كان إشتعال الحروب الصليبية مطلع القرن 12، أكثر من هجوم مضاد، قادته المسيحية ضد إسلام، اختطف مفاتيح المدينة المقدسة، وهدد القسطنطينية، لقد كان إنتقالا إلى لحظة تاريخية فتحت شهية الأوروبيين لدراسة القرآن الكريم، واللغة العربية، بعدما أصبحت هذه اللغة الحاضنة الوحيدة لعلوم الأنتيكا اليونانية، ويؤشر تاريخ مدينة طليطلة، التي سقطت بيد الإسبان عام 1085م بداية إزدهار الترجمات من العربية إلى اللاتينية. ففي عام 1143م أشرف القس بيتر الموقر على ترجمة القرآن بذريعة كشف العقيدة المشوشة للمحمديين، وتم في نفس الفترة، توليف أول قاموس لاتيني عربي:Glossarium Latino Arabicum, أعقبه رواج فلسفة إبن رشد العقلانية في القرن 13 Averroeism وإختراقتها للحجب اللاهوتية في جامعة باريس.
ومع سقوط القسطنطينة بيد الفاتح العثماني ( 1453م) وغرناطة بيد الملوك الكاثوليك ( 1492م) بدأت أوروبا تكسر الإحتكار الإسلامي للعلوم، هذا مانلمسه في الصراع الذي دار بين أنصار الطب العربي Arabizantes وأنصار التحديث Neoterici، وشاهدُنا على ذلك هو دفاع الطبيب الهولندي فريسيوس عن "أمير الطب العربي إبن سينا "وتمسكه بأن دراسة اللغة العربية، ضرورية لكل من أراد تعلم الطب. ومع بداية عصر النهضة فترالإهتمام بعلوم المسلمين، وإن استمرالجدل اللاهوتي معهم، عبر كليناردوس في رسالته : عن المسائل المحمدية التي نشرت عام 1551م ثم مع إربينيوس الهولندي( 1584. 1624م) الذي درس النحو العربي، وتلميذه جيلينيوس، الذي ترأس كرسي اللغة العربية في جامعة ليدن، لكن الملاحظ أن الصراع الدوغمائي* الذي أراد إثبات فساد الإسلام قد تحوّل تدريجيا إلى إدراك لأهمية العربية في بحوث الكتاب المقدس، وكون هذه اللغة مفتاحاً لاغنى عنه في فهم اللغات الأثرية ( أكدية، فينيقية ..) إضافة دورها في التعرف على هؤلاء المحمديين الذين أطلق عليهم أيضاً إسم Agarenes: ( التلفظ الإسباني للكلمة يعني "آخرين") والآن ومع تقدم الحداثة، ومسيرة البشرية بإتجاه عولمة ثقافية ومادية، يشعر المرء بأن العرب والمسلمين لازالوا بعضاً من " آخرين " مستأنسين بقناعات قروسطية، ومتلفعين بعباءة البحبوحة البترو وهابية، وشعار القذافي: طز في أمريكا، أو محكومين بأسباب إنهيار المشروع القومي للنهضة العربية( الذي بدأ نهاية القرن19) ، وغلظة وقسوة الهراوة الأمريكية.
لذا فإن هذا الموضوع هو محاولة لتعميق وعي تاريخي مؤنسن، يساعد على تحرير ذواتنا من بشاعة الأنا والآخر!! مع الرجاء أن يسامحني القارئ الكريم، عما يراه من هفوات( ويأخذني على قد (ر) عقلي !!)، فكاتب السطور يبني قراءته وخلاصاته على فرضيات غيرمألوفة في البحوث الكلاسيكية أهمها:
1 إعتبار التاريخ (قبل عام 1000م) تاريخاً مؤسطراً، والنظر إلى جميع الأحداث التي لاتثبتها قرائن الأركيولوجيا والعمارة والمسكوكات، كذاكرة وصدى لأحداث ضبابية بعيدة، وفي أسوء حالاتها مجرد إختلاق قصصي، أستند على المخيّلة وآليات السرد الأسطورية وهذا ينطبق سواء على تاريخ الطبري، أو على التاريخ المسيحي ( الكوني ) الذي وضعه سكاليغرScaliger،وبيتو أثناء فترة الإصلاح الغريغورياني عام 1589م
2إعتبار الفتوحات العربية في عصر الإسلام المبكر، ذاكرة لأحداث وقعت، وليست أحداثا حقيقية بالمطلق!!ويشمل هذا التصوّر، الجزء الأول من تاريخ الدولة العباسية!! فالفتوحات( برأيي المتواضع ) هي فتوحات للغة كتابية عربية تمددت تاريخيا على حساب ثقافات ضربتها الشيخوخة( الآرامية والساسانية والقبطية )!! وما الحضارة الإسلامية في جوهرها العميق( بمكونيها السنيّ والشيعي ) ، إلا حضارة عربية اللسان، فارسية العقل!!
