آخر الأخبار

أزمة الفكر العربي المعاصر

إننا إذا ما ابتغينا أن نكون رجالاً ذوي فطنةٍ ودراية بينما نحن نحوز نسبةً عالية من النباهة تسمح لنا بإطلاق عبارات الاستحسان والذم على هذا الموقف أو ذاك، فإنه يتعين علينا الإقرار بأن العرب - الذين يقطنون أرجاءَ واسعةً من أراضٍ كانت يوماً من الأيام تابعة إلى ما كان يُعْرَف بـ " دار الإسلام " - ما فتئوا يعيشون في أوهام لا تقوى على مجابهة الحقائق المدعومة بقناعاتٍ تُعْنى باستحقاقات الواقع وآليات تمرير مقتضياته، ولو أننا شئنا استجلاء حالة الانحطاط التي نعيشها، وصفة الموت الاجتماعي التي تعتمرنا، وواقع الدونية التي تلف جنبات أفكارنا، فإن حديثنا هذا كان يستلزم الشروع لا محالة في الوقوف ملياً على مفصل تاريخي اتسم طوال الأمد بدرجة سامقة من الشفافية والتعتيم، حتى بات جلياً عند ثلةٍ من المراقبين أن التجرؤ على فتح تلكم الملفات إنما هو مدعاة للإتهام بكل مثلبٍ ونقيصة، بل ومجلبة للتشهير والإقصاء، الذي يتناسب طرداً مع ما تقتضيه طبيعة الخصومة زماناً ومكاناً..أفراداً وجماعات، كالإبانة عن الحروب الدامية التي اندلعت بين المسلمين أنفسهم في الجمل وصفين وكربلاء، ومروراً بتسلط الملك العضوض الذي أفضى إلى فاجعةٍ تمثلت في استقدام جحافل التتار والصليبيين إلى بلاد الإسلام، ..إلى الإعلان عن قيام الدولة العبرية، وما أعقب ذلك من زلازل وارتدادات.
بيد أننا لا نقترف مغالطة إذا ما قفزنا عن الوقائع العظام التي أُرِّخَ لها فيما بعد على أنها بداية منحنى الهبوط في تاريخ النظام السياسي الإسلامي، وبدأنا عجالتنا هذه من اللحظة التي يكيل فيها لفيف من الناس اتهاماتٍ عديدة وترهات أكثر بحق جحافل الاستعمار وجيوشه الجرارة، متهمين إياها بأنها المسئولة الأولى والأخيرة عن تنامي ظاهرة الأمية فيما بيننا، والعجز في الإمكانات داخل أوطاننا، وغاية التخلف المستفحل في أركان بلادنا، زد على هذا حجم التراجع الذي لحق بمقدراتنا وأسباب عزتنا ونهضتنا، ثم - وفي مقابل ذلك - نغفل أو نتغافل عن البعد الذاتي في تحمل الأعباء والتبعات التي تكفل للأجيال إذا ما أُخذ بها ارتقاءً في الفكر وسمواً في العطاء ؛... علاوةً على أنها تضمن الاكتفاء الذاتي المُشْرَب بالاستقلال الفعلي في بلاد العروبة لا الاسمي، والتي أمست تستورد من الغرب قوتَ يومها واحتياجاتها الغذائية اللازمة لها بمبالغ طائلة وصلت في عام 1995م إلى 34 مليار دولار سنوياً، ثم نجيء في أعقاب ذلك لنُلْحِق بالاستعمار كل نقيصة من نقائصنا وكل مثلب من مثالبنا، مع أن الأمر في حقيقته مغاير تماماً عن الصورة التي نرسمها لحاضرنا أو ماضينا.
إنني هنا لا أبرِّئ الاستعمارَ مما فعل ولا الغزوَ الفكري وما أورث، بيد أن نجعل من المستعمرين قميص عثمان نُسْقِط عليهم كل ما فينا من عيوب وسقطات فهذا ما لا يرضى به عقل ولا يستسيغه دين، بل كان الأحرى من هذا كله هو أن لا نسمح للأفكار الوافدة - التي تتضاد مع النظام العادل والمنشود - لأن تتربع في أذهاننا قبل أن يرحل الأجنبي بجيوشه عن ديارنا !!
