كل مرة يقوم شخص ما بتفجير نفسه، يطل السؤال ذاته: كيف يمكن لوي الوعي والمشاعر الى درجة وصولهم لمرحلة يعتقدون فيها ان من المفيد تفجير الذات وقتل النفس والعديد من الابرياء؟ مالذي يحدث عندما يقوم شخص ما بقطع كل علاقة له مع اهله وحياته لينضم الى طائفة اصولية او حركة متطرفة؟ الجواب يسمى " غسيل الدماغ". هذه الظاهرة لها تاريخ طويل ومؤسف.
ليلة 13 يناير 1952 أسقط الكوريين الشماليين طائرة امريكية، وآسروا طياريها Kenneth L. Enoch & John S. Quinn. بعد اربعة اشهر من الاسر قدموا اعترافا مريع ادهش الجميع: لقد اعلنوا انه كانت من مهامهم نشر امراض مثل الطاعون والتيفوس والكوليرا فوق اراضي كوريا الشمالية.
لم ينتهي الامر عند هذا الحد، إذ بعد بضعة اشهر قام الضابط الامريكي Frank H. Schwalbe, الذي كان ايضا اسير لدى الكوريين الشماليين، بتأكيد هذه الاتهامات. الادعاءات تقول ان الطياريين الامريكيين قاموا بإسقاط البكتريا القاتلة من ارتفاعات مختلفة، فوق المدن الكبيرة والصغيرة، من اجل الوصول الى افضل الطرق لاستخدام الاسلحة البيلوجية. الهدف، حسب قول الضابط الاسير، كان تحييد نشاط المدنيين.
على خلفية هذه الاعترافات القادمة من هؤلاء الثلاثة والتي اكدها لاحقا، 35 طيار اسير اخر، قام المعسكر الشيوعي بتوجيه اتهامات الى المعسكر الرأسمالي بإستخدام اسلحة الابادة الجماعية ونشر الامراض. ضعف هذا الاتهام الوحيد كان في ان امريكا لم تستخدم ابدا اسلحة بيلوجية من اي نوع في الحرب الكورية.
من خلال استخدام الاهانات والاستصغار والاستفزاز وابقاء الاسرى في توتر وقلق والتحكم المنظم على سيل المعلومات يمكن التأثير على الانسان وكسره وإعادة تحضيره نفسيا وعقليا ليقوم بما يطلب منه، مهما كان نوعه. هذا الامر يدعى: غسيل الدماغ، وهذا بالذات ماجرى على الاسرى الامريكيين. بعذ هذه الحادثة استيقظ الغرب على اهمية دراسة هذه الظاهرة، لتصبح مادة للابحاث الواسعة خلال بضعة عشرات من السنين. الكاتب Dominic Streatfeild, قام بجمع المعلومات المختصة بهذا الشأن في مؤلفه "Brainwash - The secret history of mind control". الكتاب يكشف كيف ان فكرة السيطرة على ادمغة البشر، وتحويلهم الى روبوتات حية، بدون اي دلائل ظاهرية تكشف الامر، كانت تدغدغ احلام العديد من النخب الحاكمة على مدى 50 عاما.
الشكل الكلاسيكي لغسل الدماغ استخدم لاول مرة في العصر الحديث بشكل جدي ، من قبل الاتحاد السوفيتي، 30 عاما قبل الحرب الكورية، وبالذات في العشرينات من القرن الماضي. هذا الامر بدء عندما جاء فلاديمير ايليتش لينين الى السلطة عام 1917، وظهر له على الفور ان من المستحيل اقناع جميع مواطني البلاد القيام بدعم الدولة السوفيتية.
من اجل انجاح سيطرة الثورة على كافة انحاء البلاد والمواطنين لابد من خلق طرق فعالة. لهذا السبب دعى لينين الفيزيولوجي الروسي الشهير ايفان بافلوف الى الكريملين. بافلوف كان مشهورا بسبب تجاربه على ردود الافعال الشرطية التي اجراها على الكلاب، حيث اعاد تصميم سلوكهم الغير واعي من خلال عدة انواع من المحفزات. إضافة الى ذلك قام بقياس مختلف نشاطات الاعضاء الداخلية، لدى الكلاب، في فترة تعرضهم للتأثيرات المختلفة.
