آخر الأخبار

سارتر .. ثورة في الاتجاه المُعاكِسْ!

تمهيد :

أَسَّسَ مَثَقَفو الجيل السابق ؛ السِتِّيني وما بَعد السِّتيني (على الأغلب) ثَقافَتهم على مَصادر الثقافة العالمية، أو الكَونية، نَظراً لِضَعف المُثَقَّف العربي عن إنتاج فِكِر خَلاق، قادر على مُحاكاة الواقِع، مما حَوَّلَ غالبية المثقفين إلى آنية تَحوي كُل ما يُسْكَب بِها، أي أنَّ العَقِل لا يَعْمل (مُعَطَّل)، والمَصْدَر الوحيد لِتحريك المُثَقَّف هوَ النَّقل عن الآخر، الأمر الذي يَدفع بالمُتابع للسؤال حول الهَوَيَّة الثقافية العربية ؛ فما هِي مُكَوِّناتها ؟! وَهل تَملك مُسَمَّى الهَوية والكينونة أمام الآخر؟!

وَخِلافاً لما تأسس سابِقاً من نَقل أعمى لِكل ما هُوَ غربي الهَوِيَّة، فإنَّ دَور الجيل الحالي يَجِب أن يَنصَب على القيام بِعملية فرز للبضاعة المُتَرجَمة من جيل الرُّواد، وما بَعْد الرُّواد، وَنبش بعض الجُثث الفِكرية الغَربية، التي لا تزال تَحظى بمَهرجانات صاخِبة، وَكِتابات وافرة عن المُلهِم الغربي الذي حَمَلَ شُعلة النور للإنسانية!!

فَمن أينَ نَبدأ؟?!

سؤال افتراضي لواقع قائم!

لا بَأس إن كانت حَفريات التَّنقيب عشوائية، .. ولتكن كَذلك!

سِياسة التَّبْجِيل:

يَحْظى " جُون بول سارتر " بـ التَقدير السَّنوي الممثل في إقامت المِهرجانات تَكريماً لهُ كأحد مؤسسي الوجودية (الفلسفة)، الرَجل الذي تُطلق عليه عِنان الألقاب؛ الثائر الإنساني، ضَمير فرنسا الحي ..، بل وَضَمير الإنسانية، وَصوت الجياع والفقراء في العالم .. الخ!، وَمن الأمثلة مَقْطَع التَّبْجِيل التالي:

"عندما كنتُ أستمع إلى الكَلِمات التي ألقاها محمود العالم ومحمد برادة، في الإحتفال بمرور مئة عام على مولِد جون بول سارتر، وقد أقامه المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة. لم أستَطِع مقاومة خاطرتين ظَلَّتا تطوفان في ذاكرتي عن سارتر الذي نحتفي بِهِ . الأولى أنَّهُ عندما ماتَ سنة 1980 صدرت إحدى الصُّحُف الفرنسية وفي صدارتها عنوان رئيسي هو (ماتَ ضمير فرنسا)، والواقع أن سارتر لم يَكُن ضمير فرنسا فحسب، وإنِّما كانَ واحداً من القلائل الذين يمكن أن نُطْلِق عَلَيْهِم ضَمير الإنسانية."! (1).

الثغرة الأولى التي يُمْكِن أن نشير إليها، أن مُجَرَّد "مانشيت" من صَحيفة فرنسية هو ذا مِصْداقية !، ومن المألوف على الصحافة والنشر في فرنسا القول عن سارتر بالعَظيم كَونهُ فرنسي ومن أعلام فَرنسا .. كما هوَ نابليون الذي يُعَد أيضاً علماً فرنسيًّا دفعَ شُهرة فرنسا إلى الأمام، وذات الشَّيء فيما يَتَعَلَّق بِمجرم الحرب شارون .. فَهل خروج الصَّحافة " الإسرائيلية " بالقول " شارون ضَمير إسرائيل " هو كافٍ للأخذ بهذا العِنوان! وتتسع الثغرة لتكون فجوة كبيرة عندما يقول الكاتب "ضمير الإنسانية "!! ولاحِقاً سَنَتَعَرَّف على هذا " الضَّمير"... الغائب!