ويذكرني في هذا السياق أنه وبينما كنت طالباً في الفصل الأخير من دبلوم الدراسات العليا بجامعة الأزهر بغزة، إذ طلع علينا طالب قدير يتحدث قبالتنا وبحضور الدكتورة المشرفة علينا حول قضية " الأمية في الوطن العربي " فأبصرته كيف ينحي باللائمة ويلقي بكل جريرة على الاستعمار ورموزه، بل وذهب إلى أبعد من ذلك حين أشار بأصابع اللوم والاتهام إزاءه إلى الحد الذي قذف عليه شآبيب غضبه، ولكم كنت أتمنى لو أن هذا الإسفاف في الفكر وقف عند هذه الدرجة ،...إذ سرعان ما خرج علينا آخر في المحاضرة ذاتها ليتناول في دراسته المتواضعة ظاهرة " التخلف في العالمَيْن العربي والإسلامي "، فألفيته يعزي ذلك وكسلفه إلى قوات الاحتلال، ..حينها شعرت أن الأمر يحتاج إلى تعليق، فاستأذنت الحضور كيما أتحدث إليهم دون إسهاب مني أو إطالة، قائلاً لهم:
إننا حينما نحيل كل اشكاليات الواقع الذي نحيا إلى الاستعمار، فإننا إنما نؤدي مهمةً لا تخدم سوى تزييف الواقع وتضبيب الرؤى، وتتلخص هذه الغاية في محاولة تبرير واقع العجز الذي نعيش، والتهرب من المسئوليات العظام التي تنتظرنا، حتى حقَّ علينا قول الشاعر:
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا
نهجو ذا الزمان وأهله ولو نطق الزمان لنا هجانا
وأنا بدوري لا أدري كيف نرسي في أدمغتنا مسوغات من شأنها أن تحمِّل المستعمرين أكثر مما يطيقون وأبلغ مما حُمِّلنا ؟!! كيف يجدر بنا اتهام الاستعمار بالتسبب في استشراء الأمية بيننا مع أن هذه الظاهرة كانت متفشية في العالم الإسلامي قبل قدوم أول فوج من أفواج المحتلين بقرونٍ من الزمن !! ... كيف يحلو لنا فعل ذلك مع سبق الإصرار واليقين ؟؟!!
ثم ألم يكن الاستعمار معنياً بخلق حالة من الوعي والاستنارة بين أبناء وشعوب المنطقة المسحوقين، سيما تلك التي تجئ منسجمة مع مشاريعه الاستعمارية ومخططاته الإمبريالية التي تكفل له تبعية " دار الإسلام " بكل ما تحتضنه من خيراتٍ وثروات للأسياد القابعين هناك في الغرب ؟! مما أفضى إلى بروز بعض التداعيات والتصدعات الخطيرة في تاريخ الأمة وذاكرتها، والتي وقف على رأسها ما تفوه به عميد الأدب العربي من تصريحاتٍ لا يأنس بها أولوا الألباب، وذلك حينما " أتحفنا " بقوله: " إن التعليم كالماء والهواء " ، ...ثم يردف كلامه هذا بمقولةٍ لا تتلاءم ومن يجري في عروقه دم حار ناهيك عن العربي، وذلك في كتابه " مستقبل الثقافة في مصر، الذي دعا فيه إلى الأخذ بالحضارة الغربية " حلوها ومرها.. خيرها وشرها !!
