عندما سمعت أن مارسيل قادم إلى مدينتي ...انتابني شعور غريب بالحنين إلى سنوات الدراسة الجامعية .. المشاعر الوطنية الصامتة .. المشاعر العاطفية الصارخة ...
كم تمنيت أن أُحب فتاة اسمها ريتا ...فقط كي أترنم لها ( بين ريتا و عيوني بندقية )..
لم يكتب لي الله أن أحضر حفلة فيروز في دمشق ..كم شعرت بالحنق و الغضب و الاضطهاد ..فيروز لن تغني بحلب ..ربما لم يعد في العمر ما يكفي لأن أقابلها ثانية ..
و عندما جاء زياد إلى دمشق و رغم محبتي الكبيرة له ..لم أشعر بالرغبة بالسفر خصيصا كي أراه ..كما فعل بعض أصدقائي و عادوا بشعور لا يعوض ..
عندما نزلت من درج المكتبة الوطنية ..فوجئت بمجموعة كبيرة من الشباب الصغار يتحلقون حول طاولة صغيرة جدا , موضوعة بشكل هامشي مؤقت قرب باب مبنى المكتبة ، فوقها صورة كبيرة لمارسيل ..
اعتقدت أنها نقطة من عشرات نقط بيع بطاقات حفلة مارسيل ،و لكن موعد الحفلة بعيد و لا بد أن أصادف الكثير من فرص شراء البطاقات ..
على كل حال ربما لم يعد هناك من يسمع مارسيل ...
لقد مضت علي أكثر من عشر سنوات لم أضع خلالها تسجيلاً بصوته ..
على كل حال سوف أشتري بطاقة مبدئياً و سأرى من سيذهب معي بعدها ...
البطاقة بخمسمائة ليرة ..و للطلاب بمئتين و خمسين .....
بطاقة حفلة مارسيل بخمسمائة ليرة فقط.. و بطاقة حفلة تامر أو نظرائه بألف و ألفين ليرة ....
لا بد أن مارسيل لم يتقاضى أي مبلغ لقاء حضوره فمبلغ البطاقات لا يكاد يغطي المصاريف مع الاجور ..
هذا هو المتوقع من مارسيل ..لا ادري أين سمعت أن مارسيل من أغنى المغنيين العرب .. ضحكت يومها من هذا الخبر ... و لكن لم لا ..
عندما قلت لأصدقائي أنّي حصلت على بطاقة لمقابلة مرسيل فهل يرغب احدهم بمقابلته معي .. أجاب أغلبهم ان نقطة بيع البطاقات الوحيدة هي في المكتبة الوطنية ، و من الصعب النزول إليها خصيصاً للحصول على بطاقة .
لا بأس سوف أقابله لوحدي.. سنكون أنا و مارسيل لوحدنا فقط ..و هل أحتاج في حضور مارسيل الى أصدقاء ..
جهزت كاميرتي التي اشتريتها خصيصا لمناسبات مهمة كهذه .. قلبت البطاقة التي كتب خلفها ) يمنع اصطحاب اجهزة التسجيل و الكاميرا بأنواعها ) انهم يكتبون هذا دائماً ..و بعد بداية الحفل تخرج عشرات الكاميرات و أندم لانني لم اصطحب كاميرتي معي ..
و لكنه مارسيل ..هل ارتكب شيئا قد يزعج مارسيل ....
صبيحة الحفل نقل التلفزيون مقاطع من حفلة مارسيل في اللاذقية ..كنا أنا و ..هي... أمامه ..
قديما سألتني عندما ذكرت لها مارسيل .. هل مارسيل مغني ام مغنية ..
كان هذا السؤال يكفيني لأعتقد أن الجيل الجديد ..لم تدمع عيناه عند سماع صوت مارسيل ..لا بأس ..أغلب أحوال الجيل هكذا ..
