حرب بلا نصر
كان صدام يتوجه من حين لآخر إلي الجبهة، ولكن هذا لم يكن أبدا يعني أنه بالضرورة سيصل إلي هناك، فقد كان صدام ـ شأنه شأن أقاربه القريبين ـ متطيرا، فإذا رأي قطة سوداء فجأة في الطريق فإن ذلك من شأنه أن يجعله يغير مسار موكب السيارات الخاص بـه ويأمـر بالعودة إلي بغداد. كانت حتي رؤية كيس بلاستيك يهفهف في وسط الشارع تُعد نذير شؤم بالنسبة لصدام، وتجعله يعود دون أن ينجز ما كان يعتزمه.
تبديل أمني
كان يبدل السيارة التي يستقلها باستمرار، فكان أحيانا يجلس في آخر سيارة، ثم يعود ليجلس في سيارة في منتصف الموكب. وكان يحدث أيضا أن تصطحبه طائرة مروحية من منتصف الطريق وتطير به إلي هدفه.
كان لا يقضي وقتا طويلا في مكان واحد في الجبهة. وقد حدث أن قُصف ذات ليلة مركزين للقيادة بالقنابل، كان صدام قد زارهما الواحد تلو الآخر. حدث ذلك فور مغادرة صدام، فإن الحذر الشديد والشك كانا حليفيه طيلة حياته.
كان صدام عادة ما يأخذ معه صباح مرزا في زياراته لبعض المواقع علي الجبهة. كان مرزا رئيس الحرس الشخصي لصدام، وكان علي سبيل التغيير يأخذ استراحة لبعض الوقت من واجبه في هذه الزيارات بأن يشارك في واحدة من فرق الإعدام التي كانت تطلق الرصاص علي الجنود الذين تجرأوا علي الانسحاب من تلقاء أنفسهم، أو علي الفرار إلي صفوف العدو.
كان صدام يزور من الحين الي الآخر المستشفيات العسكرية والجنود المصابين، لكنه لم يكن يهتم كثيرا بالأطباء الذين كانوا يصارعون ليلا ونهارا، وعاما بعد عام، من أجل حياة وأجساد ضحايا الحرب. كان ينظر إلي مهنة الطبيب باستعلاء، شأنه شأن إخوته الثلاثة وطبان وسبعاوي وبرزان.
عقدة من الأطباء
واعتقد أن الاستياء الذي كان الرئيس يشعر به تجاه الأطباء له ارتباط وثيق بما كان من بعض الأطباء الذين رفضوا مساعدة صدام بعد محاولته الفاشلة لاغتيال عبدالكريم قاسم في عام 1959، مما اضطره إلي أن يستخرج الرصاصة التي أصابته في بطن ساقه بنفسه بموسي حلاقة.
منافع شخصية
«إن الأطباء ينظرون دائما إلي مصلحتهم الشخصية، فهم في صراع دائم أيهم يمكنه أن يحقق أكبر قدر ممكن من الثراء»، ذلك ما قاله لي الرئيس في أحد الأحاديث الودية التي دارت بيننا في بداية تعارفنا.
«إنهم غير صادقين في معظم الأحيان»، قالها صدام مضيفا:«عندما يحاولون أن يصبحوا أصدقاءك، فإنهم لا يفعلون ذلك إلا لأنهم يأملون في منفعة شخصية. خاصة إذا كنت شخصا ذا نفوذ وسلطة فإنهم يستغلون صداقتك في التربح».
ذات يوم وصل صدام في الصباح المبكر إلي مستشفي الكرخ في بغداد. كان ذلك قبل تغيير نوبة الأطباء بربع ساعة، وطلب من الطبيب الذي يعمل في نوبة الليل أن يعطيه قائمة بأسماء الأطباء الذين سيحلون محله. تلقي جميع الأطباء الذين وصلوا متأخرين، حتي إذا كان هذا التأخير لمدة خمس دقائق فقط، الأمر بأنه لا يرغب في رؤيتهم في العام التالي في المستشفي. حدث ذلك الأمر لستة أو سبعة من زملائي.
كان لدي معظمهم عذر قهري منعهم من الوصول في موعدهم، فقد كان لديهم ما يقومون به في مستشفيات أخري في بغداد. كما كانت القائمة التي أعطاها طبيب الخدمة الليلية لصدام غير صحيحة. فكتبوا خطابا للرئيس وشرحوا فيه ما حدث من لبس، لكن من دون جدوي. هكذا كان الحال مع صدام، إذا اتخذ قرارا، فإنه لا يرجع فيه، ولا يعنيه إذا كان محقا أو مخطئا في هذا القرار.
