فلكلوريّة صرفة ، جرى تخليقها كعملية فنيّة ، حيثُ تنشأ الأسطورة كقصّة تدورُ حول رمز نبيل غالباً ما يكون روحيّاً ، ثم تأخذُ هذه الأسطورة في النشوء و الارتقاء حتى تأخذ واحدةً من قيمتين : الحق المطلق الدوغما أو الفانتازيا الذكية فلكلور أو خرافة مسليّة .. و أنّ ميل المجتمعات بصورة دائمة إلى اليمينيّة - لإحاطة أنفسها بقدسيّةٍ ما - هو ما يجعل الانزياح المعياري يتجّه ناحية الدوغما ، و عليه فإن عملية حفر أركيولوجية للذاكرة الاجتماعية هي ضرورة تاريخية لكتابة تاريخ جديد لذاكرة و مجتمع جديدين ..
و طبيعي أن يكون الدين جزءًا من البناء الثقافي و الوجداني لأي شعبٍ من الشعوب ، حتى أن العلمانية - سيئة السمعة في ذاكرتنا المملاة - في صورتها الحالية تناهض عملية الفصل بين الدين و المجتمع لاستحالة الأمر ، و لأنّ الدين ذاته واحد من أهم المضامين التي تصنع الضمير العام ، لدرجة أنْ قال منظر العلمانية الأول فولتير - كما ذكر ول ديورانت في قصة الحضارة : لو لم يكُن الله موجوداً لأوجدنا الله .. و هو ، بهذا ، يشرّح جسد المجتمعات التي تتحلّقُ حول قيمة معيارية تصوغها هي أو تتفق على ما وصل إليها من صياغة جاهزة للاحتكام إليها .. ثم تتجه رأسياً إلى تنحية النص الديني عن الدخول في منطقة الفعل السياسي لاتقاء عملية الإملاء الحتمي الذي تفرضه قداسة النص الديني في منطقة بشرية صرفة الفعل السياسي لا تقبل الثبوت و لا تعترف بقواعد محددة للمناورات و الاجتهادات المدنية ، في حين يفترض علماء الدين أنفسهم أنّه لا يمكن لأي أحدٍ أن يقدّم اجتهاداً في النص الديني ، فالذين يمتلكون أدوات تقديم اجتهاد يصون ذهن الأمة من الانحراف ، طبقاً لتوجيهات المؤسسة الدينية الصارمة ، هم قلّة أو ندرة . و بالتالي فقد جعلوا للاجتهاد شروطاً تعجيزية غير ديموقراطية و لا علمية ..
و رغم حالة الأرتكاريا التي تشاهَد على تقاسيم المنادين بالدولة الدينية الاسلامية عند استخدام مصطلح رجال دين ذلك أنّهم لا يعترفون بطبقةٍ اسمها رجال دين إكليروس في الاسلام ، و أنّ الاسلام يفترض أن يكون كل مسلمٍ رجل دين.. بالرغم من هذا ، فأنّ الواقع الجدي لممارسة الاعتقاد الديني جعل من هذه الطبقة وجوداً لا يحتاجُ إلى كثير جدل .. فالقاعدة التي تقول : حكم الجاهل التقليد ، و تلك التي تقسّم المجتمع المسلم إلى علماء و طلبة علم و عوام - رغم لاأخلاقية مثل هذا التقسيم - و حكر الاجتهاد على شريحة رجالٍ محدّدين كل هذا يقسم المجتمع المسلم ، بواقعية محضة ، إلى مسلمين متلقّين و رجال دين ملقّنين ، حيثُ يمارس رجال الدين عملية الإيحاء و صناعة الوعي الديني العام لطبقة العوام وفق رؤية هذه المؤسّسة الدينيّة و حسب .. يحدثُ هذا في الحين الذي يقول فيه النص القرآني و لقد يسّرنا القرآن للذكر . و يمكن أن نستشعر ، بيسرٍ سلِس ، عملية تلغيز للنص المقدّس يجري تطويرها و توجيهها باستمرار، لما يخدم توجّهات المؤسسة الدينية التي تصف ، بدَورها ، مثل هذا التوجيه بأنّه اجتهاد عصري لمصلحة الأمّة تحتكره هي ، بينما يصرّح الواقع بأنّ الأمة ليست إلا الجماعة / الحزب .. فيما يشبه مشغلاً دائماً لصناعة رأي و فكر موجهين و تعميق الوعي السالب و التلقي الكسول . حدثَ هذا في كل المجتمعات ، لكنه يحدث الآن في بلداننا المسلمة !