ألا يروق للاستعمار أن يأخذ على كاهله مهمة نشر ثقافات كهذه وعلوم كتلك بين ظهرانينا !! فكيف نزعم بعد هذا بمجمله أن الاستعمار كان حريصاً على نشر الأمية وتجهيل الأمة ؟؟!! ...ولما لم يقتنع بعض الحضور بحديثي توجهت إليهم بالقول:
انظروا حولكم ...!! إلى أكوام الورق المتناثرة بين مقاعد الدراسة في غرفتنا، وإلى فضلات المكسرات التي تتكدس في أطراف القاعة وحوافها، هل يمكن لأحدكم أن يقنع أحداً بأن الاحتلال هو السبب الذي يقبع وراء نشوء مثل هذه المظاهر والتجليات ؟؟!! علماً بأن المحتلين أنفسهم كانوا - وما فتئوا - مثالاً للنظافة ورمزاً لها !؟!؟
إنني أدرك تمام الإدراك أن التبعة الملقاة على عاتق ذوي الكفاءات العالية من المقيمين في ديار العروبة ثقيلة، كما أن الواجبات والأحمال الواقعة على ضمائر المستبصرين والأحرار من أبناء الأمة جسام، إلا أن ما يُحْزن القلب ويُدْمع العين هو أن غياب الرؤية الواضحة وارعواء العزيمة القاهرة حالتا دون تنفيذ الكثير مما يتوجب علينا المواظبة على فعله، وأنا أستهجن كيف لا تُمْسي المهمات عظيمة بينما لا زلت أبصر شرائحَ عريضةً من مجتمعاتنا تقف والأفكار المستوردة على أرضية واحدة، وهذا يعني بالضرورة أن الأحداث الكبيرة والوقائع المهولة التي عايشها آباؤنا من قبلُ والتي نكتوي بنارها اليوم، إنما هي تُصْنَع في كثيرٍ منها على عين الغزاة المستبدين، ...هذا في حقبة لا زلنا نتجرع فيها الغصة تلو الغصة على أرضية دفع ضريبة غياب نظام الحق والعدل والمساواة عن سدة الحكم، بعد أن أسألنا إلى شرعنا الحنيف إما بالتأويل الفاسد، أو بالتطبيق الخاطئ، أو بالهمم الخائرة التي اعتمرت سلوكياتنا وغلبت علينا.
إن أخطر ما ورثناه عن الاستعمار بعد " رحيل " قواته عنا وعقب حملات التغريب التي ما فتئت على أوجها، إنما يتجلى في شعورنا بالدونية والمنبوذية والاستضعاف على الأصعدة كافة، بل قد يفوق ذلك خطورةً أمرٌ آخر ألا وهو قابليتنا - على حد تعبير مالك بن نبي - للاستعمار ، أو كما سماها المفكر علي شريعتي قابليتنا للاستحمار؛
إن الغرب مهما بلغ من تقدمٍ علمي وتكنولوجي ومهما أُوتي من غطرسةٍ وبأس، فإن مسألة إخضاع الشعوب الأخرى لتسير في فلكه ولتأتمر بأمره، لا تحسم إلا عند تلكم الأمم التي تحظى بالقابلية لهذا الغرب، ولا أبالغ إذا ما قلت أن الأكثر إيلاماً مما ذُكِر سالفاً هو الوقوع ضحية للمتناقضات والأضداد الذي أصبح سمة مميزة يتحلى بها المجتمع العربي أكثر من غيره من المجتمعات، حتى أن الواحد منا لا يتردد في حكمه على الأمور بالكيل بمكيالين، خذ على سبيل المثال لا الحصر:
قيام فلان من الناس بالثناء على رئيس إحدى الجامعات الغربية لكونه يذهب إلى جامعته بواسطة دراجة بخارية وقد يُسْهِبُ في الحديث حول هذه المداخلة إطراءً ومديحاً، في حين لو أن عربياً فعل نفس الصنيع لقام ذلك العربي المادح في المرة الأولى بذم هذا الصنيع الأخير، بدعوى أن ما صدر عن رئيس إحدى الجامعات العربية إنما جاء على قاعدة الشح والبخل والولع في اكتناز المال ..إلخ ؛
وقد تجد آخر يتفنن في مديح تواضع أحد مرشحي الرئاسة الأمريكية لأنه كان يرتدي بنطالاً من نوع ( الكابوي ) إبان دعايته الإنتخابية أو حتى في فترة حكمه ذاتها، بينما إذا ما لبس أحدنا بنطالاً من النوع المذكور، فإن هذا الآخر لن يتوانى عن إطلاق عبارات التسفيه والذم متهماً من يُقْدم على ذلك بأنه صغير السن ... قليل التجربة ...عديم الذوق ...فاقد القدرة على مواكبة العصر ؛ .