ولا يقتصر الأمر على التبجيل، بل يَدخل بنا بَعض النُّقاد في سِجالات تأتي على هامِش الأولويات لو تَحَدَّثنا عن الثقافة العربية ؛ سِجالات جان بول سارتر وألبير كامو، الصَّداقة التي انقلبت فيما بَعد إلى تنافُس وَمناكفات ضِدِّيَّة !، مَثلاً: " خطاب إستوكهولم لألبير كامو كلام لإغاظة سارتر " -عنوان مقال -، وَيَرِد في المقال:

"والحقيقة أنَّ موقف سارتر السلبي الصامت من خطاب كامو في إستوكهولم ساهم في إشاعة الصمت العام حوله .. بل أعتبر من البديهيات التي لا تحتاج إلى مناقشة . وظلَّ أدب كامو (1913-1960) المولود في الجزائر والمناضِل طوال حياتهِ على جبهة الحرية الإنسانية ظل مع نزعة الحريَّة السارترية المسؤولة.." (2).

ونقرأ في أحد الترجمات أن الفرنسية " سيمون دي بوفوار " الداعية للحرية الجنسية تتحدث عن صَداقَتها وعلاقَتها بسارتر وسواه (3).

لَنا أن نَسْتَشِف فيما سَبَق مدى عُمق النَّقِل الذي يقوم بِهِ مُترجمون وكتاب وناقِدون عرب، فحتى أسفه التفاصيل يَتِم نَقلها، مع التركيز على عبارات بعينها: " الحرية الإنسانية "، " الإلتزام السارتري "، و " النضال على طول جبهة الحرية الإنسانية " ..، وما شابَه، مُقابل الصَّمت عن تَفاصيل سَترد في حينِهِ !

ومقابل الحَديث عن يَوميات سارتر، وَجمع مُذَكَّرات الرّجُل في دَفاتر الصُّحف العربية، نَجد أنَّ هنالكَ فريقاً أكثر تَعَمُّقاً بما أنتجَ الرَّجُل من فِكر وَمسرح وَرِواية، وتتم معالجة ما أنتج بطبيعة الحال بِشكل تَرويجي.

ما يَعنينا من سارتر ليسَ ما أنتج، بل " الإلتزام السارتري "، " الحرية السارترية "، و" الالتزام السياسي "، فالكمات واضحة تَدور في فَلَك الحُرِّية والأنسنة لمواقف الرجل، فما هي مواقِفَهُ التي رَفعت بِهِ درجات ليكون صاحب المِئوية التي تَدفع " مُفَكِري " العرب نحوَ المهرجانات السارترية !

الالتزام السِّياسي الذي يَنظر إليه كثير من المراقبين العرب بأنَّهُ موقف إنساني شُجاع، هوَ توجه سارتر نحوَ رفض سياسة بلدهِ حيال استعمار الجزائر، فهوَ يريد منها الخروج من بلد المليون شَهيد .. وهذا الموقف الذي شَكَّلَ شَمَّاعة السارتريين العرب وَمُريدِيهم، فيهِ شَيء من السَّطحية، فكثير من اليمين الأمريكي يُطالب الإدارة الأمريكية حالِيًّا بتعجيل الخروج من العراق تَقليلاً للخسائر، بل اليَمين الصُهيوني هُو المُبادر في الخروج (الانسحاب) من جنوب لبنان، رُغم أنَّ اليمين واليسار ذراعاً واحِداً، أو ذراعَيْن في جَسَدٍ واحِد، فَهل مَوقِفَهم هذا يُسَجَّل لَهم تاريخيًّا لِخدمة الإنسانية والشعوب المُضطهدة؟!

سارتر على المَحَكْ!

هنالكَ مَحك يسعى بَعض أنصار سارتر في الوطن العربي لتجاوزه، والقفز عنهُ، وهوَ موقف سارتر من دولة الكيان الصهيوني، وآراءه بالصراع العربي الصُّهيوني، ولَدينا هنا شَهادة هامة، من مَصدر مُهِم (كما أعتقد)، حول ارتباط سارتر بـ الصُّهيونية، أو على الأقل خُضوعِهِ لِـ الصهيونية .

ففي زيارة المفكر العربي الراحل إدوارد سعيد لِمنزل سارتر دارت عِدَّة حوارات ذات صِلة بما نَبْحَثْ، إلى جانب مراقبة إدوارد وَتحليلهِ لما يَدور داخل جُدران الغرفة من تَحرُّكات، تَعكس في الحد الأدنى أنَّ صاحب " الالتزام السِّياسي " مُسَيَّر من الحركة الصهيونية العالمية .