بأمر من لينين، كان على بافلوف يحاول تطبيق نتائج تجاربه عن ردود الافعال الشرطية، على الانسان. بالنسبة لبافلوف لم يكن هناك معضلة تمنعه من تطبيق الطريقة على الانسان، إذ ان الانسان من حيث المبدء ينتمي لمملكة الحيوان، مبرمج على نفس المبدأ: المتعة والالم، المكافأة والعقوبة، الجزرة والعصا.
بعد ثلاثة اشهر من العمل قد بافلوف تقريره المؤلف من 400 صفحة، حيث، وحسب تعبير لينين، سيكون قادر على ضمان انتصار الثورة الشيوعية العالمية، وكما يقال، فإن هذا التقرير لم يغادر جدران الكريملين. النتائج العملية لتقرير بافلوف خرجت الى العلن بشكل جدي في ثلاثينات القرن الماضي، تحت رعاية ستالين.
من عام 1930 الى عام 1938 قام جوزيف ستالين بإجراء مايعرف " عملية موسكو"، حيث جرت مجموعة محاكمات تصفية لمنافسيه من قادة الحزب الشيوعي. نعلم اليوم ان جميع التهم التي وجهت لهم كانت مفبركة، وأن اعترافهم جرى بفضل عملية غسل دماغ ناجحة. لقد قال ادوارد هولتزمان، احد المتهمين:" نحن لسنا قتلة فقط، وانما قتلة فاشيست". متهم اخر، يطلب السماح له بإطلاق النار على رفاقه المتهمين، ومن بينهم زوجته، في حين ان البعض الاخر طالبوا القاضي بأن يحكم عليهم بأقصى العقوبات، وشكروا بحرارة عندما اعلن حكم الموت عليهم.
الاعتراف اثار دهشة العالم: لماذا اعترف هؤلاء الثوار، جرائم لم يرتكبوها؟ مالذي حدث بحيث جعل هؤلاء الناس يضحون بحياتهم وبقناعاتهم الفكرية؟
لم تكن هناك شواهد على انهم تعرضوا الى التعذيب الجسدي، زإذا كانوا قد تعرضوا للتعذيب، فلماذا لم يكشفوا الامر امام المحكمة العلنية، على الرغم من معرفتهم بأن سيحكم عليهم بالموت على كل الاحوال؟ هل يمكن ان المحققين السوفيت قاموا بالتأثير على المتهمين بالمخدرات والتنويم المغناطيسي؟
التفسيرات الاعتقادية كانت متعددة، ولكن لااحد كان يعلم حقيقة مالذي حدث قبل المحكمة. فقط بعد عشرة سنوات بدء الغرب بدراسة هذه النماذج العديدة عن غسيل الدماغ الذي قدمها النظام السوفيتي. هذا الامر بسبب تعدد الحالات بما فيه حالة الكاردينال الهنغاري Józef Mindszenty.
الكاردينال الهنغاري كان رأس الكنيسة الهنغارية واحد المرشحين لخلافة البابا بيوس الثاني عشر. إضافة الى ذلك كان من اشد المعارضين للنظام الشيوعي، وفي النتيجة وصل الامر الى اكثر مما تمكن الشيوعيين الهنغاريين ( او لربما الروس) من تحمله. في يوم 19 نوفمبر 1948، عندما كان اندراش ذاكار، Andras´Zakar, وهو سكرتير الكاردينال، في طريقه الى البيت، اعترضته سيارة، واجبرته على الوقوف، ليخرج منها ثلاثة اشخاص في ملابس غامقة، فيسحبوه من سيارته الى سيارتهم ويختفوا. بعد خمسة اسابيع ظهر السكرتير في مركز عمله وكان في غاية الاضطراب. خلفه كان يمشي عملاء الدائرة السرية، حيث قادهم ذاكار الى مخبئ الاضابير السرية التي كانت مخفية في السرداب.