أستاذ أم رئيس؟
ربما لن ينسي أحد الأطباء في مستشفي الكرخ هذا الصباح طيلة حياته. فقد تقدم نحو الرئيس ومعطفه غير مزرر وسماعته تتأرجح حول رقبته هنا وهناك. وإذا كان هناك شيء لا يتحمله صدام، فكان ذلك هو السلوك غير اللائق في حضوره. لكن حدث ما هو أسوأ من ذلك. فقد خاطب الطبيب الشاب الرئيس بلقب «أستاذ».
«هل خاطبتني بـ «أستاذ» أم بالرئيس»؟، سأله صدام مستنكرا.
«أنـا آسف يا سيدي الرئيس. فقد اعتقدت أنني استخدمت صيغة الخطاب المناسبة».
أخذ الطبيب الشاب في عصر ذلك اليوم، وألقي به في السجن لمدة ستة أشهر.
في منتصف الحرب التي استمرت ثمانية أعوام قتلت عروس يافعة في ليلة الزفاف في هجوم إيراني بالقنابل علي مدينة مندلي في شرق العراق. كانت ساقاها وذراعاها مبتورة عندما عثر عليها هي والعريس الذي لقي حتفه أيضا.
مسابقة المأساة
أقام صدام مسابقة، دعي فيها فنانو العراق للتعبير عن هذه المأساة، علي أن يكون التصوير تمثيليا تماما. كان عليهم أن يصوروا السيدة الشابة في ملابس الزفاف من دون ذراعين أو ساقين، حتي يمكن للأجيال القادمة في جميع العصور أن تعي دون صعوبة هذه الشهادة الفريدة علي وحشية الإيرانيين.
كان يظهر كل ليلة في التلفزيون العراقي بعض الفنانين الذين كانوا يقدمون لصدام أعمالهم المشاركة في المسابقة، غير أن الرئيس لم يكن راضيا عن أي منها، وهو ما أظهره علي شاشة التلفزيون. لكنه اقتنع بعمل قدمه النحات سهيل الهنداوي.
في وقت المسابقة نفسه كنت أقيم معرضا فنيا جديدا في غاليري الرواق. كنت قد أطلقت علي إحدي اللوحات اسم «الشََّهَادة». كانت تظهر في اللوحة صحراء وسماء. كانت هناك قدمان مبتورتان عند الكاحلين تبرزان من الرمال. كان هناك نبات به بعض الأوراق ينمو بينهما. ورسمت أمام السماء يدين مبتورتين أيضا. كانت الأصابع بعيدة عن بعضها. عندما يتأمل المرء اللوحة، يبدو الأمر كما لو كان هناك إنسان يقف رافعا ذراعيه نحو السماء في الصحراء، لكنه بلا جسد.
صهره سارق آثار
زار المعرض اللواء أرشد ياسين الذي لم يكن قد تعرض بعد لمشاكل بسبب ولعه بالآثار العراقية القديمة، ولذلك كان لا يزال يحتفظ بمنصب السكرتير الخاص لصهره. ويبدو أن ما رآه هناك قد أعجبه أيما إعجاب، فقد اتصل بي بعد ذلك بيومين وطلب مني أن أحضر اللوحة إلي صدام الذي يود رؤيتي.
كان الرئيس لتوه في نقاش مع بعض اللواءات العائدين من الجبهة. اضطررت أن أنتظر لمدة ساعة في مكتب ياسين حتي جاء صدام. قال إنه يؤسفه أنني انتظرته، ثم وقف طويلا أمام «الشَّهَادة».
«إنه لعمل فني قوي ومعبر»، قال ذلك صدام مضيفا: «لقد تركت الجسم واحتفظت بما فقدته العروس الشابة».
أردت أن أعترض قائلا إنني لم أكن أستدعيها في ذهني عندما رسمت اللوحة قبل المسابقة بفترة طويلة، لكنه لم يتح لي فرصة لذلك.
قال صدام: «إنها واضحة تماما ولا تحتاج إلي توضيح منك».
