آخر الأخبار

زهرة اللوتس

ديميتري أفيرينوس

زهرة اللوتس ("النبق" بالعربية) من أنبل الرموز التي أبدعها "اللاوعي الجمعي" collective unconscious تعبيراً عن اكتمال الحياة الإنسانية في أبعادها كافة: زهرة تتفتح فوق مياه آسنة بجلال حسِّي لا تشوب جمالَه شائبة؛ إنها بهذا المعنى رمز الحياة الواعية المنبثقة في أول ظهوراتها من العماء البدئي Chaos، أعماق اللاوعي الجمعي التي لم تتمايز بعد؛ وبصورة أعم، الحياة في سعيها الدائم إلى التفتح والاكتمال. والنصوص الهندية القديمة تجعل من زهرة اللوتس، في رحلة صعودها من قاع المستنقع (التراب) إلى السطح (الهواء)، مروراً بظلمة المياه (الماء)، وتفتُّحها أخيراً على ضياء الشمس (النار)، رمزاً للتفتح الروحي - أي "التكامل الداخلي" (أو تحقيق الذات بلغتنا المعاصرة) - الذي يشتمل رمزياً على التحقق بعناصر الطبيعة الأربعة في الكوسمولوجيا القديمة. وهذه الزهرة البديعة، بما هي رمز مؤنث، تعبير كامل عن تفتح نفس المرأة بصفة خاصة.

مراحل التحقق: وصيد البلوغ

تُستهَلُّ رواية زهرة اللوتس بالغوص مباشرة في العالم الداخلي لفتاة - هي سلمى - تقف على عتبة ربيعها الحادي عشر - أي على وشك البلوغ -، وتتمتع بحسٍّ استثنائي الرهافة وقدرة مذهلة على الانتباه والتقاط التفاصيل. إن سلمى في مستهل الرواية هي بذرة اللوتس التي تحاول أن تقتحم لنفسها ممراً في عالمها الترابي لكي تستكشف عالم المياه.
فترة البلوغ فترة بالغة الحساسية في حياة الإنسان، تجري فيها تحولات عميقة في نفسية الطفل، وتتفتح طاقات وقوى جديدة في ذهنه وجسمه لا عهد له بها. وهي، من باب أولى، فترة حاسمة في حياة المرأة التي تشهد منها فصاعداً تجدد الحياة في جسمها ونفسيَّتها على إيقاع كوني هو الدورة القمرية
لقد أوْلتْ المجتمعات البدائية عناية خاصة بهذه المرحلة لأنها أدركت مبلغ الهشاشة النفسية التي تتعرض لها المرأة خلالها، وهَدَتْها خبرتُها الألوفية إلى طقوس خاصة تستهدف مساعدة البكر على استدماج التحوُّل الجسمي الذي يطرأ عليها وما يرافق هذا التحول من سيرورات نفسية. هذه الطقوس غالباً ما تتم لدى أول ظهور لدم الحيض الذي يُعَدُّ دلالة على تغيُّر المنزلة؛ وتخضع البكر، إبان فترة عزلة نسبية، لاختبارات جسمية ونفسية معينة تهدف إلى استيعائها حالتَها الجديدة، وتتلقَّى في أثنائها من والدتها أو من كابرات القرية تعليماً جنسياً وأخلاقياً خاصاً يجعلها تتقبل تفتُّح أنوثتها كجزء من سيرورات الطبيعة، ويُعِدُّها لحياتها المقبلة كامرأة. وأخيراً تمهِّد طقوس أخرى ورقصات وأناشيد للعودة إلى الحياة العادية، بعد اكتساب وعي جديد، هو موت عن جسد الطفلة وولادة في جسد المرأة البالغ.
هذا ما كان يحدث - وما يزال - في المجتمعات التي ندعوها "بدائية"؛ فماذا عن مجتمعنا العربي؟!
