وذلك بالإضافة إلى كثير من المحاربة والتشكيك والإعاقة من آخرين، وما زالت بعض حملات التشكيك الظالمة تمتد إليَّ إلى اليوم بافتراءات ظالمة تُشكك بنزاهتي، ويعلم الله، ويعلم جميع من عمل معي أنها كاذبة ومختلقة. ليس هذا هو موضوعي اليوم، وإنما الموضوع درس سياسي علّمه الرئيس حافظ لأجهزته وحكوماته المتعاقبة، فما خرج عنها إلا رفعت الأسد وشريكه عبد الرؤوف الكسم. وسأقتصر على ذكر دروس ثلاثة فقط من دروس كثيرة اختبرتهم شخصيا، أذكر أولهما في هذه الحلقة، والآخرين في حلقتين تاليتين.
· كان من جملة الإنشاءات المقررة في تخطيط المشروع، أبنية المدارس الإبتدائية والثانوية، وطريق جسر يصل الضاحية بالمدينة. ولمّا كانت الضاحية تقع ضمن الحدود الإدارية لمدينة دمشق الممتازة، فقد كان من مسؤولية المحافظة القانونية الإنفاق وبناء المدارس والطريق الجسر الواصل المذكورين. وعلى هذا فقد وجهت إدارة المشروع عددا من الكتب للمحافظة لمطالبتها بإنشاء الأبنية المذكورة مُذكرة أنه سيبدأ تسليم المساكن في عام مطلع عام 1979 إلا أن المحافظة، لم تردّ ولم تستجب. ولدي مقابلتي السيد المحافظ فاروق الحموي / رحمه الله، في مطلع عام 1978 للتأكيد على الأمر، أجابني بأنه لا يعترف بأن المشروع هو ضمن دمشق، وبالتالي فهو يرفض إقامة المدارس والطريق.
· بعد شهر من المقابلة المذكورة في 1978 كنت في لجنة من مجلس الإدارة لزيارة بعض الدول الأوربية لدراسة بعض العروض المقدمة لعدد من التجهيزات ومواد البناء اللازمة للمشروع. وأثناء غيابي خارج القطر، قام السيد عبد الرحمن خليفاوي رئيس الوزراء آنتئذ بزيادة لقرية دمر القديمة، مصطحبا معه السيد المحافظ، الذي ما بخل في التحريض على المشروع وإدارته، وكان من المعروف عن السيد خليفاوي تسرعه وقلّة تبصره، فأصدر أوامره في الحال للمصرف العقاري بوقف تمويل المشروع كلية، وإيقاف تزويد مستوردات المشروع بالقطع الأجنبي. كان يمكن لهذا القرار المتسرّع أن يكون ضربة قاتلة نهائياً للمشروع.
· وجدت أن الحل لمعالجة المشكلة هو الإستعانة بالمستفيدين، وذلك من خلال نقاباتهم واتحاداتهم. ونظمت خمسة عشر إجتماعا مسائيا متتالياً بواقع اجتماع يومي لكل نقابة من النقابات والإتحادات. وذلك لعرض المشكلة ومناقشتها معهم، وقد تم عقد العشر إجتماعات الأولى بنجاح. وكان كل إجتماع يتوصل إلى قرار بمطالبة الحكومة بالتراجع عن قراريها المذكورين، وضرورة تقديم المزيد من الدعم لاستكمال المشروع. وكانت كل الإجتماعات وقراراتها والنقابة التي شاركت في كل منها يغطى إعلاميا وينشر في الصحف اليومية الرسمية.
· لم يتصل بي أحد من الجهات الأمنية لمنع الإجتماعات. ولم يوقف أي رقيب نشر قرارات الإجتماعات.
· في صباح اليوم الحادي عشر، وبتمام الساعة الثامنة، اتصل بي هاتفياً السيد وزير الإقتصاد الدكتور مصطفى العمادي، راجيا إيقاف الحملة، داعيا إياي لمقابلته فورا. كان الإستقبال حارا وإيجابيا. سألني كم يلزمكم من مبالغ القروض حالياً. أجبته بأنه ثلاثين مليون ليرة (لتغطية احتياجات عدّة شهور قادمة). اتصل فوراً بمدير البنك العقاري، وأمره بتخصيص دفعة فورية بالمبلغ. وأرفقه بكتاب خطي بالموضوع، وطلب منّي التوجه للبنك مع الكتاب، لاستلام إشعار تحويل المبلغ. وهكذا كان.