طلبت بالرغم من ذلك أن يسمح لي بأن أقول شيئا عن الحرب والشهداء، وعندما أومأ، قلت إن هذا الذي ربما نراه، ليس بالضرورة مطابقا للواقع. وما يقوله الناس، ليس دائما حقيقيا.
«إن أهم شيء أن نفهم ما لا نراه أو لا نسمعه».
لم أجرؤ علي مواصلة محاولتي في أن أوضح لصدام أن المعلومات التي تلقاها من اللواءات والمقربين من أعوانه عن مجري الحرب ليس لها علاقة بالواقع الذي أراه كل يوم في المستشفي العسكري.
قلت: «إن الشهيد هو الذي يصمد من أجل شيء يؤمن به، وهو الذي يضحي من أجل الآخرين. لذلك يَسمون عن الأرض إلي السماء».
صمت صدام. شعرت أنه لا ينصت إليّ.
هدف واحد
عندما أردت الذهاب، قال لي: «ليس لدينا الآن وقت في منتصف الحرب لأن نحصي قتلانا وجرحانا. يجب أن نركز علي هدف واحد لا غير، وهو أن ندحر الأعداء وأن نخرج منتصرين من المعركة. وعندما نصل إلي هذا الهدف ونحقق النصر، يكون بمقدورنا أن نحصي الخسائر التي تكبدناها ونرعي الجرحي بالأسلوب الأمثل».
ثم عاد مرة أخري إلي اللواءات.
عندما اصطحبني اللواء ياسين إلي الخارج، أسرع خلفي واحد من حرس صدام الشخصي ومعه علبة صغيرة. كانت هدية لي من الرئيس، ساعة يد رخيصة. كانت صورة صدام علي ميناء الساعة.
احتفظ لنفسه بـ «الشهادة».
لكن علي ما يبدو كان يتم إحصاء من سقطوا في الحرب.
جندي من دون أذن
في أثناء المعارك الضارية التي دارت في منطقة الحدود في أواخر عام 1983، وبدايات عام 1984 بالقرب من المدينة الإيرانية البسيتين، أحضر جندي إلي مستشفي الواسطي وأذنه اليسري مبتورة تماما. سألته كيف حدث هذا. أجاب أن الضباط والجنود في وحدته كانوا قد وقعوا في كمين، حيث حاصرهم العدو وحصد أرواحهم حصدا. وأضاف إنه قد تم إعدام كثير من الأسري العراقيين في تلك المعركة.
«حتي عنــدما كنـا نرفع أيدينا ونصيح بأننا نريد الاستسلام، كان الإيرانيون لا يتوقفون عن القصف».
كان الظلام دامسا، فقد كان ذلك في الثالثة فجرا. تظاهر الجندي بأنه قد أصيب وزحف تحت اثنين من زملائه الموتي. في أعقاب ذلك بدأ الجنود الإيرانيون في الانسحاب تحسبا لهجوم عراقي مضاد. غير أن أحدهم بقي، كان يسير بين الجثث وفي إحدي يديه مصباح جيب، وفي اليد الأخري مدية. كان قد علّق جرابا مفتوحا في حزامه.
«رأيته يسلط الضوء علي الجنود القتلي، واحدا وراء الآخر ويمثل بهم. كان يضع الأذن في الجراب الصغير».
أذن من كل جثة عراقية. هكذا كان يمكن أن يعبروا بالأرقام عن مدي نجاح الكمين الذي نصبوه.
«ثم قطع من كل جثة من جثتي الزميلين اللذين كنت قد اختبأت تحتهما أذنا. لم يلفت انتباهه أني ما زلت علي قيد الحياة عندما حان الدور عليّ، فقد كان الظلام دامسا في آخر الأمر، وعلي ما يبدو فإنه لم يكن لديه فسحة من الوقت».
استدعي واحد من أبناء أعمامي كمجند احتياط. كان عليه أن يؤدي الخدمة في مشرحة مستشفي الرشيد العسكري في بغداد، حيث كانوا يأتون بالقتلي من الضباط والجنود من الجبهة الممتدة التي تجري فيها الدماء أنهارا. كانوا يأتون بهم علي شاحنات: أجسام ممزقة، رؤوس مفصولة عن الأجساد، أذرع وسيقان كثيرة كومت بعضها فوق بعض.