و التدين ، في حقيقته ، عملية إبداعيّة تأخذ الفنون مساحةً واسعة فيها ، من الطقوس إلى الفلكلور إلى التراتيل و السبحات الجمالية ، في عملية مراوحة بين التجريد و التجسيد يشهدهما استلهام للقوة الفوقيّة المسيطرة على الكون ، و هو المعنى الذي تظهرُه بجلاء الطقوس الصوفية . بدأت خيوط العبادة الأولى تتشكّل عقب ممارسة الصيد و النحت حين أحس الإنسان الأول بوحشة رهيبة يوحيها هذا الكون الموغل في الغرابة إلى وجدانه ، فسعى هذا الكائن إلى البحث عن إجابات لأسئلة واسعة مثل : الموت و الخوف و الحب و الخلود ، من خلال تأهيل روحي جديد يستطيع أن يستوعب الكون و يعيد صياغته بما يخلق حالةً من الفرح الداخلي والسلام الآمن .. من هنا بدأ التدين يتنامى ، فأخذ أشكالاً عدة ، رمزيّة في الغالب ، لمزاوجة الإنسان والطبيعة و للخروج من دائرة هذه الثنائية dichotomy إلى عقد جديد يسمح بطرح أسئلة و شكوك كبرى و الإجابة عنها - كما ذهب علي عزّت بيجوفيتش في الكثير من منطلقاته الفلسفيّة ، و د.عز الدين اسماعيل في الفنّ و الانسان .
لا يوجد مبرر علمي جاد يساند الرافضين ، و بحماس منقطع النظير ، لمفهوم الدولة الدينية من أنصار رواية الخلافة الإسلامية إلا فوبيا الاصطلاح و الذريعة السياسية ، غير المعلنة ، للإفلات من مأزق هذا المصطلح الذي أخذ سمعته التاريخية السيئة من الدولة الكنسية الكاثوليكية - على وجه التحديد و ما أحاط بهذه الدولة من فظائع تجاه الانسانية استناداً إلى مبدإ القديس أوغستين ( 354 م - 430 ) عن خلاص المخالفين أجبروهم على اعتناق دينكم ، ذلك المبدأ الذي خلق حالةً من الرعب الدموي القاسي اكتسحت أوروبا ، فيما بعد ، إبّان الفترة من الثاني عشر ، و حتى السابع عشر ، و ما جسّدته محاكم التفتيش inquisition من انتكاسة للانسانية وسط رائحة مئات آلاف الضحايا ، أفناهم المبدأ الديني : لأن يدان مائةُ بريء زرواً و بهتاناً ، و يعانوا العذاب ألواناً ، خيرٌ من أن يهرب من العقاب مذنبٌ واحد .. و هو ما عرف ، إذ ذاك ، بفرمان الإيمان ..و من هنا يظهر بشكل أو بآخر سر الحماس الاسلامي لرفض المفهوم الواقعي لبورصة الدولة الدينية ..