لم يخطر لي أبدا ان أحصل على بطاقة لها لتحضر معي ... ربما يشكل لها الحضور ازعاجا .. أنا أعرف انها كانت تتمنى حضور حفلات تامر حسني عندما كان في حلب ...و كانت ترتعش مثلما ارتعش أنا عندما يُذكر مارسيل ...
قالت بحزم : إن لم تأخذني معك إلى مارسيل سوف أتركك ...إما أن نذهب سوية .. او لا تذهب أبدا ..
إما أنا أو مارسيل ..
سألت نفسي اذا خُيرت بينها و بين مارسيل ..فمن اختار ....
اتصلت بأحد عشاق مارسيل قال لي : و أين هي البطاقات ....لقد بيعت بطاقات حفلة اللاذقية في السوق السوداء بآلاف الليرات ..و أعتقد انه بعد سوق اللاذقية لا يمكن ان يُسمح بسوق سوداء في حلب ..
ماذا أفعل ... هل أختارها هي ..أم اختار مارسيل ..
لنجري محاولة أخيرة ..مع شخص يضع على موبايله أغاني مارسيل ..
اتصلت به و سألته بحذر : هل أنت ذاهب للقاء مارسيل .
أجابني : أمي في المشفى و لا أجرؤ ان أحضر مارسيل ..فهو قد يقول لي ( أعشق عمري..... لأني اذا مت ...أخجل من دمع أمي ) .. لن أستطيع أن اذهب ..
- سألته بخجل : هل توجد لديك بطاقة زائدة ..لم أجرؤ ان أقول له صراحة أعطني بطاقتك ..
- أجابني : تعال لعندي و سأدبر لك بطاقة من السوق السوداء ..أعتقد انهم يبيعونها بألفي ليرة .
هرعت اليه لم يبق على موعد الحفل - في الثامنة - إلا ساعة واحدة و عندما وصلت ..كانت بطاقة بانتظاري على طاولته ..أخرجت محفظتي ..
قال لي : بطاقات مارسيل لا تباع و لا تشرى ..بعدين بيزعل مارسيل .. .............
وصلت معها الى مدخل صالة الحفل قبل حوالي ثلاثة أرباع الساعة من موعد الافتتاح لم يبق في الصالة من مقاعد إلا الصف الأخير فقط ....لا بأس ....المهم أن أكون في مكان واحد معه ..سوف أغمض عيوني و أراه ..إن لم أستطع رؤيته ..
سمعت صوتا لم أرى صاحبته ترحب بالحضور و تعلن ان اسطوانات أصلية لمارسيل ستباع عند نهاية الحفلة ..سمعت صوتا من خلفي يقول : ( مجموعة كاملة لأغاني مارسيل بخمس و عشرين ليرة ..من هو الغبي الذي سيشتري اسطوانة اصلية )
تألمت لذلك كثيرا .. فأنا عادة من أول المنادين بهذا المبدأ ...
و لكن ربما يكون جزءاً من ريع الاسطوانات الاصلية يعود لمارسيل ..فهل أجرؤ أن أفعل ذلك معه ...
الساعة الثامنة تماما ..أُطفئت الانوار ..و خرج البعض الى المنصة ..لا يمكن أن يكون مارسيل معهم .. فالساعة الثامنة فقط .. و لا يعقل أن لا يتأخر عن الموعد المذكور على البطاقة ..
كان مارسيل بكوفية خضراء و معه العود ....
ضجت القاعة بالتصفيق ... الحضور جميعا وقوفاً ..استمروا لدقائق .. لا بد ان يُسعد ذلك مارسيل ..
رحب مارسيل بحلب ..و غنى أغنية طويلة لدمشق ...لا بأس يبدو انه لا يعرف الكثير عن الجمهور الحلبي ...
أهدى الحفل للسجناء العرب في السجون الاسرائيلية .. قلت في نفسي ألم تعد هناك جرأة عند مارسيل ..