ما تزال في مجتمعنا راسخةً بقيةٌ من نظرة ترى في الفتاة البالغ "عورة"، وحده الرجل يعرف كيف يسترها، ويملك الحق في ذلك (ص 134)، وموضوعاً للقلق والخوف، ولا تتبلور في لاوعيه المشترك إلا كفكرة جنسية بالمعنى الفجِّ للكلمة. يقول رشاد (أبو سلمى) لأم سلمى (ص 13):
- ألا تلاحظين يا امرأة أن سلمى تكبر بسرعة عجيبة؟ لا شك أنها ستغدو عما قريب صبية حلوة، ولا شك أن جمالها سيلفت نظر الكثير من الشبان، وهذا أمر يقلق... يقلق للغاية.
إنه يمنعها من ترك شعرها الجميل مرسلاً، ويخاف من صحبتها لابنة أخيه توفيق، "هذه الشيطانة نادية"، التي يحس "أنها تعرف أشياء كثيرة، لا يعرفها الكبار!" (ص 13)، ويتهكَّم عندما يسمع نادية تقول عن أمِّها (التي تلعب هنا دور الكابرة المرشدة) إنها "تعرف أشياء أكثر مما يعرفها أبي، وتتحدث إلينا عن تفاصيل جسم الإنسان [...] بينما لا يشرح لنا والدي عن مثل هذه الأمور!" (ص 24)
في مقابل هذه التربية المنفتحة في بيت عمها، نجد الجنس عند سلمى مرتبطاً بالإثمية والتحريم. فهي حين تساق إلى الطبيب للتأكد من عذريَّتها يسيطر عليها الهلع (ص 93):
[...] كان هلعاً مرتبطاً بشعور الخجل الدفين في نفسها. فكَّرتْ: "المشكلة إذن [...] في المكان الذي علَّمتني أمي منذ الصغر أن أستره... أن أخفيه... أن أخجل من وجوده [...] أن لا أتحدث عنه أبداً، وأن لا أسأل أي سؤال يتعلق به.
وبدلاً من أن تشعر بأن الحيض إشارة إلى تجدد الحياة فيها، لا تسمع من أمِّها سوى كلمات "غامضة مقتضبة" (ص 93):
لقد أصبحتِ صبيَّة... عليك أن تحافظي على نفسك منذ الآن!
فشل العلاقة مع الأب والنكوص إلى عالم ما دون الوعي يمثل الأب في مرحلة بلوغ الفتاة أول تجسيد، أو قُلْ خلع projection، لصورة الذكر في دخيلة نفسها؛ إنه الصورة الأبوية التي تيسِّر لها العبور من عالم الطفولة والارتباط الحيوي بالأم إلى عالمها الخاص كامرأة. في طريق الأسرة إلى زيارة العم توفيق تتساءل سلمى، وقد ساءها أن تلحظ أباها يسير وحده في مقدمة الموكب (ص 20):
[...] لماذا لا يأتي إليَّ، فيمسكني من يدي، وأحس بدفق دمائه في عروق أصابعي، فألتصق به [...] لا أتذكر يوماً حضنني فيه والدي، وقبَّلني [...] رائحة الحليب في قبلات أمي [...] هي التي تعلق في أنفي دائماً، لكنني لا أعرف حتى الآن كيف تكون روائح الآباء!
هذا الفشل في تحقيق الخلع على شخصية الأب لاجتياز مرحلة الطفولة الأولى يجعل سلمى تتأرجح، فلا تجد لنفسها مستقَراً. فهي، من جهة، تتعرض لقمع الطفولة في نفسها على اعتبار أن كل تعبير عن عفوية الطفولة انتقاص من الرصانة! فلنسمع الكاتبة تعبِّر بدقة عن هذه الحالة (ص 25):
كثيراً ما ترتدُّ أحزاننا الطفولية إلى الخفايا [افهم: اللاوعي!]، فتقبع فيها هامدة على غير وعي منا. نشعر وقتئذٍ بأننا أطفال مختلفون. نظرتنا أكثر حزناً، وحركتنا أقل نشاطاً، وخيالنا أكثر حركة، وقلقنا أشد عمقاً! لكن حدود تفكيرنا في تلك المرحلة لا تسمح لنا بالتفسير والمراجعة، فنستسلم لأحاسيس مبهمة، غامضة، تنغِّص علينا صفاء تلك الأيام الحلوة من حياتنا، وتكبِّل عفويَّتنا ورغبتنا في الانطلاق والتمتُّع بعالم الطفولة السحري.