الموظفين في الكاتدرائية الهنغارية استغربوا سلوك السكرتير واضطرابه، كما لم يتمكنوا معرفة اسباب خيانته للبطريك. بعد فترة قصيرة جاء دور الكاردينال نفسه. لقد جرى اعتقاله، ليظهر بعد خمسة اسابيع، في المحكمة، متغير تماما. كان يتأتأ في كلامه، يبلع ريقه على الدوام في تباطئ، وهو يتكلم وعيونه نصف مغمضة بنغمة واحدة لاتتغير، وتوقف طويل بين الكلمات. الكلمات التي خرجت من فمه كانت اكثر رعبا من سلوكه. لقد اعترف بانه يهيئ لانقلاب ضد الحكومة الشيوعية من خلال اشعال حرب عالمية ثالثة.
إضافة الى ذلك اعترف بأنه سرق التاج الهنغاري بهدف تنصيب اوتو فون هابسبورغ قيصرا على اوروبا الشرقية. الكاردينال، المعروف بثقافته الواسعة وبتعليمه العالي، كان كلامه لايدل عليه. " لقد استولواعلى روحه، بطريقة من الطرق"، كتب احد عملاء الجيش الامريكي.
الغرب اصابه الحنق، وهو يرى كيف ان رفاق الحزب الواحد يشكرون جلاديهم على احكام الاعدام، ومن ثم كيف ان بطريارك هنغاريا يعترف بخطة انقلابية مثيرة للسخرية. تسأل الغربيين: هل تمكن الاتحاد السوفيتي من تطوير طرق تتحكم بشخصية الانسان وتحوله الى روبوت؟ هل جرى تصدير هذا التكنيك الى الدول الشرقية الاخرى، مثل كوريا الشمالية واوروبا الشرقية؟
لم يمض وقت طويل قبل ان تحدث حادثة جديدة تقوي شكوك الامريكان والبريطانيين حول ماتمارسه الدولة السوفيتية. هذه الحادثة هي الحرب الكورية اعوام 1950-1953. ان يقوم بعض الطيارين بالاضطرار للادعاء علنا انهم استخدموا الاسلحة البيلوجية، هو شئ، في حين ان يقوم بعض الطيارين الاخرين من الذين ايضا كانوا اسرى لدى الكوريين الشماليين، بالاعلان عن اعتناقهم الايديولوجية الشيوعية عند عودتهم للوطن، هو شئ اخر.
بعضهم وصل به الامر الى الادعاء انهم كانوا جواسيس لدى الولايات المتحدة الامريكية، وبالتالي فإن اسرهم كان مبررا تماما. إضافة الى ذلك كانوا يصرون على الدوام انه جرى معاملتهم بكل رأفة وبعناية ، في دفاعهم عن الكوريين. في ذات الوقت كان كل شئ يشير الى اتجاه معاكس.
اولا، لايوجد مايدل على انهم كانوا جواسيس لدى الولايات المتحدة، وثانيا، اعترف العديد من الاسرى الاخرين، من الذين كانوا معهم، انهم تعرضوا للضرب، وجرى ربط ايديهم وارجلهم، وكان يُمنع عنهم الطعام والشراب والنوم. بمعنى اخر، لم تكن هناك رأفة وعناية ومعاملة حسنة. في النهاية جاء الدليل الاخير الذي يشير الى انه هناك شئ ما، غريب، يحدث للاسرى. في نهاية الحرب، رفض 21 اسير امريكي، 3 بلغار، وجندي بريطاني، بكل عزم العودة الى الوطن، مما يشير الى وجود عامل جدي.
منذ لحظة وصول الاخبار عن التغييرات التي تحدث للجنود الامريكان، ابتدع الصحافي الامريكي ايدوارد هونتر، Edward Hunter, تعبير " غسل الدماغ". هذا الامر جرى على صفحات جريدة ميامي اليومية، 24 سبتمبر 1950. على خلفية حواراته في مقابلاته الصحفية مع الذين اصبحوا شيوعيين، بعد إعادة برمجتهم في الاسر عند الصنيين، ذكر هونتير ان الصينيين انفسهم اطلقوا اسم "Xi-nao", على طريقتهم، وتعني " تنظيف الاحاسيس". هونتير اعاد تسمية الامر بطريقة اكثر تعبيرية، " غسيل الدماغ"، واصبح متابعا لهذه الظاهرة. يكتب هنتير واصفا هذه الظاهرة:" ان الهدف هو تبديل الاحاسيس والمشاعر بطريقة راديكالية، بحيث ان المرء المعني يصبح مجرد العوبة، روبوت انساني، بدون ان يثير مظهره الخارجي اية شكوك عن ماحل بروحه".