3 الأخذ بنظرية الألماني إيليغ H. ILLigالذي أثبت بالقرائن( عمارة كنائس، مسكوكات..إلخ) وجود فراغ أو زمن شبحي في التقويم الميلادي قدره حوالي ثلاثة قرون ( بين 614م و911م) كما أوضحته في مقالاتي السابقة4 إعتماد نظرية توبرU. Topper التي كشفت أن عام الهجرة الإسلامي الأول (622م) تمّ تحديده بإعتباطية وفق أرقام أسطورية، أخذها العدادون المسيحيون من سفر رؤيا يوحنا ( 13:18) الذي تنبأ بقدوم الوحش، ورمز له بستمائة وستة وستين!!
وللأهمية أود توضيح الأمر ببعض التفاصيل:حتى إنعقاد المؤتمر الكنسي في بازل عام 1432م كانت الكنيسة تعتمد التقويم اليولياني ( 44ق.م) وتقويم era للسنة الأسبانية، وتقويم ميلادي؟ حينها إقترح نائب البابا كوزانوس إطلاق تقويم موحد( كالندر) يرتبط بولادة المسيح، وقد برر ذلك بقوله: كي لا نصبح أضحوكة الأوثان (يقصد المسلمين ) لهذا إقترح اللاهوتيون عام 666يولياني( المأخوذ من رؤيا يوحنا المشار إليه ) وإعتباره عام قدوم الوحش، وهو يعادل 622ميلادي، وإعتبروا نفس العام تاريخاً لإنعقاد مؤتمر نيقيا الكنسي الأول ( فيما بعد تم ترحيل المؤتمر لعام 325م )وإذا طرحنا الرقمين 622و325 نحصل على نفس مقدار الخطأ (297سنة ) الذي توصل إليه هربرت إيليغ عن الزمن الشبحي!!
والآن وبعد هذا التمهيد، أنتقل إلى بعّد آخر في الصورة الإسلامية، وبعض الإضاءات في مسيرة البحوث القرآنية. فبرغم مئات بل آلاف الكتب والمجلدات والبحوث، التي تناولت القرآن، وبرغم ما أريق من حبر، لايزال هذا النص يثير حماس الباحثين وفضولهم، ويثير حساسية المؤمنين وخشوعهم. لكن مايلفت النظر هو الجهد الدؤوب والعصامية التي ميّزت الأرثودوكسية الإسلامية عبرمراحل تشكلها، وكيف حسمت صراعاً كان قد إستفحل مع المعتزلة الذين أخذوا بمبدأ "خلق القرآن" ورغم أن إرهاصات تلك المعركة اللاهوتية، تعود إلى صدر الدولة العباسية ( مطلع القرن التاسع ميلادي ) لكنها لم تؤتِ أكلها إلا بُعيد سقوط الحكم البويهي الشيعي في بغداد ( وهوحكم هيمنت فيه عائلات فارسية مثقفة حتى 1060م)، أعقبه سقوط مركز الخلافة العباسية بقبضة قبائل تركمانية سلجوقية أميّة، إنحدرت من سهوب آسيا، بقيادة طغرل، وإعتنقت الإسلام وتسننت على عجل. مذاك يمكن للمتفكر تلمس مرحلة جديدة في تطور الدوغما، مرحلة حسمت نهائيا أشكال الجدل، لتسود بعدها رؤية واحدة تنظر إلى القرآن الكريم كذرّوة أزليّة، وتجسد كلامي إلهي، (يناظر فكرة التجسد الإلهي المسيحي عند الكنيسة)، ودستور يحكم ضمير الجماعة ووجدانها الجمعي، ووعيها التاريخي ويكوّن هويتها، وقاعدتها القانونية.
وقد تعززت تلك الحقبة الزمنية، برمزية غلق باب الإجتهاد، وبداية أفول عصر التنوير والخصب الذي أثرته قمم أدبية كبرى مثل الجاحظ وأبي حيان والمعري، وخلال فترة حكم المماليك والعثمانيين بين ( 1300م و1900م ) تمكن العالم الإسلامي من ترسيخ أرثودوكسياته الطقوسية، على إيقاع تعليم مدرساني تلقيني تكراري ! وحالة من السبات الحضاري، لم يستيقظ منه إلا على صهيل خيول نابليون، في ساحة الأزهر الشريف عام 1798م!!