وهي من جهة أخرى - وهي التي تشعر بأنوثتها تتفتَّح في جسدها، وتشعر بالدافع الجنسي شعوراً خافياً مبهماً يهمزها من الداخل - لا تجد محلاً للإسقاط. ويزداد الضغط من جانب صديقاتها اللائي بدأن يعشن مراهقتهن؛ ثم لا تلبث أن تأتيها الصدمة الكبرى عندما تدري بأمر علاقة أبيها بالجارة غادة، فيروِّعها أن يكون الأب قادراً على بذل الكلام المعسول لامرأة غير أمها، بينما لم ترَ منه نحو الأم سوى الفظاظة... كل هذا أدى إلى فتح ثغرة في واعيتها تفجَّرت منها الطاقة الحيوية بعنف تمرُّدي لم تعِ أبعاده. هذا الاختلال في التوازن يجعلها تختبر، وهي بعدُ في هذه السن، هلوسات بصرية (ص 45)، وشمِّية (ص 54)، وترى عيني أبيها في كل مكان تلاحقانها وتراقبان تحركاتها... لقد أُجهِضت عملية الخلع على الأب تماماً ولم يتم منها سوى خلع وظيفة الرقابة (ص 46):
تلك العينان اللتان تلاحقانني دائماً بنظراتهما الحادة، تُدخِلان الرهبة في قلبي، وفي جسدي، وأنتفض دائماً كعصفور مذعور!
إن عمل الأب بعكس ما كان يأمر به وينهى عنه، وتحوُّله إلى نوع من الحجر الثقيل الضاغط على صدر ابنته، هو الذي دفعها دفعاً للاستجابة لمحاولات الفتى ماجد للتقرب إليها، فانتهزت أول فرصة للانفراد به في غفلة عن رقابة أبيها. إن خوضها لمغامرتها الطفولية مع ماجد لا يتم بدافع جنسي لأنها نظرياً تجهل كل شيء عما يحدث بين الرجل والمرأة، بل هو بالحري طريقة سلمى في التمرُّد على السلطة الأبوية القامعة ونيل قسط من الحرية. هي ذي تخاطب نفسها بعد الحادثة (ص 85):
[...] لا أعرف حتى الآن كيف أميز الخطأ من الصواب. كل ما أعرفه أنني أحب أن أكون حرة فأشعر بذاتي.
وتقول بعد أن تسترجع كل ما سمعت من صديقاتها عن الحب (ص 46):
"[...] لماذا لا أخوض التجربة، فأعرف الحب، وكيف يلامس أوتار القلوب العاشقة؟ لماذا أحرِّم على قلبي الصغير ما أباحه والدي لقلبه القاسي؟" [...] وفي لحظة علا وجيب قلبها الفتيِّ وهي تستسلم لشعور من التحدِّي الغامض لم تحس به من قبل: "سأحب... بلى سأحب، رغم ما في عينيك يا والدي من إرهاب وتخويف [...]."