السي اي يه بدأت بدراسة هذه الظاهرة، وانشأت لهذا الغرض وحدة خاصة عام 1950، في سرية تامة. في البداية كان اسمها BLUBERID, ثم جرى تغيير اسمها عام 1953 الى MKULTRA.
كان الاعتقاد سائدا لدى السي اي ايه، ان الكوريين استخدموا مواد كينماوية في عملية غسل الدماغ لدى الجنود الامريكيين، وخلال بحثهم عن هذه المواد تجاوز الاميركيين القواعد الانسانية والاخلاقية. سي اي ايه قامت بتغذية اشخاص التجربة بميسكالين، meskalin, والتي تستخلص من صبار خاص، وفطر مما يستخدمه الهنود الحمر في طقوسهم، وحتى المادة الصناعية LSD. إضافة الى ذلك، فإن اشخاص التجربة لم يكن لديهم علم انه تجري عليهم اختبارات. مثلا، مجموعة من السجناء كانت تعطى لهم جرعة يومية من مخدر LSD, وهي جرعة يجري زيادتها ببطء على مدى 70 يوما.
في تجربة اخرى، اضاف موظفي السي اي ايه مادة LSD, الى مشروب زبائن احد المواخير، وبعد ذلك قاموا بمراقبة سلوك الزبون من خلال زجاج خاص، وحسب التقارير كان سلوكا مثيرا للدهشة. إضافة الى ذلك، قامت هذه الوحدة السرية الخاصة بإجراء تجارب تنويم مغناطيسي، لعدة سنوات. خلال التنويم المغناطيسي كان يطلب من الشخص اجراء جريمة، وبعد ذلك ايقاظه، بدون ان يشعر المرء بما حصل. واخيرا جرت بضعة تجارب بدائية تهدف الى زرع ميكروتشيب. ولكن تمكنوا من اجراء عملية الزرع فعلا في قطة واحدة، وقد دهستها سيارة بعد ساعة واحدة.
عام 1973 جرى حل وإلغاء جميع هذه الدوائر التي تعمل بقضية غسل الدماغ. على الرغم من كل هذه التجارب، توصل الباحثين الى استنتاج الى انه لايمكن غسل دماغ الانسان لا بواسطة المخدرات ولا بواسطة التنويم المغناطيسي. في حين اصبح من الواضح ان الجنود الامريكيين في الحرب الكورية جرى تحطيمهم تحطيما منظماً نفسيا وجسديا، ومن ثم إعادة برمجتهم، وهذه الطريقة البدائية برهنت عن فعالية كبيرة.
بمعنى اخر، انه وعلى الرغم من اكتشاف عدم فاعلية المخدرات والتنويم المغناطيسي، كان من الممكن تحقيق غسيل دماغ الانسان، بطرق اقل بدائية، وهو امر مخيف. من الممكن تحطيم ارادة الانسان وإعادة برمجته وفقط بواسطة العنف والاذلال والعزلة للوصول الى الاخضاع.
الطريقة التي اظهرتها التجربة لغسل دماغ الضحية كانت في الخطوات التالية:
تربط ايدي الضحية وارجلها
يجري اجبارها على الجلوس او الوقوف في وضعية محددة لعدة ساعات
يستخدم ضدها العنف الجسدي والنفسي، مثلا تحقيقات لاتنقطع
عدم اعطائها مايكفي من الطعام والنوم
تقريبا في ذات الوقت الذي توصلت فيه السي اي ايه، الى هذه الاستنتاجات، ظهر غسيل الدماغ على السطح مجددا، هذه المرة بفضل الطوائف والحركات الدينية. هذا الامر حدث في سبعينات وتسعينات القرن الماضي، عندما قاموا بجذب الاعضاء، تماما كما يحدث الان في المنظمات الاسلامية الاصولية والسلفية، بما فيه منظمة القاعدة، وهي منظمات تنتشر بها عمليات الانتحار ونبذ الذات والخضوع .