أي أن هذه الفترة الطويلة ( حوالي ستة قرون ) كانت حاسمة في تكوّن الدوغما، ومنظومتها الطقوسية. وإن إطلالة بسيطة على المخطوطات الإسلامية، ( صحاح السنه مثلا) تثبت نشوءا متأخرا، لمنظومة الحديث والسنة، التي لايمكن إثبات وجودها قبل القرن الخامس هجري(يوجد ثلاثة عشر مخطوطا ) فأقدم مخطوط للبخاري أورخّ عام 495هجري، أي بعد 240 سنة من وفاة البخاري( 256 هجري) ، وهذا ينطبق على مخطوطات سنن الترمذي وابن ماجة والنسائي فهي الأخرى تنتمي إلى نهاية القرن الخامس !!وكذلك الأمر بالنسبة للأمام مالك ( توفي عام 179هجري) حيث أن أقدم مخطوط لموطئه يعود للقرن الخامس الهجري!!!! ( كوركيس عواد : أقدم المخطوطات العربية )
وهنا يقفز سؤال مهم: لماذا عُثر على مخطوطات للقرآن الكريم، تعود إلى القرون المبكرة ( حوالي ثلاثين )؟ في حين لانجد للبخاري أو مالك مخطوطاً قبل القرن السادس؟ ألا يمنحنا ذلك إنطباعاً بنشوء متأخر لعلوم الحديث؟؟ وهي العلوم التي إحتكرت قراءة الخطاب القرآني وتفسيره وتفكيكه ورفده بروايات أسباب النزول الشفهية، وقصص الإعجاز، ثم ربطه بمعاجم تفسر وتشرح نفسها ثانية بواسطة النص القرآني أو بواسطة أشعار وروايات مفصلة على قياس الدوغما !!جعلت بالتالي دراسات الفيلولوجيا متعثرة وعاجزة. وينطبق هذاعلى محاولات الكثير من التبشيريين والإستشراقين الذين وقعوا أيضاً أسرى دوائرهيرمينويطقية مقفلة، أو تورطوا في صراعات دوغمائية مبتذلة!! وبإختصار شديد فإن النموذج الإسلامي الأرثودكسي استند في مساره وصيرورته المتأخرة إلى " إنا أنزلنا الذكر وإنا له حافظون" وإلى رؤية تتمسك بأمهات الكتب الكلاسيكية ( التفاسير الكبرى، أسباب النزول، ودراسات الإعجاز) والنظر إلى اللغة كمنحة إلهية ( علم آدم الأسماء) أو خلق ميتافيزيقي، حدث مع إنهيار برج بابل؟؟ وإلى وثوق بقطعية وحرفية الروايات، وتقنيات النقل الشفهي "العنعنة"، والسرد القصصي وما أنتجته أجيال التقديس( أهل السلف الصالح ) من تراث كتابي وزحام لغوي كلامي( شعري ونثري) بكل مافيه من تناقضات وتوترات داخلية عنيفة، يمكن تلمسها من خلال الصورة القسرية للجمع العثماني للقرآن، ثم المقتل العنيف لجامعه، وما سبقها من روايات عن كتاب الوحيّ المتلاعبين ( من أمثال عبدالله بن أبي سرح، الذي أهدر دمه يوم فتح مكة ) وروايات عن الخليفة أبي بكر الذي جمع الكتاب في نسخة أودعها بيت السيدة حفصة( أحرقت فيما بعد ) وما أورده السجستاني في مدوّنه ( المصاحف) عن واحد وعشرين مصحف غير عثمانيّ، ابتداءً من مصحف عمر ثم عليّ وابن كعب وابن مسعود عائشة وحفصة ...وصولا إلى مصحف الأعمش وعلقمة ابن قيس) إضافة إلى تكرار الجمع في عهد الحجاج بن يوسف منعاً للتصحيف الذي نتج عن غياب تنقيط وتشكيل الحروف، وكثير من القصص التي تقود العقل النقدي ( اللاديني) إلى مزيد من الحيرة والتساؤلات مثل:
لماذا توّجَب جمع القرآن من العسب والرقاع وقطع الأديم، في وقت يؤكد فيه الموروث على وجود كتبة للوحيّ تداولوا كتابته ورسمه في حياة الرسول، وهل من المعقول أن يجادل القرآن "أهل الكتاب" وهو موجود على العسب والعظام!!ودون أن يمتلك كتاباً يحوي رسمه؟؟ وكيف تتناسب رواية سقوط آية الرجم (التي أكلها داجن!!)، مع رواية أخذ النص عن صدور الرجال ( حفظته) مع العلم أن وجود حفظة للقرآن، أو تيار من القراء يحتاج منطقياً لوجود تعليم مدرساني مؤسساتي تلقيني، لم يكن متوفراً أنذاك بسبب إنشغال المسلمين الأوائل بالتمدد العسكري والحروب( تناقض إستدلالي).. وإلخ من قصص أصبحت مادة سجالية يستقوي بها عالم النقد الإستشراقي.في القرن 19 م، وتحت وطأة علوم اللسانيات (الفليلولوجيا) وإزدهار علوم الوثائق القديمة( البليوغرافيا)، وتطبيقاتها على الكتاب المقدس، إضطرعالم الإسلاميات دخول هذه المعمعة، وسرت حمّى إثبات كلمة الله من خلال البرهنة على صحة المخطوطات، وإثبات خلوّها من أمراض التصحيف والحشو المتأخر.. وإقتداء بدارسيّ الكتاب المقدس، فقد تفشت نماذج بحثية، تقف على أرض رخّوة، هدفها إثبات فرضية عقيمة مفادها: كلما كانت المخطوطة موغلة في القدم وأصيلة، كلما اقتربت من المصدر الإلهي!!