وَقَبلَ التَّطَرُّق لـ تفاصيل زِيارة إدوارد لـ سارتر، نُشير إلى زِيارة الأخير (سارتر) لـ مَصر، بَعدَ أن وُجِّهَت لَهُ دَعوة من مجلة الطَّليعة المصرية " التقدمية "، عام 1967، تَحديداً قَبلَ النَكسة بِشَهْرَين، والرِّحلة السارترية لأرض الكنانة يَعيها أنصارهُ في الوَطَن العربي بلا شَك، وَيَردْ في تَفاصيل الرِّحلة أنَّ المِهرجانات والاحتفالات أُقيمت على أكمل وَجِه من قِبل العرب، إلى أنْ يَذْهَب سارتر إلى قِطاع غزة (التابع إداريًّا للجمهورية العربية المصرية آنذاك)، وَيُشاهِد أطفال الخيام والأسلاك الشَّائِكة، دون أن يُعنى بِكتابة مَقال عنهم كي يَنقل معاناتِهم للجمهور الفرنسي، مُقابل ذلكَ اكتفى سارتر ببعض الأسئلة الوجودية: هل ستساعد الدول العربية الفلسطينيين لتحرير بلادِهم .. وهل التحرير يَعني إلقاء اليهود في البحر؟!!

ويرد في تفاصيل الرِّحلة أنَّ أحد أطفال الخِيام تَقَدَّمَ وأعطى سارتر لفافة، فَينفُضْها سارتر تِلقائيًّا، لِيَتَدَلَّى بينَ يديه علم، وَتُلْتَقَط لَهُ صورة، بَعدها يلتفت مرافِقهُ (وهوَ يهودي) ويقول لَهُ: " العلم الذي بينَ يديك هو علم المقاومة الفلسطينية " !، فيثور سارتر ويجري خلف المُصَوِّر الذي التقطَ الصورة (العلم بيد سارتر!!) حيث أصَرَّ المُفكر الوجودي على إتلاف الفيلم من خلال تعريضِهِ للضوء، وهوَ ما حَدَث ..، ومن الجدير بالذكر أنَّ الرجل تَوجَّهَ بَعدها إلى الأراضي المُحْتَلَّة (تل أبيب تحديداً ) لِيُعلن من هناك أنَّ " إسرائيل" لها الحق في الوجود ويجب أن تَبقى قائمة .. (4)!

وفي العودة إلى زيارة إدوارد سعيد لسارتر، نَجِد أنَّ مَعالم الصورة أكثر وضوحاً، فالزيارة التي سنتناولها حاليًّا هي تتحدث عن سارتر في شيخوختهِ، على عكس الزيارة الأولى عندما كان شاباً، لِنَصل الشباب بمرحلة الشيخوخة لدى المُفَكِّر الوجودي.

البداية كانت عندما وَجَّه سارتر ونخبة من المُثَقَّفين الفرنسيين دَعوة لإدوارد سعيد لِحضُور حَلقة دراسية تتعلق بـ " السَّلام في الشَّرق الأوسط "، وهي حلقة تُديرُها مجلة "الأزمنة الحديثة" التي يُشْرِف عَلَيْها سارتر، وتعود هذهِ الجلسة لـ (13-14 آذار 1979م).

وَيَقول إدوارد بعدَ وصولِهِ إلى باريس قادِماً من نيويورك، أنَّهُ وَجَدَ رِسالة غريبة، في الفندق (الذي يقيم بهِ) بالحي اللاتيني، تَقول: " لأسباب أمنية سوفَ تُعْقَد اللقاءات في منزل ميشيل فوكو " !، فما الذي دَعا سارتر لتغيير مكان الاجتماع ؟! وما هي الأسباب الأمنية المحيطة بـ الحلقة ؟!، أسئلة لم يَجد لها الضَّيف العربي جَواباً، مُضيفاً أنَّ ثَمَّةَ جَوَّاً تآمُرِيًّا يُخَيِّم على الجلسة، ففي بيت فوكو كانت صَديقة عُمر سارتر "سيمون دي بوفوار"، وهي كما وَصَفها ثرثارة، عنيدة، ومتعالية، ووجدَ في حَديثها عن رِحْلَتها القادمة إلى طَهران بصحبة "كيت ميلليت" ليتظاهرا ضد "التشادور" فكرة سَخيفة، ومما نَقَلَهُ عنها، أنها وَهيَ خارجة أخذت تُثرثر حول " الإسلام والنساء المُحَجَّبات" مما أثارَ سحابة من الدُّخان، وكانَ هذا مُخَيِّباً للأمل - على حد تعبير سعيد-.

