جلس رئيس النيابة إلى مكتبه وأمامه كومة من الأوراق والملفات تخص إتهامات ومحاضر مباحث أمن الدولة الخاصة بمجموعة شباب وشيوخ تم القبض عليهم بالاتهامات الأمنية المكررة التي تبدأبتهمة الانتماء لجماعة الاخوان المسلمين (المحظورة) ,مرورا بحيازة مطبوعات وعمل إجتماعات بهدف إزدراء الحكومة والدعوة لتغيير نظام الحكم,
* كانت المرة الأولى التي تتدحرج فيها هذه القضية أمامه, فقد تجدد تمديد حبسهم عدة مرات طوال الأسابيع السابقة على أيدي زملاء له , وكان عليه أن يقرر أثناء عرضهم أمامه اليوم أن يجدد لهم الحبس أو يخلي سبيلهم .
* كان يعلم بأن القرارات بالحبس وتمديده في مثل تلك القضايا كانت تصدر توجيهات بها لزملائه من رؤسائهم , وما كان منهم إلا أن ينفذوها ,ولم يكن دوره اليوم يخرج عن تنفيذ التعليمات التي تلقاها بمد الحبس لهم لعدة أسابيع.
* كان قد قرأ الأوراق والمحاضر ودرسها بعناية,لم يكن الأمر يستحق عناءً كبيراً ليتضح كذب جميع الاتهامات والتحريات الأمنية التي بموجبها قيدت حريات هؤلاء الناس وانتزعوا من بيوتهم إلى زنازين السجون .
* كان يعرف هؤلاء المتهمين الوالجين مكتبه بعد لحظات , ويعلم قدرهم في مجتمعاتهم وأماكن عملهم ,يعرف سمو اخلاقهم ورفعة سلوكهم وكم الخير الذي يشعونه حولهم ,ويدرك تماماَ أن الأمر كلهُ حسابات سياسية وكيد من طغمة الحكم تجاه مجموعةٍ من صفوةِ الوطن .
* أخذ يقلب أوراقه ويتابع التحقيق معهم فرداً فرداً وهو شارد الذهنِ فاتر الحماس , وإنتهى سكرتير النيابة من تسجيل آخر الأقوال وقدم إليه المحضر ليوقعه ويوصي بقرار النيابة العامة , ترك المحضر أمامهُ وأخذت اصابعهُ تعبث بتوتر بحافظةٍ جلديةٍ على المكتب , وعثرت يدهُ بورقةٍ مصقولةٍ تنزلق من الحافظةِ فتناولها ليقرأ ما فيها ؛ كانت آيةً قرآنيةً كريمةً مكتوبة بالخط الديواني من سورة المائدة قرأها بعينيهِ :
( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون )
* إسترجع ذهنه شريطاً لجدهِ الشيخ الأزهري الذي كان يقضي لأهل القرية في مشاكلهم وكان موضع حبهم وثقتهم لعدله في قضائه وملازمته للحق أينما اتجه ,
قلب الورقة بين أصابعه وقرإ بأحد أركانها الآية الكريمة:
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا
* ثم استحضر صورة والده مدرس أول اللغة العربية والدين بالمدرسة الثانوية ووقوفة شامخا بين تلاميذه يفيض عليهم بعلوم اللغة والبلاغة وبمبادئ الدين والقيم النبيلة ,
,فما كان أبوهُ اِمْرَأَ سَوْإٍ وما كان من المفسدين ,فما كان ليتدخل من أجل ولدهِ بالمال أو النفوذ أو المعارف ليرفع تقديراته الدراسية ,فقد كان الولد قريباً من التفوق طوال دراسته بكلية الحقوق بلا توصيات أو وسائط, وما كان أبوه ليسلك الشوارع الخلفيه ويطرق الأنفاق السرية ليعينهُ في الوظائف المرموقة حتى يضمن له وظيفةً في هذا المجال أو ذاك , كان أبوه شريفاً يبغض الفساد ,عادلاً يتحرى ألا يظلم أحداً, كسبهُ من حلالٍ,لايرشو ولايرتشي , برزت صورة والده أمامه وكأنه مازال حياً يجالسهُ وكأن صوت أبيهِ يقرأ عليه الآية الكريمه :
( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا )
* وراودت خياله صورة زوجته وهي تحمل طفلتهما على ذراعها تخطو بها في ردهة المنزل وابتسامات سعيدة تملأ وجهيهما وتشملهما موجات من الهدوء والأمان وكأنهما تترقبان يداه تربتان عليهما ,يدان نظيفتان طاهرتان عادلتان ,وصوت رخيم تسمعه أذناه يردد :
(وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان )
* إنزاحت عن صدرهِ قبضةً كانت تعصر قلبهُ واستشعر راحةً عظيمةً وأحس وكأنه قد تحرر من قيدٍ ثقيلٍ وإذ بسعادةٍ تغمرروحهُ ,فقد إتخذ قرارهُ أنهُ لن يكون ظهيراً للمجرمين
وأنهى محضر التحقيق بأن ( يخلى سبيل جميع المتهمين ويطلق سراحهم من مبنى النيابة ).
..............................................................
إنتبهت من غفوتي على آذان الفجر,وكل فجر وأنتم بخير.
17-11-2008