المغامرة مع ماجد تسفر عن كارثة على سلمى، والأمر الذي كان يمكن أن ينتهي "بكلمة توجيه" سديدة، على حد قول أبي نادر (ص 116)، يتحول إلى استنطاق فظٍّ رهيب يتجاوز فيه الأب أبسط قواعد الذوق السليم ومراعاة شعور ابنته، ناهيك عن قصِّ شعرها الجميل الفاحم الذي كان مصدر اعتزازها - والشعر الطويل من رموز الأنوثة، وهو من رموز أعماق اللاوعي -، وحبسها المرعب مدة أسبوعين في غرفة المؤونة الضيقة الرطبة المعتمة، وربط مفهوم الخطيئة عندها بالدين من خلال التكفير عن الإثم بحفظ القرآن، وأخيراً فحص الطبيب لسلامة غشاء البكارة؛ كل هذه الأحداث خلَّفت في نفسها الفائقة الحساسية رضوضاً مؤلمة إلى أقصى حدود الإيلام، رضوضاً ظلَّت تنغِّص عليها حياتها كلَّها. وهاكم جانب من مكابدتها لتجربة الفحص (ص 94-5):
فجأة... توقفت عن الارتجاف. أحسَّت بخدر شديد يجتاح أنحاء جسدها، وأحسَّت، وهي تحدق في سقف الغرفة البيضاء، أنها انتقلت إلى عالم آخر [...] الرؤية لديها لم تعد واضحة! كانت ترى كل الأشياء أمامها من وراء غمامة. [...] كان إحساسها بالألم خفيفاً وبطيئاً. فلم تتأوَّه، ولم تصدر عنها همسة [...] وانتهى الفحص... لكنها لم تعرف أنه انتهى! بقيت مستلقية تتنفس ببطء شديد، وكان وجهها شديد الشحوب!
اللون الأبيض الذي يميِّز هنا جدران غرفة الفحص، وغطاء طاولة الكشف، وثوب الطبيب، يشير إلى ارتداد الوعي ونكوصه إلى عالم ما دون الوعي حيث اللاتمايز والشواش، وحيث قوى النفس في تلاطم لا يهدأ... لن تنعم سلمى بعد هذه التجربة المريرة بحياة نفسية متوازنة.
حتى الدين يرتبط ههنا بالقصاص والتكفير؛ والخبرة الدينية (التي يُفترَض فيها أن تنهض بوظيفة إيجابية في حياة الإنسان) تتحول إلى سلطة، ديَّانة قامعة هي الأخرى، يمثِّلها الأب الذي وحده يعرف متى يغفر الله لابنته (ص 88). فما أبعد هذا التصور للألوهة عن التصور الذي قدَّمه لها جدُّها (ص 129):
الله يحب مخلوقاته، لأنه منحَهم شعاعاً من نوره، ليكون جزء منه فيهم [...].

الانكفاء إلى الداخل والنزول إلى الجحيم

وتبدأ سلمى رحلة صعود نبتة اللوتس الفتيَّة - ذلك الصعود الوئيد العسير، في العالم المائي، عالم اللاوعي. عاشت سنوات شبابها الأولى في عزلة داخلية مريرة، وصنعت لنفسها صدفة تنفر إليها هرباً من عيون الناس التي تذكِّرها بعيني أبيها (ص 129). عاشت تناقضاً ممضاً موجِعاً بين عالميها الداخلي والخارجي (ص 128):
كل محاولة للتواصل مع العالم الخارجي كانت بالنسبة إليها عذاباً أليماً [...] يُكرِهها على التحوُّل مؤقتاً بعكس انسيابها في عالمها الداخلي الغني والفسيح.
تلك الفترة كانت أيضاً فترة الإيغال في الخيال، الخيال الذي تجد فيه سلمى متنفَّساً لكل ما يتأجَّج في قلبها وفكرها من خواطر وأشواق ورؤى. هي ذي تقول لابنة عمِّها (ص 131):
أحلامي هي حياتي يا نادية. مادمت أملك خيالاً أخضر، فلسوف أواظب على الحلم، وأعيش في الخيال، فأشعر أني أمتلك حرِّيتي!
هذه الفترة من الانقطاع عن الخارج كانت أيضاً فترة مواجهة لمضامين الخافية البدائية، بكل هواماتها وانبجاساتها وأطيافها (ص 128):
مهما أوتيتَ من المقدرة، فإنك سوف تجد نفسك، وأنت تحاول استدراجها، كأنك تحتال لإخراج كائن وحشي، ليلي، مذعور، من وكره المظلم في وضح النهار.
لا بدَّ هنا من القول إن الدقة التعبيرية والدلالية للمفردات جديرة بالإعجاب؛ إذ إن عبارة "كائن وحشي، ليلي" تنطبق كل الانطباق على عالم اللاوعي البدائي المجهول.