إن الحالة التي فقد فيها المسلمون مبررَ وجودهم وإحساسهم بعدم حاجة البشرية إليهم، وعدم شعورهم بالتميز الحضاري، وهو ما يسميه توينبي بـ ( الشعور بالأناقة )، إنما هي ملامح أصيلة تعبر بشفافية وأريحية عن فقدان الأمة لتوازنها النفسي والاجتماعي، أو قل إن شئت معالم محفورة بالذاكرة كانت قد تفشت بين جنباتها قبل الحملات التي قام بها الغزاة من التتار والصليبيين القدامى منهم والجدد، ولم يكن دور الاستعمار يتعدى في تلك الأثناء استغلال هذه الظاهرة وتوسيع رقعتها، ...ففي صدر الإسلام كان القانون الإسلامي فوق الجميع، وكان الناس جميعاً تحت طائلة المساءلة والمراجعة سواءً أكان ذلك على صعيد الحاكم أو المحكوم، ...فالحاكم مثلاً إذا ما ظلم أو تنكب الجادة أو أن ظاهرَ أمره يوحي بذلك ولو بالقدر اليسير، ألفينا الحشود تهرع نحوه طالبةً منه العدول عن طريق الانحراف، لكن الأمور فيما بعد انقلبت رأساً على عقب وتحديداً في أعقاب سيطرة الحكم الملكي والتسليم بواقع السلطان المتغلب، ورضوخ الفقهاء لإملاءات السلطة السياسية، وما نجم عن من تداعياتٍٍ ومستجدات لا تمت بأدنى صلة إلى ماضٍ كنا فيه أعزاء لا أذلاء ...ومتبوعين لا تابعين، حتى اتخذت الغالبية الساحقة من المثقفين المناظرات الأدبية والفكرية ألهيةً حيناً وتسليةً أحياناً أخرى، وذلك تحقيقاً للمآرب ومطيةً لتنفيذ المخططات، بغض النظر عما إذا كانت تلكم المساجلات عقيمة أو مجدية.
ونتيجة طبيعية لتسلط تلك السياسات على رقاب المسلمين، ألفينا الجماهير الغافلة خائرةً في قواها مهزومةً في معنوياتها لدرجة أنها إذا ما وجدت من حاكم ظلماً أو جوراً فسرعان ما تتدفق مهرولة ...لا إلى الحكام هذه المرة كما دأبت عليه العادة من قبل، بل يتزاحمون ويتكالبون صوب بيوتهم ودهاليز أزقتهم متضرعين إلى بارئهم بغية إزاحة الذي جثم على الصدور، وداس على الرقاب، فضيَّع حقوقهم ونهب مستحقاتهم وخيراتهم، ولم يحجم عن التفريط بكرامتهم وسحق عزتهم، ...وهذه هي السلبية بأم عينيها لا غيرها !!! ؛ ...غرسها أعوان الحكام من مفكرين ومنتفعين وإعلاميين بين أوساط الشعوب المسحوقة لا المحتلين، بينما أشرف " رجال الدين " على إذكاء روح الخنوع والهوان و إفشاء " فلسفة الصبر " في ثقافة الناس، وبذل كل جهدٍ مستطاع في سبيل إضفاء الشرعية على تصرفات بلهاء أو قرارات جوفاء لا تورث الأمة إلا صغاراً وهواناً وتيهاً ؟؟! .. ...مع ملاحظة أن الكثيرين قد قد فاتهم أو غاب عنهم أن الفتنة كل الفتنة تتمثل في السكوت عن مظالم الناس والتشبث بنواصي السلطة واحتكارها من قبل فرد أو أسرة واحدة وحرمان الباقين منها، ...فلا تداول عندهم في الحكم، ولا استقلال لديهم في السلطات، وقل ما ترتئي بعد ذلك عن كبت الحريات والاستبداد في الحكم، والاستئثار بثروات الأمة والتلاعب بمصائرها .
