يرى أدونيسُ أنّ هناك سببين منعا من نشوء الفلسفة العقلانية بمعناها الخالص الجذري ــ استناداً إلى حركة الاعتزال ــ وهما:
1- أنّ العقل العربي ــ بما فيه الفكر الاعتزالي ــ يفسِّر ظواهر الطبيعة بالفعل الآلهي المباشر والمستمر..
2- أنّ العقل العربي بقي أسطورياً..؛ فهو ــ بوصف أدونيس ــ إيمانٌ ينطلق من مقدِّمات شرعية.. بعيداً عن التجرِبة..
وقمة التحوّل يراها أدونيسُ في تجربتي ابن الراوندي والرازي اللذين انطلقا من حركة عقلية تنقد الوحي بذاته..؛ فقد قالا ــ وفق فهم أدونيس ونقله ــ:
"إمّا أنّ الوحي موافق للعقل.. وإمّا أنه مخالف..فإن كان موافقا؛ فإنّ العقل يغني عنه، ولا يحتاج إليه الإنسان.. أمّا إن كان مخالفاً؛ فذلك يعني أنّه لا تنقذ الإنسان إلا قوة تناقض الإنسان.. فكأن الإنسان موجود خارج نفسه، وهذا مما يكِّذبه العقل..؛ فالوحي في الحالتين.. إمّا أنه نافل.. وإمّا أنّه باطل"
والخطوة الأولى في تحرير الإنسان من الدين..؛ لأنّ قدرةَ ذلك الإنسان ــ تاريخيا ًوسياسياً واجتماعياً ــ مقيَّدةٌ بسلطة الوحي..، وهذا النقد ــ الذي يدعو إليه أدونيس ــ يتضمَّن نقداً للفكر الذي نَتَجَ من الوحي..
"إنّ هذا النقد يرى في نهاية النبوّة بداية الواقع، وفي نهاية النظريّة بداية التجرِبة"؛ لـ"يصبح الفكرُ انبثاقاً من التجرِبة.. لا هبوطاً من الغيب".. ولـ"تصبح السياسةُ ممارَسةً إنسانية تقوم على العقل".. لا "ممارَسة باسم الوحي"..
وهكذا يكون الإلحادُ "أوّلَ شكلٍ للحداثة في الثقافة العربية ــ الإسلامية..؛ ذلك أنّ نقد الوحي في مجتمع يقوم على الوحي.. ليس بحسب المنطق الإلحادي الشرط الأول لكل نقد وحسب، وإنّما هو أيضاً الشرط الأول لكلِّ تقدُّم"..
على أنّ الإلحاد بقي عقلياً..؛ فلم يرافقه نقدٌ لأوضاع الإنسان ومشكلاته.. وتلك سمةُ نقصٍ أبقت الإلحادَ في تلك الدائرة العقلية..؛ فلم يقوِّض ما تأسس عليه الدين.. بل اكتفى أن يكون هدْماً للدين وحدَه..
وربما كان الإلحادُ ردّةَ فعلٍ مبالغ بها تجاه الجبرية..؛ فالحقيقة القبليّة ــ كما يُعلِّم الدينُ بمفهومه الممارَس ــ منتفيةٌ..؛ إذ لا تتحقق، ولا تتكشَّف تلك الحقيقة إلا بالعمل والممارسة.. لا بالنظر والتأمل..
"الوحي بتعبير آخر ــ من حيث هو نصّ ــ اكتمل وانتهى،و التاريخ ــ من حيث هو وقائع ــ لا يكتمل ولا ينتهي، وإنما يظلّ منفتحاً..
هذا التعارض بين الوحي والتاريخ هو ما حاولت حركةُ التأويلِ أن تزيلَه؛ فالتأويل هو قراءةٌ لنصوص الوحي بشكل لا يتعارض مع حركة التاريخ، بل على العكس يتوافق معه..
ومن هنا التوكيد على أنّ هذه القراءةَ يجب أن تستخرج المعنى الذي لا يتعارض مع العقل"..