· علمت بعد ذلك من السيد مدير مكتب الرئيس حافظ / رحمه الله، أنه اطلع على تقارير عن الإجتماعات ومضامينها ومطاليبها، فوجه وزير الإقتصاد بإجراء اللازم. وهكذا كان.
· الذي ذكّرني، بالواقعة المذكورة، أني كتبت مقالا قبل فترة قصيرة بعنوان " قراءة في التحولات الإقتصادية المتتالية السورية" وكان موضوعه مناقشة الأخطاء والأزمات التي يتعرض لها القطر بنتيجة السياسات الإقتصادية للفريق الإقتصادي. وقد خلصت إلى اقتراح أن تقوم النقابات والإتحادات الشعبية إلى تدارس الموضوع، وإرسال برقيات إلى السيد الرئيس وإلى مجلس الشعب، للمطالبة بتصحيح المسار الذي تسير عليه الحكومة، نظرا لتسببه على أرض الواقع بخلق مشاكل وكوارث حقيقية للشعب ومعيشته.
· أرسلت المقال إلى سيريا نوبلز، فلم يُنشر، كررت إرساله عدة مرات فلم يُنشر. فهمت الرسالة. فقمت بإزالة المقطع الأخير الخاص بدعوة النقابات إلى إرسال برقيات لسيادة الرئيس، فنُشر المقال فوراً.
· ماذا أريد بهذه المقالة؟ إن الرئيس حافظ رحمه الله، كان يُدرك ويريد فعلاً مشاركة النقابات والإتحادات الشعبية المختلفة في القرار الذي يخص الشعب وجماهيره. وكان يرى أن هذه المؤسسات هي رافدة حقيقية للنظام، وهي جزء حقيقي فعال في تركيبته. فسمح بالإجتماعات. وسمح بنشر قرارتها مُرفقة بتعليقات كثيرة لمحرري الصحف ومشاركي اجتماعات النقابات. وقد أنتج هذا التفاعل حلاّ ممتازا للمشكلة، وأتاح الإستمرار في بناء المشروع إلى حين تسلط رفعت وعبد الرؤوف الكسم، بعقليتهما وتسلطهما المخالف لمصلحة الشعب، فكان إلغاء انتخابات النقابات، وكان إجبار إدارة المشروع على الإستقالة تحت التهديد بمؤامرة تآمرية مزعومة على النظام. وكان تأخير المشروع لما يزيد عن عشر سنوات بدل السنة الوحيدة التي كانت متبقية، وإلى مضاعفة تكاليفة عدّة مرات عما كانت تحققه الإدارة المُؤسِسة للمشروع.
· هو درس، مختصره أن النقابات والإتحادات الشعبية ليست هياكل كرتونية شكلية، وإنما لها دورها الحقيقي المعبرعن مشاركة الشعب الفعّالة، وأن حرية الرأي والتعبير والإجتماع الإيجابي هو ضرورة من ضرورات الحكم. أؤكّد على هذه النقطة الأخيرة، لأننا لا نزال نعاني شر المعاناة من الحجب والمنع والقص الذي تزايد ولا زال قائما وبشكل مُقرف. وهناك درس تاريخي آخر، وهو يفسّر من جهة أُخرى لماذا كانت البلاد تقاد قبل تسلط رفعت وعصاباته الفاسدة بنجاح وتطوير إنمائي وإنتاجي حقيقي مُدهش، وحيث لم يعد هناك فقر ولا بطالة ولا شكاوي معيشية - إلا أزمة السكن المفتعلة - وأنه لما تسلط رفعت وعصاباته، توقف النمو وبناء المصانع وانتشر الفقر والبطالة، وخُرّب النقد السوري، وتزايدت الأزمات وأزمة السكن، وانحدر الإقتصاد وكثر الفساد. إن هذا ليدل على أن التجاوز بالسماح لرموز وعصابات الفساد بالتسلط على الحكومة والبلاد، يوقف عمليا مشاركة الشعب ويوقف النمو والبناء والتطور، ويخلق الفقر ومعاناة الشعب. إن تفرد الحكومة بالحكم دون مشاركة ورقابة الشعب بنقاباته واتحاداته الشعبية، ودون مشاركة ورقابة مجلس الشعب الحقيقية سيوصل إلى المزيد من أسوأ النتائج التي تُخالف توجهات وطموحات السيد الرئيس بشار الأسد، والشعب العربي السوري.
· أُذكّر أخيراً بمضمون المادتين 48 و49 من الدستور، واللتين تتضمن حق القطاعات الجماهيرية حق اقامة تنظيمات نقابية، ومشاركتها في الرقابة الشعبية على أجهزة الحكم.