بيد أن شمس ذاتها الحقَّة كانت تنسرب عبر أدغال عالمها الداخلي لتسطع على جميع الناس، بمن فيهم والدها الذي كبَّل إنسانيتها وروَّضها على كبت طاقاتها الكامنة، الغنية بالأمل، في أعماقها المظلمة (ص 128):
قلبها الطفل ظل يفيض تلقائياً بالمحبة، يوزِّعها على من حوله دون حساب [...] تلك كانت نفسها الرحبة، المفعمة، تتدفَّق كالينبوع العذب، وتسطع كأشعة الشمس فينال منها الجميع حصَّتهم سواء أكانوا أفاعي أم عصافير.
لا بدَّ أيضاً، في معرض الإشارة إلى تلك الفترة من حياتها، من ذكر خبرة عاشتها من خلال الغناء، خبرة من أعمق اختباراتها الداخلية. لقد عبَّرت بغنائها عن أقصى اشتياقاتها، وامتزجت في هذه الخبرة صورة الجد - الذات - بصورة القرين، لا بل اختُزِلت كل صور الخافية إلى صورة واحدة هي صورة "الحبيب" (ص 149-50):
واصلت غناءها ممسكة بيد جدِّها، محلِّقة وإياه في عالم من الضياء، غمر قلبها وجسدها، حتى بلغت تلك الحالة الرفيعة من الوجد الصوفي، حيث مدلول الأسماء أكبر من المسمَّيات، وحيث معاني الكلمات تشمل الحياة في تناغمها وانسجامها. لفظة "الحبيب" تستمد قيمتها من تجسيدها شخوصاً سرمدية، بدايتها هي بداية الحياة. ولفظة "الحب" تعبِّر عن حالة أزلية أشمل وأعمق، هي الحياة ذاتها!
على الصعيد العملي، علقت سلمى آمالاً كبيرة على متابعة تحصيلها في الجامعة التي عَنَتْ بالنسبة إليها تحقيق شيء من الحرية والاستقلالية، وكسر الحصار المضروب من حولها؛ لكن آمالها تبددت بخطبتها التعسفية إلى كمال، "رجل الأعمال" الذي لا يرى في الحياة إلا سوقاً كبيرة، والذي تفصله عن سلمى هوَّة سحيقة: "حالتان وجدانيتان مختلفتان، نجم عنهما معياران متناقضان" (ص 162). تقاوم سلمى العسف المفروض عليها، لكن المعايير الاجتماعية السائدة هي التي تنتصر ظاهرياً، وتنضم إلى صفِّ تلك المعايير شقيقتُها هدى "الواقعية" التي تسير على هدي منها (ص 158)، وكذلك صديقتُها أمل التي يخيب أملها فيها لأنها تتعجب من رفضها، بل وتؤنِّبها عليه (ص 156).
إن من شأن التكامل الداخلي أن تتناوب فيه أشواط من الغذوِّ وأخرى من النكوص؛ وكلما بذل المرء جهداً لبلوغ انسجام داخلي أكبر تنامَتْ المصاعب ولاح أن الهدف ينأى.
لقد قطعت نبتة اللوتس شوطاً ليس باليسير على درب تكاملها، لكن زفاف سلمى إلى كمال عاد بها من جديد إلى مرحلة اللاتمايز والشواش؛ إنه الارتداد إلى مرحلة أكثر بدائية من النضج النفسي. تعيش سلمى ليلة "عرسها"، كرَّة أخرى، تفاصيل رضَّتها النفسية وهي تخضع للفحص الطبي (ص 161-2):
وجدت نفسها غارقة في البياض، فاستيقظ على الفور ذلك الخوف القديم الكامن في أعماقها.
إن المعيار الداخلي للنفس هو الذي يُملي على الجسد سلوكه. ونقاء سلمى يترجمُه جسدُها، في تضامن عجيب مع نفسها النبيلة، إلى برودة جنسية؛ وهكذا تكون البرودة الجنسية، في لقطة نفسانية رائعة، صرخة أخلاقية مدوِّية ترفض الزنى، أي بيعَ المرء جسدَه إلى من لا يحب (ص 272).