"وإذا كان الوحيُ يحلُّ محلَّ التاريخ الحي، وعوامله المادية والواقعية عوامل غيبية لا زمنية؛ فيفسِّر الزمني باللازمني، والإنساني بالإلهي..؛ فإنّ التأويل محاولةٌ لتزمين الدين، وإعطائه أبعاداً مادية وإنسانية..
"وهكذا يعني القول بتغيُّر الزمن تجاوز التقليد إلى الحديث الناشئ، أو تجاوز ما لم يعد واقعياً إلى ما أصبح قائماً في الواقع..
ومن هنا أَخَذَ الحاضرُ يتعارض مع الماضي، وأخذ الحالي يتنافس مع السابق.. ونشوء الحسِّ بالحالي يتضمَّن ــ بالضرورة ــ نشوء الحسِّ بالممكن.. أي بالمستقبل"..
وبالمقابل ازداد الاتجاهُ السلفيُّ إيماناً بالماضي وسطوتِه..؛ فالحاضرُ سقوطٌ، وابتعادٌ عن الماضي..
ولعلّ في تلك المقدِّمة الكبرى ــ التي تصل إلى أنّ الوحي إمّا نافل وإمّا باطل ــ حديّةً غير مبرَّرة.. وهو ما قاد إلى نتيجة صداميّة بين العقل والنقل..؛ فيمكن أن يتوافق العقل والنقل.. ويمكن أن يقودا إلى هدف واحد..؛ فتضافرُ دليلين مختلفين في الإثبات أدعى للقبول.. ويستوي في هذا أن نقول: إنّ الحسَنَ ما حسَّنه الشرع.. أو أن نقول: إنّ الحسَنَ ما حسَّنه العقلُ، وجاء الشرعُ موافقاً له..
ولو أردنا استفزاز تلك الحدّة.. وربما بيان عوارها..؛ لعكسنا القضيةَ؛ انتصاراً للوحي على العقل؛ فقلنا:
إمّا إن العقل موافق للوحي.؛ فلا قيمة له.. وإمّا أنّه مخالف له.. وبذا يكون باطلاً.. لا نافلاً..
وهذا العقل الذي نتحاكم إليه.. هل يتوافر على منهجيات صارمة واضحة المعالم.. إنه ــ أحياناً ــ يتصادم مع التجربة التي يمجّدها أدونيس..
إنَّ الإشكال يبقى في التعامل مع ذلك النصِّ المقدَّس.. لا النصّ ذاته..
وربما تخلّى أدونيسُ عن منهجيته في سبيل تلميع هذه الحركة..؛ فكلُّ تحوُّلٍ أصبح ثابتاً ــ فيما بعد ــ؛ ليدخلَ في سياق المذموم الأدونيسي..
فما الذي انفردت به هذه الحركة؛ لتستحقَّ هذا الاحتفال الأدونيسي..؟!
أليس هذا التمجيدُ الأدونيسيُّ داخلاً في باب الاتِّباع.. لا الإبداع..؟
فما الذي أضافه أدونيسُ على هذه الحركة ــ بعد إلحاده ــ..؟!
لماذا لانرى هذه الاختلافات في التناول ــ مع النصِّ أوضدّه ــ سواءً تلك التي تحنِّط النصَّ أم تلك التي تتأوله؛ ليصبح موائماً لأزمانٍ متباينة.. أم حتى تلك التي تصطدم بالنصِّ..؛ فلا ترى له أيَّ مزيةٍ..
لماذا لا نراها ظواهرَ صحيةً..؟
ولماذا يحتِّم أدونيسُ هذه النظرة الآحادية..!؟
فلو حدث ما يدعو إليه أدونيس؛ لأصبح هذا المنحى الإلحادي ــ وحده ــ مهيمناً..؛ ولأقصى غيرَه..
فهل هذه الهيمنة التقليدية هي التي دفعت لهذا التطرُّف في التنظير..؟
وهل جاءت هذه النظرة ردَّةَ فعلٍ لم تستطع التوسُّط..؟