كانت مهمة ابن عمي أن يتعرف علي الضحايا ويضع كل واحد في نعش خاص به، ثم يرسله إلي أسرته. لكن هذا لم يكن سهلا بالمرة. فأن تجد الرأس المناسب لكل جثة، ثم الأذرع والسيقان الخاصة بها، كان مثله مثل اللغز الصعب الذي عليك أن تحله وتجمع أجزاءه، وكل ذلك في وقت وجيز.
شحنات أخرى
«كنا نبذل قصاري جهدنا قبل أن ندق المسامير في غطاء النعش. لكنه كثيرا ما كان يحدث أن نرسل ساقين يمنيين أو ذراعين يسريين إلي أسر الضحايا. كنا نعمل بلا انقطاع حتي تأتي الشحنة الأخري».
ذات يوم سألني عما إذا كان يمكنني عن طريق علاقاتي أن يحصل علي نقل في مكان آخر، بما فيها أسوأ الأماكن في الجبهة. لم يعد يتحمل أكثر من ذلك. نجحت في نقله إلي مكان آخر ليس علي هذه الدرجة من الكآبة في مستشفي عسكري آخر. لكنه لم يعد أبدا كما كان قبل الحرب، كما أصيب بمشاكل نفسية عصيبة بعد نهاية الحرب.
كانت النعوش تغطي بالأعلام العراقية، عندما كان يتم نقل الشهداء الذين سقطوا في الحرب إلي مدافنهم. كان هذا مشهدا يوميا في بغداد والبصرة والناصرية وكربلاء والكوت والحلة وسامراء
وتكريت والموصل وجميع القري والمدن في العراق. فلا يكاد يخلو حي من الأحياء من خيمة العزاء التي أقامها الأقارب حتي يتسني للقريب والبعيد من الأهل والجيران والأصدقاء أن يقدموا العزاء ويقرأوا الفاتحة للمتوفي. في جميع الشوارع تقريبا كانت تعلق الأشرطة السوداء علي جدران المنازل، وقد كتب عليها اسم الأبناء القتلي باللون الأبيض.
.. ومر الصاروخ
في ذات يوم كنت أستقل سيارتي أنا وزوجتي وابنتي الصغيرة في بغداد. كنا نسير خلف سيارتين تحمل كل منهما نعشا فوقها. نظرت ابنتي إليهما ثم قالت إنها تتمني أن تموت هي الأخري.
«لم أعد أتحمل أن أري ذلك كل يوم»، ذلك ما قالته.
أخذت زوجتي تبكي.
«كيف لها أن تفكر بهذه الطريقة؟ إنها لم تتجاوز السادسة بعد».
في هذه اللحظة مر صاروخ إيراني من فوق رؤوسنا. سقط قريبا للغاية من فندق الرشيد وانفجر. تأرجحت سيارتنا من شدة الضغط الجوي. لقد كتب الله تعالي لنا النجاة.
في شهر مايو من عام 1985 جاء لي فريق من التلفزيون العراقي ليجري معي حوارا حول أعمالي كفنان وحول الإنجازات العظيمة التي أحرزناها في مجال الجراحة في مستشفي الواسطي والتي استخدمناها في علاج الآلاف المؤلفة من الضباط والجنود المصابين إصابات خطيرة الذين كانوا يأتوننا من الجبهة. كانت السيدة التي ستجري معي الحوار من أفضل المذيعات في العراق، وأكثرهن شهرة. تم التصوير في الأتيليه الخاص بي. كنت قد انتهيت لتوي من لوحة رجل يحاول أن يمنع طائرا كبيرا من أن ينقره في وجهه. كان يمسك بالطائر من جناحيه فوق رأسه. كانت الألوان المستخدمة في اللوحة هي اللون الأحمر واللون الأسود.
سألتني المذيعة: «ماذا يفعل هذا الطائر الجارح»؟
أجبت إن الفكرة هنا تمثل صراع الإنسان مع القدر.
«يتضح من اللوحة أن القدر هو الذي سينتصر. فالرجل لن يتمكن من أن يظل رافعا ذراعيه لأعلي لفترة طويلة».
«فهو إذن الخاسر»؟، ذلك ما سألتني إياه.
«نعم. إنه ينهزم عندما يموت. لكن الحياة تسير وتتقدم. هذا ما يعطي الحياة معناها».
«لكن لا مجال للادعاء بأنك لا تعبأ بالحياة»؟
«في الواقع يوجد دائما قَدْر من المرارة، شئنا أم أبينا». قلت لها ذلك، مذكرا إياها بالملاكم الأميركي الشهير محمد علي الذي سئل ذات مرة عما إذا كان لا يزال يعد نفسه الأسرع والأقوي في هذا العالم.