الخروج من الجحيم وبدء الصعود

غير أن كل نكوص فهو كسب للنفس في النهاية؛ والعودة إلى اللاتمايز والشواش يؤدي إلى استيعاء مضامين نفسية مظلمة خافية على الوعي. هذا الغوص في الحالة البدائية للنفس مرة أخرى يزوِّدها، على هول هذه التجربة، بطاقات مذهلة للارتقاء والتكامل نحو كلِّيتها. ويتَّخذ اللون الأبيض هنا رموزية جديدة هي رموزية النور، نور الذات.
هذا عين ما حصل لسلمى، فيما هي تتأمل إحدى اللوحات المعلقة في بيت زوجها، لكنها في الواقع لا تتأمل غير أعماق نفسها، وتخلع على اللوحة أفاعيل تفتُّحها الداخلي (ص 165-6):
اختلطت [الألوان] في ذهنها، وأمام بصرها، اختلاطاً مروِّعاً، تكوَّنت منه أشكال غامضة مخيفة، ثم تشابكت الخطوط تشابكاً فظيعاً أودى بجميع معالمها، وجعلها سديماً بلا لون، ولا معنى. ثم ابيضَّت اللوحة تماماً. صارت لوناً ناصعاً واحداً. تحوَّلت إلى لوحة من الصفاء البالغ الشفافية [...] ظهرت عليها واضحة، ملوَّنة، معالم بستان [...] تتوسَّطه شجرة زيتون كبيرة، خضراء، مهيبة! كانت ثمة سماء صافية، مضيئة، ونورها هادئ، ساحر، يغمر اللوحة بأكملها. نور بلا مصدر محدد، كأنما هو ينبعث من جميع الكائنات التي تتشكل منها اللوحة. فتَّشت سلمى عبثاً عن مصدر النور المبهر، وعيناها ترفَّان لشدة تألُّقه، وجسدها يرتعش تحت تأثيره، قبل أن تكتشف أنه نابع من روحها!
لقد استوعت سلمى في لحظة أن النور "نابع من روحها" (ص 166)، الأمر الذي يُشعِرنا بأن تفتُّح زهرة اللوتس على الهواء ونور النهار قد أصبح وشيكاً؛ فـمن شأن التكامل الداخلي أن يتسارع متى تمَّ استيعاء رموز الذات.
حضور سلمى الداخلي يقوى، ويمتد نحو الخارج متجلِّياً في شجاعتها الأدبية التي تواجه بها زوجها وشركاءه بقباحتهم الداخلية واستسلامهم لشريعة الغاب (ص 168-71). لقد استطاعت أن تحصِّن نفسها ضد كل ما يمثِّل عالمُهم وانتقلت من "وضع دفاعي" (ص 128) عن نفسها إلى وضع الذائد عن الحق، حتى فرضت هيبتها على زوجها الذي بات "يحترم عزلتها وصمتها، ويحترم كل ما كانت تؤمن به" (ص 182).

اختبار الموت واللقاء بالقرين الحي

بموت والدتها تجتاز سلمى عتبة الموت للمرة الثانية، وتكون هذه التجربة المحكَّ الأخير لصلابتها الداخلية قبل اللقاء بالتجسيد الحي للقرين. إنها تدرك الآن (ص 211) أن
الوعي، وهو يسبر أغوار الكون في كل ثانية، يتأمل ويتفتَّح، ثم يعرف أنْ لاشيء يفنى في هذا الكون. الكل يتحوَّل... ويعود من جديد، ليتابع الرحلة إلى اللانهاية. يتبدَّل المظهر فقط ويبقى الجوهر خالداً لا يزول.