وممن تناولهم سَعيد في هذهِ الرِّحلة .. مِيشيل فوكو الذي لم يَكن راغِباً في مُناقشة الضَّيف العربي عن سياسات الشَّرق الأوسط، مما دَفعَهُ للتساؤل لِماذا؟! وَيُقَدِّم سَعيد فرِضِيَّتان لهروب (أو طرد) ميشيل فوكو من تونس أبان حرب حُزَيْران عام 1967م، الأولى أنَّهُ فَرَّ بَعدما شاهَدَ تَظاهرات صاخبة منددة وماعدية " لإسرائيل وللسامية "(كما يقول فوكو)، وكانَ حينها مُدَرِّساً، أما الثانية أنَّ فوكو طُرِدَ من تونس لوجود مُيول لَهُ نحو " الجنس المِثلي" -شاذ جِنْسِيًّا-، وِفْقاً لإحدى زميلاتِهِ التونسيات في قسم الفلسفة في جامعة تونس، وأمام الإجابتين ظَلَّ إدوارد مُحتارا في أيِّهِما يَكمن الصَّواب؟، فإن كانَ فوكو مُنْحازاً لـ "إسرائيل" كما هُو ثابت، تبقى الرِّواية الثانية بِحاجة لِتنقيب وللبَحثْ !!

وفي رِواية ثالثة حول "فوكو والقضية الفلسطينية" يقول سَعيد أنَّ صديقهُ الحميم "ديلوز" قد أخبرهُ أنَّ علاقَتهُ انتهت مع فوكو لتأييدهِ المُطْلَق لِـ "إسرائيل"، وخلافاً لهذا الموقف، كانَ ديلوز مناصِراً وَصديقاً للعرب بِشكل علني (تحديداً فيما يَخُص القضيَّة الفلسطينية).

وَيُضيف أنَّ الحَلقة كانت تجمع عدد من الفلسطينين والعرب والإسرائيليين؛ البعض عندما أحسَّ بوجود جو تآمري انسحبَ (إبراهيم الدَّقاق من القدس غادر بعد اليوم الأول)، مُوضِحاً أنَّ محاور البحث المَطروحة بِها تَجنِّي وَقَفْز عن القَضِيَّة الفلسطينية، والمَحاور الثَّلاث هي: 1- قيمة معاهدة السَّلام بينَ مَصر و"إسرائيل". 2- السلام ما بين "إسرائيل" والعالم العربي بشكل عام . 3 - التعايش المُسْتَقبلي بينَ "إسرائيل" والعالم العربي المُحيط بِها .

المَحاور سابقة الذِكر لم تسطيع زرع الارتياح لدى الطرف العربي الحاضِر -كما أفاد-، وإلى جانب العرب كانَ حاضراً من الطرف الصهيوني: "يهوشوفات حرقبي" الخبير "الإسرائيلي" في شؤون " الفكر العربي" ، وقد شغل منصب رئيس سابق للاستخبارات العسكرية "الإسرائيلية" الذي طردته منه "غولدا مائير" عندما أخطأ في وضع الجيش تحت الإنذار دون مبرر، وبقية المشاركين كانوا من المتطرفين اليهود الفرنسيين، بشقيهم " الديني اليميني والعلماني"، وكلاهما منحازاً لـ "إسرائيل" بطريقة أو بأخرى، مثل "إيلي بن جال" -دليل سارتر في رحلة مصر-.

أما البِطانة المُحيطة بِسارتر (كما يوضِح سعيد) فهي: ابنتهُ المُتبناة التي تنحدر من أصل جزائري، وكانت تشغل مديرة أعمالهِ الأدبية، و"ببير فيكتور" وهوَ ماوي (نسبةً لـ ماو سيتونغ) كانَ شريكا لـ سارتر في مجلة " اليسار البروليتاري"، تَحَوَّلَ بَعدها إلى التَّدين وأصبحَ يهودِيًّا أرثوذكسيًّا، ومن المُذهل لسعيد أن يَعْلَم لاحِقاً أنَّ أحد بطانة سارتر يهودي مَصْري يُدعى "بيني ليفي"، شَقيق عادل رفعت (المولود تحت اسم ليفي)، وَمصري مُسْلِم هوَ محمود حسين، عَمِلا سَوِيًّا في "اليونيسكو"، وَقَد أصدرا دراسة (العود في طَبقات مصر) باسم مُشترك، أو ما باتَ يُعرف بِثنائي "محمود حسين"، وَلَم يَكُن "فيكتور" بادِيًّا عليه على الإطلاق أنهُ يَهودي مِصري.