أجاب بطل الوزن الثقيل: «لقد اكتشفت أن الزمن أكثر قوة وسرعة وبقاء».
وأضفت من جانبي أنه بمقدور الوقت فقط أن يعلمنا حقائق الحياة أو علي الأقل جزءا منها.
«ما دمنا شبابا وأقوياء وأغنياء وذوي نفوذ، فإننا ننسي كم نحن ضعفاء، وعندنا قابلية لأن نُجرح. هذه هي مأساة البشرية».
طلبت المذيعة من المصور أن يصور عديدا من اللوحات الأخري المعلقة علي حوائط الأتيليه. كان هناك كثير منها، فبعد فترة وجيزة كنت سأقيم معرضا جديدا.
«إن الناس الذين تحدثت إليهم يجدون لوحاتك تبعث علي الكآبة».
«إن واجبي ليس إضحاك الناس أو نقل مشاعر السعادة للناس بأن أخفي عنهم حقيقة الحياة».
«هل تقرأ الشعر؟ هل يمكنك أن تلقي شيئا علينا»؟، كان ذلك هو سؤالها التالي.
أجبت أني أحمل بداخلي دائما بيتا للشاعر العراقي العظيم المتنبي الذي توفي منذ كذا ألف عام .
خطأ المذيعة
ثم ارتكبت المذيعة خطأ ولكنها لم تدركه إلا فيما بعد.
«أنت جراح تجميل وتقوم دائما بعمليات زرع شعر. لماذا لم تزرع لنفسك شعرا فأنت لم يعد لديك كثير من الشعر»؟
«لم يشكل هذا الأمر مطلقا مشكلة بالنسبة لي. بصراحة أنا لا أفكر في هذا الأمر مطلقا».
«لكن ألا تري نفسك كل يوم في المرآة»؟
«بلي، لكن فقط للحلاقة، وليس لأتأمل نفسي بإعجاب، إذا كان ذلك ما تقصدين».
في اليوم التالي اتصل بي سكرتير الرئيس. «لقد أعجب سيادته بالحوار، ويود أن يراك بشدة». في الحجرة المؤدية إلي حجرة صدام عرفت أنه قد شاهد البرنامج من أوله لآخره، وهو ما يحدث نادرا.
«لكنه ثار ثورة عارمة عندما سألتك المذيعة عن زراعة الشعر وعن ضعف نمو شعرك».
علمت بعد ذلك أن صدام أمر بمعاقبة المذيعة.
لم يسمح لها بالظهور علي الشاشة لمدة ستة أشهر.
خطأ في الحجرة
في أواخر عام 1987 اتصل بي أحد اللواءات من مكتب صدام وطلب مني أن أحضر إلي قصر الجمهورية. فقد أصاب ابن أحد المسؤولين نفسه عن طريق الخطأ ببندقيته الكلاشينكوف في قدمه. تم إدخالي عن طريق الخطأ إلي الحجرة المؤدية لحجرة صدام.
كان صدام يستعد للخروج. تأسف لي علي أن الحرس لم يعرفوا إلي أين يذهبون بي.
«لكن فلتتفضل في مكتبي، فيمكننا أن نشرب الشاي سويا»، ذلك ما قاله واستدار في اتجاه حجرته.
تحدثنا عن الحرب وسألني الرئيس عما إذا كان لدينا كثير من الجرحي في مستشفي الواسطي. أجبت أن عدد الجرحي الذين يأتون إلينا قد لا يكون كبيرا مقارنة بالمستشفيات العسكرية الأخري في بغداد، لكن أصعب الحالات هي التي تأتي إلينا.
فسألني إذا ما كان كثير من الضباط والجنود يأتون إلينا بعد أن يكونوا قد فارقوا الحياة. أجبته أن ذلك أمر نادر الحدوث أن يرسل إلينا جرحي من الجبهة إذا لم تكن فرصتهم جيدة في تحمل مشاق الطريق.
«بعضهم وليس كثيراً منهم يفارق الحياة، ولكن لأي طريق».
صمت صدام. ثم قال: «إنه لأمر مؤسف أن يلقي كثير من الشباب هذا المصير، لكنه لم يكن أمامنا طريق آخر. فلو أننا لم ندخل الحرب لكانت الأجيال القادمة ستديننا علي مر العصور».