إنه ليس بدعاً القول أن فقدان التوازن النفسي والاجتماعي في الأمة كان قد انقشع عنه الغبار حتى طفا إلى السطح سيما على أثر التلاعب بهيكلية النظام السياسي الأصيل في عصر الملك العضوض، ...إذ غابت شمس الخلافة واشرأبت نار ولاية العهد، وجرى تحييد الأمة وانسلخت القيادة السياسية عن هموم الجماهير وآلامهم، وتبع ذلك تهميش دور قيادات الأمة الفكرية والعلمية، ورعاية طبقة يسيرة من العلماء من ذوي الذمم الرخيصة التي لا تبيع تراث الأمة وأمجادها إلا بأبخس الأثمان، ...ثم جاءت جحافل التتار، فالصليبيين، ومن ثم الحملة الفرنسية ومن بعدها هزيمة الخامس من حزيران، لتتبوأ تلكم الأحداث منزلةً تجعل منها المسمار الأخير في الجسر الذي كان ينظم العلاقة بين حكام الأمة من جهةٍ وعلمائها من جهةٍ أخرى، ولم يتبقَ من خيارات سوى أن نحكم على ذواتنا بالموت العضوي فنقدم على الانتحار، أو بالموت ذي الطابع الفكري فنعتزل الخلق والناس، أو بالموت الوظيفي فندخل في غياهب الضياع والتحلل من الفضائل والأخلاق، ..وهكذا نكون قد فقدنا أكثر ما في الوجود جمالاً وجلالاً، وأضحينا عاجزين عن امتلاك متطلبات النهوض وأسباب الرفعة والسؤدد، بعد أن جهلنا إمكاناتنا وضاعت ذخائرنا، وأصبحنا غير قادرين على فهم ما لدى الآخرين من ملكات وايجابيات، حتى أمسينا في ذيل القافلة، وما فتئ البعض يتشدق بأمجاد الماضي ويتغنى بمآثره، بينما نحن من أبعد الناس عن فهم الحاضر، بل ولا نمتلك التصور اللائق لطبيعة الاستعدادات إزاء ما سيأتي به المستقبل من إفرازات وأحداث عظام، وبات واضحاً أننا لم نرث حاشا استنزافاً خطيراً في مواردنا، واهتزازاً سافراً في استجلاء أصول فكرنا، وتزييفاً شاسعاً للحقائق في أذهاننا وأنماط التفكير لدينا.
إن الوقوف أسرى لمفاهيم المنبوذية والدونية هو محصلة طبيعية لما سبق الإشارة إليه من غياب للوعي واضمحلال للذاكرة، وإن الوصول إلى حالة من الاستقرار الاجتماعي لا تمر إلا عبر بوابتَيْ الاستقلال الاقتصادي والسياسي على حدٍ سواء، وإننا إذا ما بقينا مضبوعين بثقافة الغرب وحضارته دون تمييز بين الغث منها والسمين، فإن محاولاتنا المتواضعة نحو التقدم لن تجدي نفعاً سوى المراوحة في المكان والبكاء على الأطلال، ...ولو أننا سلمنا جدلاً وافتراضاً أن عامة العرب قد " طردوا " المستعمر من ديارهم فإن حبه والإعجاب به والحاجة إليه عامر في قلوبهم،...وهو الأمر الذي لطالما حذر منه الثائر الكبير غاندي، وعمد إلى تدوينه في كتابه " هذا مذهبي " حيث قال:
" حربنا هذه ليس الهدف منها طرد الإنجليز من ديارنا بل لطرد الذل من بيننا " ...ثم يستطرد قائلاً :
" إذا كان كرهنا للإنكليز أنهم في بلادنا وإذا طردناهم سنصير مثلهم، فلا يقل كرهي للهندي الذي يستذل إخوانه عن الإنكليزي الذي يستذل الهندي "، وهو ما يُعْرَف عند فرويد بـ " التوحد مع المعتدي " والذي صنفه ضمن إحدى ميكانيزمات الدفاع الأساسية.
إننا إذا ما استحضرنا أسباب ابتعاث الله لنا، والغاية التي خُلِقنا من أجلها، ثم الشروع عقب ذلك إلى تغيير النفس نحو الأفضل امتثالاً لقوله تعالى : " إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم "، فإننا نكون قد خطونا الخطوة الأولى في مسيرة التحرر الطويلة، ليتسنى لنا من بعد ذلك تجاوز ضغط الواقع، والتحرر من قيود الطامعين في خيرات الأمة، هذا بعد أن نحاط علماً بعراقة الماضي وأصالته، والإمعان في استجلاء ملابسات الحاضر واستبصار مداخلاته، وبذل أقصى الجهد بغية تذييل معوقات النمو والتقدم في بلادنا، بهدف التطلع نحو مستقبل زاهر وأفضل، لا نستقبح فيه إلا القبيح ولا نستحسن فيه إلا الحسن ؛ ... بعيداً ... بعيداً عن الأفكار الوافدة التي تتعارض ونصاعة قيمنا ومصداقية تصوراتنا ومفاهيمنا ...إننا إذا فعلنا إنا إذاً لسائدون.

kh271066@hotmail.com