ووسط هذهِ الجوقة لَنا أن نتساءَل عن موقع الوجودي الفرنسي جون بول سارتر؟!، حيث يَتَّضِح أنَ سعيد (بَعدَ أن أصبَحَ عُضْواً في المجلس الوطني الفلسطيني عام 1977م) جاءَ بِهَدَف لباريس، وهو أن يَخرج بِتصريح صَحَفي من سارتر يناصِر فيه القضية العربية في مواجهتها للأخطبوط الصهيوني، خاصَّةً وأنَّ سارتر هوَ "صوت لجياع العالم والمضطهدين"، وهو أب الحرية، و"ضمير فرنسا الحر"، بل ضمير العالم والإنسانية .. الخ، إلا أنَّ المُحَصِّلة النهائية التي خَرَجَ بها سَعيد كانت غير سعيدة، فالرَّجل الوجودي حينَ طُلِبَ منهُ التَّصريح عن مناصرتهِ للعرب في قضيَّتِهم، لم يَتحدث بل تَحدَّثَ عنهُ "فيكتور" قائِلاً: "غَداً سَيَتَحَدَّث سارتر"!، هكذا وانفضت الجلسة ليوم الغد، وفي الغد المرتقب، جاءَ سارتر بِصفحتين مطبوعتين على الآلة الطابعة بِهما ابتذال وسفاهة مُطلقة لشاجعة أنور السَّادات، دونَ أي كلمة تشير لوجود إستيطان واحتلال لأي أرض عربية من طرف الحركة الصُّهيونية، هذا هوَ تَصريح "ضَمير الإنسانية" المُبَجَّل لدى كثير من مُفكري العرب !.

سَعيد بِدورِهِ عادَ خائباً من حَلقة دراسِيَّة لم يَتحدث بها سارتر كثيراً، وَكانَ " رَجُلاً" مغموماً وَمُسَيَّراً من قبل "ببير فيكتور"، فمن المُلاحظات التي أبداها ضَيف الجَلسة القادم من نيويورك .. الأحاديث الثنائية التي يَتم خلالَها سَحب سارتر من ياقتهِ إلى زاوية الجلسة للتمتمة بأحاديث غماضة، مع وجود إيماءات من قبل "فيكتور" لـ "سارتر" كي يتحرك هنا أو هناك، أو ليقول كذا وكذا ! ..، فيا للمفارقة، فنحنُ أمام فيلسوف ومفكر من طراز خاص جِدًّا !، وخلافاً لما يراه سعيد، فسارتر ليس في شيخوختهِ أصبحَ خاضِعاً للحركة الصهيونية، بل في شبابهِ أيضاً .. أي في العودة لزيارتهِ إلى مصر عام 1967م.

وأمام هذهِ التفاصيل خرج إدوارد سعيد بنتيجة مفادُها أنَّ التحضيرات التي أعدتها "الأزمنة الحديثة" كانَ هَدَفُها "الترويج لإسرائيل"، أو ما باتَ يُعْرَف بـ "التَطبيع" !.

وَيُضيف سعيد أنَّ الجلسة سجَّلتها "الأزمنة الحديثة" على "الكاسيت" (نشرت في أيلول 1979م)، لكن ثَمَّةَ ما هوَ هام !، ثَمَّةَ تحرير صَحفي للجلسة (قَصْقَصة وترقيع!)، فَمُداخلة سارتر المَطبوعة على صَفحتين حُرِّرت لِتعدو كلاماً سَطْحِيًّا (كما يرى سَعيد)، وأكثر من ذلك .. فالجلسة بكامِلِها لم تَكن مُقْنِعة، حيث تم بحث أمور مبحوثة سابقاً، ولم يكن هنالك لقاء أفكار حقيقي -كما يرى سعيد- .

بَعدَها بِعام (1980) ماتَ الفيلسوف، المُفكر الوجودي، و"ضمير فرنسا الحر": جون بول سارتر، لتظل العديد من الأسئلة عالقة في ذهن سَعيد: لماذا أيَّدَ سارتر الحركة الصهيونية على الدَّوام؟!، هل لشعور بالذَّنب لـ "الهولوكوست"؟!، أم لعدم تَعَمُّقِهِ بالنَّضال العربي ضِد الحركة الصهيونية التي ابتلعت أراضٍ عربية؟!.(5) .