لم أجرؤ علي أن أعارضه.
لم يكن هناك سوي قليلين ممن يجرأون علي انتقاد الرئيس حتي بينه وبين نفسه. كان فاتك الصافي الذي أعده صديقا حميما مخلصا واحدا من هؤلاء. كانت له أراض زراعية وانضم لحزب البعث عندما بدأ شيئا فشيئا يثبت أقدامه في العراق في الخمسينات. لحق بصدام عبر الصحراء إلي سوريا عندما اضطر أن يغادر البلاد هاربا بعد محاولة الاغتيال الفاشلة التي قام بها ضد عبدالكريم قاسم في عام 1958. استغرق الهرب أسبوعا تقريبا. كانا يختبئان في النهار ثم يسيران أو يركبان عندما يحل الظلام. كان البدو يساعدونهما في الطريق.
عندما وصل حزب البعث إلي السلطة عرض صدام علي صاحبه عدة مناصب وزارية، لكن الصافي كان دائما ما يرفض. كان يتمني الديموقراطية للعراق وليس الحكم الأسري الذي كان يزداد استبدادا يوما بعد يوم في قصور الرئيس علي نهر دجلة.
وعلي الرغم من ذلك كان صدام يتحدث بشغف مع صديقه القديم. كان علي مدار السنين يزوره كل يوم خميس ليتعشي معه في منزله في حي المنصور.
الانتـخـابات الـحـــرة
«كنت دائما ما أقول له إن أفضل شيء للعراق هو الانتخابات الحرة. يجب أن يحصل العراقيون علي حقوقهم الديموقراطية وأن تكون لديهم الفرصة لممارستها».
كان صدام في بادئ الأمر مستعدا لأن ينصت لي ويتناقش معي.
«لكني بمرور الوقت لاحظت أنه كان يتوتر ويشعر بعدم الارتياح عندما أتطرق لهذا الموضوع وغيره من الموضوعات السياسية المشابهة».
في ليلة صيف في عام 1987 احتدم بينهما الخلاف تماما. كان الرئيس عائدا من الاجتماع السنوي لنقابة المحامين. كان القضاة والمحامون يصفقون في أثناء الخطاب الذي ألقاه وبعده تصفيقا طويلا يصم الآذان. عندما قدم الحساء في منزل الصافي، كان يعرض في نشرة أخبار المساء في التلفزيون العراقي تقريرا تفصيليا عن هذا الاجتماع.
قال صدام: «هل تعتقد أنني طلبت منهم أن يهللوا لي هكذا؟ كان ذلك بمحض إرادتهم. لم يرغمهم أحد علي ذلك».
سخر الصافي منه.
«هل تصدق ذلك حقا»؟
«نعم».
«إذن فأنت مخطئ. ما هؤلاء إلا جماعة من الكذابين المنافقين».
نهض صدام وألقي بملعقته علي المائدة، وغادر منزل الصافي. في هذا المساء قطع كل علاقته بصديقه القديم. لم يأتِ قط للعشاء مرة أخري.
اتضح في صيف عام 1988 أن محلل وكالة المخابرات الأميركية الذي تحدث في إذاعة «صوت أميركا» عندما سقطت قنابل الخميني علي بغداد في سبتمبر عام 1980 كان محقا. فلن يتمكن أحد من الانتصار في هذه الحرب.
علي الرغم من أن الجيش الإيراني كان متفوقا بعدما تمكن في عام 1982 من دحر القوات العراقية الغازية إلي الحدود مرة أخري، لم يتمكن الخميني قط من إحراز الهجوم المضاد الحاسم الذي من شأنه أن يلحق الهزيمة بالعراقيين، ويسقط صدام.
فبفضل إمداد فرنسا والاتحاد السوفيتي للعراق بكميات كبيرة من الأسلحة أصبح العراق هو المتقدم مرة أخري. لكن النصر الحقيقي لم يكن باديا في الأفق. هذا ما أدركه في النهاية صدام والخميني.
في الثامن من أغسطس سكتت المدافع.
أعلن صدام انتصاره، لكن الحدود بقيت علي ما هي عليه قبل حمامات الدم السخيفة. هكذا كانت الحال أيضا في شط العرب، فقد أصبحت أعمق نقطة فيه لا يمكن اجتيازها تقريبا بسبب الحطام تابعو ا وباقى حوالى اثنا ء عشر حلقه