هذه الحركات تستخدم بالضبط مجموعة من الطرق الكلاسيكية المجربة في غسيل الدماغ. على المستوى الجسدي، يجري عزل الاعضاء المحتملين عن بيئتهم الطبيعية، ويجري تحميلهم اعباء واعمال كبيرة ومتعبة بحيث تجهدهم، في نفس الوقت الذي يقدم لهم طعاما سيئا والقليل من الوقت للنوم. بهذا الشكل يجري تشويش انتباهه وتوجيهه نحو قضايا مختلقة، مما يؤدي الى ان قدرته على التفكير الذاتي والمستقل تسوء ويصبح ضحية سهلة للايديولوجية الجاهزة التي يراد تعبئته بها بديلا.
على المستوى الفكري والايديولوجي، يجري تشجيع العضو الجديد على نقد نمط حياته القديم ونقد اسرته واصدقائه القدامى، في ذات الوقت الذي يجري التناوب، من قبل اعضاء الجماعة، على اهانته والاستهزاء به واستصغاره، احيانا، وتحفيزه وتشجيعه احيانا اخرى، ليلعبوا معه مايسمى لعبة " الشرطي الطيب والشرطي الشرير"، وهو اسلوب يجيده الاصوليين، إذ انه الى حد بعيد جزء من منظومتهم الفكرية. في نهاية الامر تصبح الضحية جاهزة لشخصيتها الجديدة.
يجري اخضاع الضحية لاتهامات واستصغارات مستمرة وإدانات لعالمه القديم، في ذات الوقت الذي يجري اغراقه بأدلة ومعلومات عن العالم الجديد الذي عليه ان يقبله. في هذه المرحلة يعاني الضحية من ازمة في الانتماء، والشعور بتأنيب الضمير الرافض لهذه المنظومة الجديدة المطروحة امامه. ولكن، وتحت الضغط والارهاق يقوم بإقناع نفسه ان حياته السابقة كانت خاطئة، ويبدء في توضيب الطريق لنفسه ليجد مخرجا " ابيض" للخروج من الورطة، واخيرا يفهم ماعليه ان يعترف به ويقبله او يغيره. في هذه المرحلة، يرى الضحية المخرج امامه من ازمة الانتماء. هنا تجري عليه الخطوات التالية:
الضغط من اجل الاعتراف بالذنب على نمط حياته السابق.
تنهمر عليه الادلة على مسؤوليته وتقصيره وتخويفه
تنهمر عليه المعلومات عن ماينتظره من مكاسب ومتعة في الجنة وبين اخوانه
يبقى معزولا عن العالم للاستفراد به
ببطء يبدء يتحسس المخرج الذي عليه السير به ليصبح مقبولا
عند الشعور ان الضحية اصبحت متقبلة اكثر وايجابية تتغير المعاملة الى افضل، لتصبح كمكافأة ورشوة انتماء، وهي نقطة تحول تقرر مصير العملية بكاملها، حيث يتحول الامر من الضغط النفسي والجسدي الى معاملة انسانية ورحمة، الامر الذي يحطم اخر معاقل مقاومة الضحية. الايمان بالحياة وتحسن المزاج وارتفاع الامل يعاود الظهور، إضافة الى مشاعر الامتنان والانتماء. تبدء الضحية بتقبل الفكرة الجديدة بكل حماس وقناعة. في هذه المرحلة الاخيرة يجري تعريض الضحية للتالي:
مقابلته بالابتسام والنظرة الطيبة والتفهم واشاعة الاطمئنان
تحسين العلاقة الجسدية والنفسية بصورة راديكالية، ليشعر انه واحد من الجماعة
يبدء البرنامج التعليمي المنظم
تعطى اليه مهمات من اجل تجربته ، ومن اجل بعث الاعتقاد لديه انهم يثقون به
يحصل على حرية اكبر، ولكنه لازال معزولا
في الوهلة الاولى، من الممكن الاعتقاد ان الطرق المتبعة لتربية المتطوعين وتدريبهم في بعض المدارس العسكرية، مثلا البحرية الامريكية، يمكن مشابهتها بغسيل الدماغ. لهذا السبب قامت عالمة النفس الامريكية Margaret Singer, بدراسة الامر عن قرب وتوصلت الى استنتاجات انه وعلى الرغم من تشابه الطرق، ليس " غسيل دماغ" بنفس المعنى كماهو لدى لدى الطوائف والحركات الدينية الاصولية. ماتوصلت اليه نشرته في كتابها المسمى "Cults in Our Midst: The hidden Menace in Our Everyday Lives", والذي نشرته عام 1995. الاسباب التي قدمتها للبرهنة على ان طرق البحرية الامريكية تختلف عن طرق الاصوليين ذكرت التالي:
1- المتطوع الذي يقدم طلبه للانضمام الى البحرية الامريكية، يكون منذ البداية واضح لديه جميع ابعاد المنظمة التي يتقدم للانتماء اليها. على العكس نجد ان الحركات الدينية تقوم بإغراء المتقدم للبقاء فترات اضافية عما جرى الاتفاق عليه او التخطيط له، ويعي انه اصبح عضوا فعالا، فقط بعد ان تكون كافة قدراته الحرة على القرار قد جرى تدميرها، وفات اوان قدرته الحرة على الانسحاب.