لهذا سعى الدارسون إلى وضع قواعد (قلقة ) لصيرورة الخط العربي ومراحل إرتقائه، من الخط النبطي المتأخر، ووضع تحقيب زمني تسنده بعض الكشوف والنقوش الآثارية القليلة (معظمها كسور وشظايا لاتحتوي على تزمين حقيقي) ويكفي المرء حالياً أن يكتب على رق قديم بخط حجازي مائل أو كوفي خشن( غير منقط)، ليصنع مخطوطة، وقد يحالفه الحظ فتنسب مخطوطته إلى القرن الأول الهجري، وتنهال عليه أموال المتاحف وأثرياء البترول( من المفيد عدم استخدام حبر جديد، وتعلّم تقنيات صناعة الحبر القديمة ) وكذلك من السهل جداً أن تترك بدوياً يخربش على صخرة بسكين، لتهز الأوساط العلمية، وتجعل العلماء يبحلقون ويرفعون قبعاتهم لتلك الخربشات؟؟
إن نظرة بسيطة على النقوش والكتابات القديمة وما أثارته من لغط وزوابع كلامية، تتيح لنا فرصة للتعرف على طبيعة النقاش وعبثيته، فمن المعروف أن عدد النقوش العربية القبل إسلامية قليلة ونادرة ( نقش حاران، ونقش النمارة وأخريات) وبنفس الوقت فإن النقوش الإسلامية المبكرة ( قرن أول هجري) لاتعطي الباحثين صورة وافية عن صيرورة الخط العربي، تحررهم من تخمينات وتكهنات وفرضيات لاتخلو من المجازفة؟؟ هذا ما أكده الجدل الذي أثير مؤخرا حول نشأة الخط الكوفي ، فأمثال الباحث الجنوب أفريقي جون جيلكريستJ. Gilchrist أو J.Smithالباحث في سلسلة The FairyTails of the Quran يفترضان أن الخط الكوفي نشأ بعد 150سنة من الجمع العثماني للقرآن !!وهذه الفرضية تجعل تزمين بعض المخطوطات العثمانية( المنسوخة بالخط الكوفي مثل مخطوط سمرقند المنسوب للخليفة عثمان 32هجري) موضع شك، رغم أن هذه الفرضية تتناقض كلياً مع ماقاله القالقشندي، في كتابه " الأبحاث الجميلة في شرح العقيلة " عن أن الخط الكوفي هو الأول ومنه استنبطت باقي الأقلام، أو ماذهبت إليه انسكلوبيديا الإسلام التي أكدت أن الخط الكوفي:أسلوب الكتابة العربية الخشنة وهو أقدم من بناء مدينة الكوفة بمائة سنة ؟؟
أظن أن هذه الجدليات، هي ضرب من الترف الأكاديمي الذي يزيد من متاهة البحوث ولا يؤدي إلى مايسمّيه العلماء: إختراقا في البحوث القرآنية؟ صحيح أن إنتساب مخطوطة سمرقند ( خط كوفي ) للخليفة عثمان، ومخطوط جامع الحسين ( خط حجازي مائل ) إلى نفس الخليفة، يحمل تناقضا وتضادا، منطقياً وأسلوبياً ، لكن الأهم برأيي وهو أمر مدهش حقا، أن النص القرآني، إجتاز بجدارة إمتحان علم البليوغرافيا( الوثائق القديمة) دون خسارة مهمة، هذا ما أكده مسح للمخطوطات القرآنية في جامعة ميونخ، كان قد أجري قبيل الحرب العالمية الثانية ( ذهبت المخطوطات أثناء الحرب ضحية لقنابل الحلفاء ) لقد أثبت التقرير، عدم وجود إختلافات جوهرية بينها، ما عدا أخطاء طفيفة في الإملاء والنسخ وما نتج عن سهو النسّاخين!!
لهذا أجد أننا بأمس الحاجة لقراءة حداثية لنشأة الخط العربي وأهم المخطوطات المشهورة ( سمرقند، الفاتيكان، وجامع صنعاء الكبير..وغيرها ) قد تساعدنا على أنسنة وتحريرالبحوث الإسلامية.
* The Arabic Langague: Kees Versteegh 1991ترجمة محمد الشرقاوي