دور الاقتصاد الوسيط، وتم إخضاع الصناعة للتجارة، وتفككت عرى الوحدة الاقتصادية اللبنانية - السورية التي كانت متينة في عهد الانتداب الفرنسي. واسقط بشارة الخوري عام 1952 بعد ثلاث سنوات على تجديد ولايته. ومارس الرئيس شمعون الحكم بسلطوية عالية وانحياز إلى المعسكر الغربي. فانفجرت بوجهه "ثورة" 1958 التي انتهت مع "عملية الوطواط الأزرق" أو الإنزال الأميركي في لبنان.
وبعد إجهاض الإصلاحات الشهابية، وازدواجية الرئيس حلو وتناقضاته، دخلت النضالات الاجتماعية المطلبية في صلب الحركة السياسية.
فحذرت جريدة "العمل" الكتائبية من شبح كارل ماركس بعد أحداث 1965، وإفلاس بنك إنترا 1966، وبروز منظمة التحرير الفلسطينية وانتقال نشاطها إلى لبنان، والانقسامات الحادة بين اللبنانيين. فأسهب المؤلف في وصف تلك المرحلة التي عايشها عن كثب وساهم في نضالاتها. فكيف تبدى تاريخ لبنان المعاصر؟
بيروت عاصمة الثقافة العربية، واقتصاد لبنان حر واحتكاري، والزراعة في حالة أزمة دائمة. والحراك السكاني والاجتماعي متصاعد بسبب ارتفاع أكلاف المعيشة. والفروقات الطبقية والمناطقية والطوائفية تزداد حدة، وحزام الفقر يلف بيروت.
والتمايزات الطوائفية تأخذ مداها كذلك التمايز داخل الطبقة الوسطى. والحركات الاجتماعية تجمع ما بين التحرك في أديرة الشمال ونضالات مزارعي التبغ في الجنوب. وترسخت وحدة الحركة النقابية في لبنان على قواعد نضالية صلبة. ودخل طلاب لبنان في صراع شبه يومي ضد "مجتمع التجار". وأصيب النظام السياسي بجمود قاتل لأنه بني على تمثيل طائفي متفاوت وغير قابل للاستمرار دون إقرار توازنات طائفية جديدة. وتم إجهاض"الثورة من فوق" عام 1973.
بعد أن اشتدت حدة الانقسامات وحركات الاحتجاج في المؤسسات الدينية، بات هاجس الأمن يطغى على هاجس الإصلاح، ولم تعد شعارات العلمانية وإلغاء الطائفية متداولة في ظروف التصعيد العسكري المتبادل. فتساءل اللبنانيون: هل إن الجيش لأمن النظام أم للدفاع عن الوطن؟ لكن الجيش لم يقم بأي من هذين الدورين بل انقسم على ذاته فانهارت الدولة وأصيب لبنان بخراب شامل.
إقليميا ودوليا، تضاربت المواقف السورية والإسرائيلية وسط سباق بين الوساطة العربية والحسم العسكري، وأوهام التحالف بين المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية. وتفكك التحالف الثلاثي الذي ضم الرئيس سركيس والنظام السوري والجبهة اللبنانية. فاستغلت إسرائيل الفرصة للقيام بعملية "سلامة الجليل" عام 1982، واحتلت العاصمة بيروت، وارتكبت مجازر صبرا وشاتيلا. وسقط مشروع بشير الجميل قبل أن يبصر النور. وبات لبنان دويلات لا دولة واحدة، وعرضة لمساومات إقليمية ودولية. وفشل الرئيس أمين الجميل في استعادة الدولة الموحدة. وانقسم اللبنانيون بين مفاوض ومقاوم. فاستغل السوريون الفرصة لشن هجوم مضاد قاد لبنان إلى الانهيار الاقتصادي وعودة القوات السورية. وسيطرت الميليشيات على جميع الأراضي اللبنانية فبنت الكانتونات والمرافيء غير الشرعية واقتصاد الظل.
هكذا باتت جغرافية لبنان جديدة على اللبنانيين بعد تهميش الدولة الموحدة. وعانى اللبنانيون من حمى الانقسامات وحملات التطهير الطائفي. وعمت الأراضي اللبنانية كل أشكال التهريب، والنهب، والقرصنة، والخوات. وتحولت الميليشيات إلى منشآت اقتصادية إلى أن توقفت الحرب بعد توقيع اتفاق الطائف الذي أدخل لبنان في مرحلة جديدة من النزاعات القائمة على حراك اجتماعي جديد وتبدلات ديموغرافية خطيرة.