المَخْرَج المُغْلَقْ ! :

لَم يُغفل بَعض الوجوديين من إيجاد مَخرج لـ " سارترهم " فقالوا أنَّ مواقِفه تجاه قَضية العرب تَعود إلى وجود شعور بعقدة النقص تجاه اليهودي الذي عذبتهُ أوروبا فيما يُعرف بالمَحارِق " الهولوكوست " ..، لذا سيكون الرَّجل مُتَحَرِّجاً في إعلان موقف واضِح حاسم تُجاه الحركة الصهيونية وَدولتها (إسرائيل)، إلا أنَّهم غَفِلوا في ذات الوَقت أن الكاتب الفرنسي "جان جِنيه" مَثلاً كانَ واضِحاً في إدانَتهِ، بل مُعاداتِهِ لـ "إسرائيل"، والمشاركة في مناهَضَتها دونَ أدنى تَحَرُّج، كذلكَ الحال لدى المُفكر والفيلسوف الفرنسي (المسلم فيما بعد) " روجيه جارودي " الذي مُنِعت كتبهُ من التوزيع والطِّباعة لأنَّهُ ناهضَ الصُّهيونية والأساطير المؤسسة لها، الحال ذاتهُ مع الكاتب البريطاني " برتراند رسل " ..، فشماعة "تأنيب الضمير الأوروبي" هي واهية وَسطْحية لأننا نتحدث عن فلاسفة ومفكرين، وليسَ عن العوام من مواطني أوروبا.

التيار النَّقدي الثالث:

الدَّعوة لشكل جديد من النَّقد، لا يَعني بـ الضَّرورة النَّسف لِركائز نقدية قائمة، إنما تَحرير النَّقد من تَبعية لا تزال تُخَيِّم بظلالِها على صَفْحات النشر الذي يتجاهل بعض الحقائق، الأمر الذي يَدعو المُتابع للتساؤُل .. لِماذا ؟!، وَلِمَصْلَحة من ؟!.

التَّيار الثالث ليسَ تَسمية عابرة في كلام عابر !، إنما تيار للحفر في المُتون النَّصِيَّة للكشف عما هُوَ غامِض (كافكا مثلاً)، أو واضِح (سارتر) ..، تيار يأخذ على عاتِقِهِ بناء المُنجز التراثي الحَضاري، مع عَدَم إغفال التَّطور الذي طَرَأَ على الأجناس الكتابية، الأدبية منها والفكرية، فَهوَ تيار يجمع بين الأوَّل والثاني، دونَ أن يكون تياراً توفيقيًّا من أجل التوفيق، إنما بوصِلة تحدد مسار الجيل الحالي نحوَ المستقبل، بَعدَما أُرْهِقنا بمئويات الميلاد الكرنفالية لهذا الفيلسوف، أو ذاكْ، مع القفز أثناء الاحتفالية عن بَعض الدوائر التي تتصل بِمُحيطَنا الثَّقافي أو السِّياسي .

وفي حال قُلنا تيارات النَّقد الغربية .. فللغرب الحق في التَّساؤل: أينَ التيارات العربية النَّقدية أو الأدبية ؟!، فَليسَ لَدينا سِوى جِسِم هُلامي عَديم الشَّكل، وَمرآة للآخر يَرى بِها نَفسَهُ لا أكثر، فَليست الأقلام العربية سِوى سَحابة صَيف عابرة في " صحراء " النَقد الغربية ... .

إنها الدَّعوة لِنبش الجثث الفكرية الغربية، دَعوة لفتح "المقابر الجماعية" للفكر الغربي المدفون في العقل العربي الباطِن والظاهر منهُ !!!.

المصادر:

- جابر عصفور (هوامش للكتابة) ذكريات سارتر، جريدة الحياة، العدد 15615، 4/1/2006م

2 - إبراهيم العريس، ألف وجه لألف عام: خطاب أستوكهولم لألبير كامو: كلام لإغاظة سارتر، جريدة الحياة، بلا تاريخ أو رقم للعدد .

3 - إنيت بارون، النساء أو حرية التسامي الإنسانية، المنار، العدد 18، فرنسا، حزيران 1986م .

4- الأهرام العربي، العدد 428، 4/2/2005م، ص - ص 59-60.

5- إدوارد سعيد ؛ "لقائي مع سارتر"، مجلة " لندن ريفيو أوف بوكس "، 1979م، ترجمة أمل الشرقي، العرب اليوم الأردنية (بلا تاريخ).