2- المتطوع في البحرية الامريكية يحافظ على حقه في اختيار معتقداته وممارستها، وحقه في اختيار شركاءه وحياته الخاصة، في حين ان الامر ليس كذلك لدى الطوائف الدينية الاصولية.
3- متطوع البحرية الامريكية، يحافظ على علاقاته وقنوات اتصاله مع العائلة واصدقائه وبيئته القديمة، ولايحفز على قطعها ومعاداتها وبناء عازل نفسي من الكراهية ضد العالم المحيط.
4-المتطوع له الحق بالحصول على جميع مصادر المعلومات التي بمتناول البقية، وله الحق بالتصرف برواتبه واملاكه بقراره الشخصي والحر، على العكس مما هو الحال لدى الاصوليين.
على الرغم انه من الصعب الانفصال عن الحركات الاصولية الدينية منها او الغير دينية، حيث يصبح المرء كفرد في قطيع، الا ان ذلك ليس مستحيلا. " إعادة البرمجة" لايبقى الى الابد من نفسه، وانما يجب ان تجري صيانته بإستمرار. إذا لم تجري الصيانة بطريقة متواترة، تذبل مشاعر الانتماء وتموت. بمعنى اخر، لايمكن غسل الدماغ الى الابد. إذا عاد المرء الى بيئته القديمة يختفي غسل الدماغ بالتدريج. فقط قسم ضيئل من الجنود الذين كانوا اسرى لدى الكوريين وتحولوا الى الشيوعية، بقوا على معتقداتهم الجديدة، مما يعني ان التحولات، في المعتقدات السياسية، ليست ثابتة.
اليوم يتفق علماء النفس وعلماء الامراض العقلية على انه من المستحيل تفريغ الشخصية كليا وإعادة املاء الدماغ بمضمون جديد، ولكن من الموثق تماما انه، وبواسطة التعذيب والانهاك والتوتير واشاعة الخوف والقلق والتأثير المنظم، يمكن تحويل الانسان الى اداة قادرة على ان تقوم بما كان لايخطر ببالها سابقاً. يقول فرانك شوالبه، الضابط الامريكي الذي كان اسيرا في كوريا والذي ادعى استخدام الولايات المتحدة للاسلحة البيلوجية هناك:" الكلمات كانت كلماتي، ولكن الافكار التي نطقت كانت افكارهم".
بعض نماذج اشخاص جرى غسل دماغهم:
في سبعينات القرن الماضي وعندما كان الطالب ستيفان حسان Steven Hassan, لازال في عمر 19 سنة، اصبح عضو في طائفة موون الدينية. يقول واصفا الامر:" في يناير من عام 1974 وكانت قد قطعت علاقتي مع صديقتي حديثا، وكنت متعلما ومن اسرة غنية وممتلئ بالقيم المثالية والاخلاقية، عندما التقيت بثلاثة فتيات لطيفات، عزموني معهن الى الغذاء. هذا اللقاء انتهى بموافقتي على قبول دعوة اكثر جدية، امتدت لمدة ثلاثة ايام من الاجتماعات والقراءات، اصبحت بعدها مؤمن بان ارادة الله تدعوني ان اترك دراستي، واترك عملي، واغلق حسابي البنكي، واتبع المسيح الجديد: Myung Moon. بعد بضعة اسابيع اصبح مقتنع ان نهاية العالم على الابواب وان الحرب العالمية الثالثة ستقوم عام 1977، وان مسؤوليتي الشخصية هي الانتصار على الشيطان وتأسيس مملكة الله على الارض". من كتاب: Releasing the bonds.