سرعان ما قال : و أهديها أيضا للسجناء العرب في السجون العربية ...
طلب من الحضور الهدوء التام و الاستماع لأغنية جديدة تحتاج للهدوء .. صمتت القاعة تماما و ما أن باشر بالغناء الحنون ..حتى شق الصمت صفير حاد ..يا إلهي من هو المجنون الذي فعل ذلك ..هل بتنا أجلافاً لهذه الدرجة .. هل فعل ذلك ليلفت الانظار اليه ..
على يميني شاب و فتاة صغيرين ..يبدو انهما أخ و أخت ..الفتى في الخامسة عشرة ..يبدو أن الجيل الجديد يعرف مارسيل .. حرص الشاب في البداية على التصوير بموبايله ...ثم انكب عليه منهمكا في مراقبة شاشته
أثار فضولي ..ماذا يراقب بهذا الانهماك ..
مططت رقبتي لأرى دودة خضراء ..تأكل ما يضعه الجهاز أمامها .. لتتقدم و تتقدم .. صعقت ..
لا بأس ربما تكون أخته قد أحضرته معها.. مجبراً ..كي يتسنى لها لقاء ما ...
عندما طلب مارسيل من الحضور الصمت ..و السماح لكل ريتا في الصالة بالغناء ..تعالى صوت جوقة نسائية ملائكية .. لم أسمع في حياتي أجمل منه ..كانت الفتيات في الصالة يغنين ..( بين ريتا و عيوني ..بندقية )
أمامي جلس ثلاثة شبان ..بلحى طويلة .. ذكروني بأيام الجامعة .. و المدينة الجامعية .. ايام الالتهاب الوطني .. كانوا يرددون كلمات أغاني مارسيل عن ظهر قلب ..فجأة انحنى أحدهم نحو الاسفل منخفضا جدا متكوماً على نفسه .. ليتصاعد دخان سيجارة .. شعرت بالإهانة .. انه يدخن بحضور صوت مارسيل .. عشرات اللافتات تقول ممنوع التدخين في الصالة ..
قالت لي : هل يدخن الحشيش و لماذا يخفي نفسه بهذا الشكل ..
لا بأس ان يشعر بالخجل مما يفعله ..
بدأت أغني مع مارسيل ..أغمضت عيوني .. كي أكون معه وحدي .. شدني من الظلام صوت آخاذ يغني ورائي .. صوت جميل ..حنون .. يتقن ألحان مارسيل .. نظرت اليه لأميز بصعوبة في الظلام قطعة القماش البيضاء التي يضعها القساوسة حول ياقاتهم لتميزهم كأباء في الكنيسة ..
كم تمنيت ان أسأله .. عن كنيسته التي يرعاها .. كي أحضر فقط لأسمع صوته ..
عندما بدأت أميمة بالغناء كانت الملائكة تغني .. سألت نفسي عندما أقامت اميمة حفلة لوحدها منذ أشهر قليلة بحلب ...في مسرح صغير نسبياً ...حضر الحفل خمسمائة او أكثر .. و لم يكن لخبر حفلتها هذا الضجيج الذي يرافق ظهورها امام الآلاف في هذه الصالة .. لم أسمع صوتا أجمل من صوتها ..و لكن يبدو انها اختارت البقاء قرب مارسيل .
لم استطع أن أبقى لأرى مارسيل ينزل عن المنصة ..فالأنسحب بهدوء كي تبقى في ذاكرتي صورته و هو يغني أغنيته الاخيرة ( يابحرية هيلا هيلا ) .
و لأبحث بين الاسطوانات الأصلية المعروضة في الخارج عن غنائية أحمد العربي التي سمعتها لأول مرة بصوت خالد الهبر ..و سمعتها ثانية بصوت مارسيل ..
عندما رأتني أكتب .. قالت لي : لا تنسى ان تكتب عمن كانوا لا يعرفون مارسيل .. و عشقوه في هذه الحفلة ...