أخيراً... تلتقي سلمى بأحمد بعد أن أعدَّها ابنا عمِّها لهذا اللقاء. أحمد المفكِّر، الهادئ، المتأمِّل، الباحث عن الحقيقة، الحر بالتزام أو الملتزم بحرية، بعيداً عن كل تبعية فكرية؛ أحمد السَّمْح، الحالم، الثائر على كل جمود، المؤمن بالمستقبل على أنه "الحاضر كما يجب أن يعاش" (ص 268)، الواجد في الحب "ذلك الامتلاء، الذي نعيش في داخله... يحيط بنا ويرعانا كأم حنون [...] ذلك الدفع الذي يعمِّق صلتنا، وانتماءنا للكون... والإنسان... والطبيعة" (ص 261)؛ باختصار، أحمد المبصر بعقله والبصير بقلبه. تشعر نحوه تواً بانجذاب غريب، يفسَّر بكونه الرجل الذي يجسِّد صورة القرين في نفسها أكمل تجسيد، ويصلح بالتالي لأن يكون محلاً لخلع هذه الصورة خلعاً واعياً. تدعوها نادية إلى الاحتفال بعيد ميلادها. ترتدي ثوبها البنفسجي البسيط الذي يرمز إلى طهارتها الداخلية... وهناك تلتقيه للمرة الثانية، ويهتف قلبها إليه من بعيد (ص 257):
أنت يا من انتظرته طويلاً، لماذا جئت في الزمان الصعب؟ زمن النهايات المقفلة... زمن التحكُّم بالأجساد والعواطف والأحاسيس! [...] أنا على يقين من أننا دخلنا معاً ضمن دائرة مغناطيسية واحدة، ندور في فلكها حتى النهاية. فمتى يجتذبنا مركزُها، ويوحِّدنا، رغم كل شيء؟ متى؟ لقد جئتَ من أجلي وجئتُ من أجلك [...] اقترب، لنتعارف أكثر، ونتحابَّ أكثر. اقترب، لأقول لك ما أطبقت عليه شفتاي منذ الأزل. اقترب، لأبثَّك مَواجد قلبي، الذي طالما أُحرِقت شغافه... قلبي الذي هفا إليك منذ البداية، لأنك منارته التي هدتْه بعد طول ضياع. أنت منارتي أيها القريب البعيد، منارتي التي لن ينطفئ ضوؤها مهما اشتدَّت حلكة الموانئ!
لقاؤها الحاسم بأحمد الذي تجد فيه خلاصها يتم في مكتبة... يعمِّدهما المطر برذاذه مبارِكاً هذا اللقاء... وحول منضدة صغيرة في مقهى صغير تبوح سلمى له بكل الماضي الذي ما زالت تنوء به، عقدة الذنب التي كان لا بدَّ من حلِّها قبل أن يكون الانطلاق والتحليق النهائي باتجاه الذات مستطاعاً. يصغي أحمد مشارِكاً بعمق. يميِّز لها بين الخطيئة والخطأ، يدلُّها على الحرية الحقيقية التي لا تمتُّ إلى القيود الخارجية بصلة، ويهيب بها ألا تتنصل من ماضيها المؤلم، بل تتقبله كجزء من ذاتها باعتباره يشكِّل وجهاً من وجوه ظلِّها (ص 276):
لستِ مذنبة... لم ترتكبي إثماً، لا في الماضي ولا في الحاضر... تقبَّلي ذكرياتك الحلوة والمُرَّة كما هي [...] لا بدَّ أن تستعيدي ذلك الجزء المفقود من ذاتك... لا بدَّ أن تجدي الطريق إلى نفسك... كوني نفسك يا سلمى!
يمثِّل الظل shadow كل ما نُحِّي عن الوعي باعتباره متنافراً مع الأنا؛ وقوامه مخاوفنا وعيوبنا ومنتجات الوظيفة النفسانية الأقل تمايزاً. واللقاء مع الظل تجربة مكربة جداً؛ فالأنا الواعية تتعرض فيها لخطر الغرق في اللاوعي. إن هذا اللقاء "موت مجازي" بكلِّ معنى الكلمة؛ لكن وجود أحمد إلى جانب سلمى يساعدها على تخطِّي هذه المرحلة الصعبة التي تنتهي باستيعاء القرين واختبار الذات بكل جلالها وجمالها (ص 277):
[...] اعترت كيانها رعشة خفيفة، لذيذة، مخدِّرة، راحت تعزف على أوتار نفسها الحساسة، التي وصلت إلى درجة عالية من الشفافية. كان بصرها يتركز في تلك اللحظة في سقف الغرفة الأبيض، في نقطة معينة منه. حدقت فيها زمناً لم تحس بمروره. تراءت لها من خلف تلك النقطة، صور، وأشكال مختلفة، مبهمة، وغامضة، كانت تتشابك وتتداخل، لتظهر من خلالها ألوان وأضواء حادة، وباهتة في الوقت ذاته، ثم بدأت الصور تختفي على مهل، لتنفتح في منتصف السقف، وفي النقطة ذاتها، كوَّة كبيرة، ظهرت السماء من خلالها زرقاء صافية.