ملاحظات ختامية
تأسس كتاب "تاريخ لبنان الحديث: من الإمارة إلى اتفاق الطائف "على مقولات سياسية تنظر إلى الماضي بعيون الحاضر وليس العكس، وهي في صلب منهجية التاريخ الاجتماعي. لكن اللبنانيين لم يدرسوا تاريخ حروبهم الأهلية، ولم يأخذوا منها ومن الحروب الأهلية في مناطق متعددة من دول العالم الدروس اللازمة والعبر المفيدة. فنظام لبنان السياسي عاجز عن الإصلاح ويقطع الطريق على أي تغيير، بالطرق السلمية أو العسكرية. وهو، بطبيعته الطائفية والطبقية، نظام مولد للأزمات، والحروب الأهلية، ويحرض على التغيير الديموغرافي القسري وفق مصالح زعماء الطوائف. وبدت النتيجة المتوقعة من تلك الحروب واضحة في الكلمات المعبرة للشاعر الكبير لوركا في وصفه للحرب الأهلية: "تعالوا أنظروا الدم في الشوارع،
تعالوا انظروا الدم، تعالوا انظروا الدم".
وقد نظر طرابلسي إلى تاريخ لبنان الحديث من تلك الزاوية الإنسانية بالذات. فجذور الأزمة اللبنانية تعود إلى أن أكثرية مسيحية وازنة في جبل لبنان، انتقلت في وقت مبكر إلى إنتاج السوق (الحرير) والتجارة الدولية، وانفتحت ثقافيا على دول أوروبية تدخلت بكثافة في شؤون الإمارة الداخلية لتحريض الطوائف بعضها على البعض الآخر. فانفجرت حروب لم تنته بعد. لذلك وضع لبنان تحت الانتداب الفرنسي، فخرجت فرنسا مهزومة وانتصر النظام الطائفي في لبنان. وأوكلت أميركا وأوروبا لبنان إلى إسرائيل فخرجت أيضا مهزومة وما زالت تعاني مأزق هزيمتها في لبنان. ثم أوكلت المهمة إلى سورية بعد اتفاق الطائف لعام 1989. وبدعم عربي ودولي انتقل دور الرعاية إلى دمشق، فلم تتوقف النزاعات الداخلية بل خرجت سورية مهزومة من لبنان في عام 2005 وانتصر النظام الطائفي الطبقي فيه.
"لكن الحروب جميعها، أهلية كانت أم عادية، كما يقول طرابلسي، تتشارك في وظيفة واحدة هي التخلص من الفائض السكاني وتحقيق توازن ديموغرافي جديد. فأسفرت حرب لبنان عن 71328 قتيلاً و971184 جريحاً، وحركة تهجير كبيرة في بعض المناطق اللبنانية، وهجرة 894717 لبنانياً.
ختاماً، أدت الحرب اللبنانية وظيفتها في تحقيق توازن ديموغرافي جديد بواسطة القتل والتهجير. واللبنانيون اليوم يشبهون حاضرهم أكثر من ماضيهم. فهم يشبهون التركيبة الديموغرافية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي أفرزها اتفاق الطائف الذي ضمن استمرارية القوى اللبنانية المسيطرة. وهي قوى طائفية، ميليشيوية، مركنتيلية، تغّلب مصالحها الخاصة على مصلحة لبنان العليا. وما زالت تمنع قيام الدولة المركزية الواحدة والموحدة في لبنان. وبقي اللبنانيون، في ظل الإمارة كما في رحاب الدولة الحديثة، رعايا في طوائف وميليشيات متناحرة وليسوا مواطنين أحرارا في دولة ديموقراطية مدنية. وهم بالتأكيد ليسوا متساوين لا في الحقوق ولا في الواجبات.
إنه لكتاب جديد متميز ويثير إشكاليات لا حصر لها. إلا أنه جدير بالدراسة لأنه يقدم رؤية عقلانية مغايرة لتاريخ لبنان الطائفي.
(فواز طرابلسي، "تاريخ لبنان الحديث: من الإمارة إلى اتفاق الطائف". دار رياض الريس للكتب والنشر، بيروت 2008، 471 صفحة.)