حسان اصبح من قادة الحركة، واصبح نشيطا في جلب العديد من الاعضاء الجدد. بعد حادثة سيارة، حصل على سماح ان يرتاح لدى والديه، والذين بدورهم، وبمساعدة عضو سابق في ذات الجماعة، اقنعوا ابنهم بترك الجماعة. حسان قام بكتابة كتابين عن هذه الجماعة، ويعمل الان كمستشار لدى اعضاء هذه الجماعة واهلهم الذين يريدون اخراجهم من الجماعة.
في عام 1974 جرى اختطاف Patricia Campbell Hearst في سان فرانسيسكو وكان عمرها 19 سنة، وكان خاطفيها مجموعة تطلق على نفسها اسم The Symbionese Liberation Army, SLA. بعد شهرين استلمت احدى المحطات الاذاعية شريطا تعلن فيه باتريسيا انها، بحريتها التامة، تعلن تخليها عن اهلها ونمط معيشتهم الراسمالية، وانا تنضم الى منظمة خاطفيها في صراعهم ضد الاستغلال والظلم. بعذ ذلك بفترة قصيرة شاركت في عملية سرقة منظمة على بنك. القسم الاكبر من محاكمتها كان يدور عن فيما إذا كانت قد تعرضت الى غسل دماغ ام لا. لقد ذكرت كيف انها كانت مربوطة الايدي والاقدام ومعصوبة الاعين ومتروكة في احدى الحزائن اسابيع، في خلالها جرى اغتصابها وتهديدها بالموت بإستمرار. من خزانتها كانت تسمع نقاشاتهم المستمرة عن الرأسمالية " الشيطان الاكبر" وكيفيفة اهدار النظام الرأسمالي لموارد الارض وتعريضه العالم للفقر والجوع. هذه المناقشات ايقظت فيها مشاعر الذنب وتأنيب الضمير. بعد ذلك جرى اطلاقها من الخزنة وجرى معاملتها بطيبة، وبدأ كورس تعليمي ايديولوجي وتعليمها استخدام السلاح. عندما اصبحت تشارك في النقاشات، جرى عرض المشاركة عليها في سرقة البنك كتعبير عن الثقة فيها.
في 25 نوفمبر من عام 2001 قامت القوات الاميركية بأسر جون والكير John Walker Lindh, عندما كان يقاتل في صفوف طالبان. كيف اصبح مراهق امريكي جندي في جيش طالبان، ويخوض الجهاد المقدس؟ جون والكير ولد عام 1981 في عائلة امريكية متوسطة. بعد قراءته لكتاب مالكوم اكس، ازداد اهتمامه بالاسلام، وهو كتاب عن زنجي امريكي شاب، يترك عالم الجرائم ويعتنق الاسلام، ليصبح قائد معترف به عالميا، ليموت في احد الاعتداءات عام 1965. جون والكير اعتنق الاسلام عندما كان عمره 16 سنة، ورمى كافة اسطواناته، وبدل ملابسه الى الجلابية البيضاء واصبح من مرتادي الجامع المحلي. بعد الثانوية ذهب الى اليمن لتعلم العربية لمدة عام، وفي زيارته التالية لليمن انتقل منها الى باكستان للدراسة في مدرسة قرأنية، ومن خلالها التقى بممثلي طالبان والتحق معهم الى معسكراتهم، حيث التقي بن لادن. بعد عام واحد وقع في ايدي القوات الامريكية اسيرا. تقول امه بحزن:" لابد انهم قاموا بغسيل دماغ له"، في حين يقول ابوه:" لابد ان ليس لديه دماغ على الاطلاق، او انه توقف عن العمل". بالرغم ذلك حكم علبه بالسجن لمدة 20 عاما. خلال المحكمة صرح جون نفسه قائلا:" لو كنت ، في ذاك الوت، قد فهمت ماعلمته الان عن طالبان لما التحقت بهم ابدا".
Margaret Singer