أحسَّت سلمى لوهلة أنها في شبه غيبوبة، وأن جزءاً من كيانها بدأ يرتفع عن السرير، ويقترب من الكوة، جزءاً في غاية اللطافة والشفافية، استطاعت أن تتابعه وهو يقترب من السماء الزرقاء، ثم يعود بلمحة، فيندمج في كيانها من جديد.
يصف هذا المقبوس الطويل، بدقة بالغة، مرحلة العبور من استيعاء مضامين اللاوعي الشخصي - تلك "الصور والأشكال المختلفة، المبهمة، الغامضة" - إلى وعي الذات من خلال سيرورة مزدوجة: إسقاط ذلك الجزء اللطيف الشفاف من كيانها الذي هو من طبيعة "السماء" والذي يمثل فرادتها الذاتية الخالصة أولاً؛ يليه انكفاء فحوى الإسقاط و"اندماجه" في كيانها من جديد. تكمن أهمِّية هذا الإسقاط أو الخلع في كونه يتم بصورة واعية؛ فوحده استيعاء كافة المضامين اللاواعية، من أدناها إلى أعلاها، من شأنه أن يُسفِر عن تكامل داخلي أصيل، يعبِّر عنه أحمد في الرواية بقوله لسلمى: "كوني نفسك يا سلمى!"
ويتسنَّم التكامل الذاتي ذروتَه الممكنة البلوغ في هذه المرحلة من حياة سلمى في لقائها الجسدي مع أحمد الذي يرمز الجانب العشقي فيه إلى الاستيعاء الفعلي للقرين وإعادة خلق أحَدي الجنس الأولي androgynus، آدم ما قبل السقوط، السابق لكل تمايز بين الجنسين، والعاكس للوحدة الأصلية الأولى قبل أن يحدث فيها شرخ الثنائية الظاهر (ص 298):
[...] استحالا جسداً واحداً. عادا كما كانا في البدء... إنساناً واحداً!
إذا كانت المآسي التي يعيشها الإنسان تفيد في تنبيهه إلى ضرورة التعرُّف إلى القوى المظلمة القابعة فيه والمتحكِّمة في سلوكه الخارجي، بوركت تلك المآسي! ولو وُجِدَت حفنة من البشر لا تألو جهداً في إخراج هذه القوى من نفسها إلى نور الوعي والسيادة عليها بفضل استيعائها، لن يعود الإنسان بعدئذٍ ألعوبة أمواجها العاتية، ولسوف يخطو خطوة واثقة على طريق حضارة الداخل - وليس مدنية الخارج -، ويحقق حضوره الاجتماعي الحقيقي، وليس وجوده التجمُّعي الكاذب
بعد أن دخلت سلمى ذلك الخضم العام [افهم: اللاوعي الجمعي]، الذي طالما حلمت بدخوله، أحست أنها حققت توازنها الداخلي، الذي لا يستطيع المرء مواجهة صعوبات الحياة الشاقة من دونه [...] صارت ترى نفسها في أفضل حال، قادرة على مواجهة الآلام الحقيقية، المفهومة والمبرَّرة، وعلى تحدي الصعوبات الفعلية التي لا بد من تحدِّيها كي يكون الإنسان إنساناً!
تلكم هي رسالة "زهرة اللوتس"!
*** *** ***

* أميمة الخش، زهرة اللوتس، دار المستقبل، دمشق، 1993، 308 صفحة