و برغم هذه الجدليّة ، و محاولات النفي المستمرّة من قبل الإسلاميين لمبدإ الدولة الدينية في النظرية الاسلامية ، أعني تلك المحاولة النظرية المراوغة ، إلا أن التاريخ شهد بأنّ أكثر أزمات حضارتنا الاسلامية دمويةً هي تلك التي ظنّ فيها المختلفون أنهم يدافعون عن الله بسيوفهم . فمن خلاف السقيفة الديني إلى الحادثة الدينية لمقتل عثمان أعلن قاتله : هذه لله .. ثم واقعة الجمل الدينية ، فمعركة صفّين الدينية ، فحكم الأمويين الديني قال عبد الملك بن مروان سنة 75 هـ : أيما امرئ سيأمرني بتقوى الله و العدل بعد هذا فالسيف أقرب .. بعيداً إلى تصاعد الصراع بين السلطة الأمويّة و المعارضة السياسية العباسية - العلويّة ذات الطابع الديني، و منشوراتها الفكرية التي ارتكزت على التأصيل الديني و ليس الفكري لمطالبها السياسية ،مستخدمة النص النبوي والقرآني لتأكيد حقّها بالحكم من وجهة دينية عقائدية قحّة ، حتى أننا لنصاب بالأسى و الضحك على نحوٍ سواء إذ نقرأ المراسلات التي كانت تحدثُ بين عيسى بن موسى العلوي و أبي جعفر المنصور العبّاسي ، فالأول يدافع عن أحقّيته بالخلافة لأنه ينتمي إلى رسول الله عن طريق الإبنة بينما يدافع الثاني عن قوة الرابطة الذكورية عن طريق العم العبّاس .. و هكذا لعب المسوّق الديني دورَه للوصول ببراجماتية فاضحة للوصول إلى أهدافه المادية !
ثم ما تلا هذه المسرحيات من سقوط مريع للدولة الدينية الأموية بعد واقعة الزاب بالقرب من الموصل ، و استلام الدولة الدينية العباسيّة لمقاليد السلطة و حرمان الجماعة الدينية الشريكة العلويين من طبق السلطة الشهي .. و انكسر التاريخ تماماً أمام جرائم العباسيين في دمشق على يد سفّاحهم الخراساني .. بل ظلت الدموية الدينية على ما هي عليه ، و ربما بوتيرة أكبر، حتى مشانق دمشق إبّان الحكم العثماني ، و حديثاً في الجناح السرّي للإخوان المسلمين و معاركه - في الخمسينيّات - مع النظام الجمهوري المصري ، و السلطة الإمامية في اليمن ، النائبة عن الله ، وصولاً إلى حركة القاعدة و تفريعاتها اللانهائية.. و لا يزال المسرحُ مؤهّلاً ، فكرياً ، في انتظار إخراج جديد تلعب فيه الدراما السياسية دور الكورَس أو على الأقل : الخلفية الموسيقية الناعمة !
و في حقيقة الأمر : يظل الدين علاقة رمزية ، تجريبيّة ، يقيمها الانسان مع الطبيعة والخالق الأسمى خروجاً من وحشة الروح و بحثاً عن عالمٍ أفضل - اللفظ للفيلسوف كارل بوبر - و في محاولة حثيثة للتوحّد مع الوجود ، ربما سعياً وراء إجابات بحجم هاجس الموت و الألم . و لعلّ هذا الفهم للدين هو ما صاغه كارل ماركس - كفيلسوف اجتماعي - في قوله الدين هو الإحساس العميق بالحزن ، و هو المبدأ ذاته الذي دفع النبي الكريم إلى إلزام نفسه ، في عهده لنصارى نجران ، بدفع ثمن ترميم كنائس النصارى إذا عجزوا عن فعل ذلك و لهم ، إن احتاجوا إلى مرمّة بيعِهم و صوامعهم إلى رفد من المسلمين و تقوية لهم على مرمّتها ، أن يُرفدوا على ذلك و يعاونوا و لا يكون ذلك دَيناً عليهم - الوثائق السياسية للعهد النبوي و هو ما دفع أبا محمد الغزالي إلى التوقف عند لحظة وفاة الفيلسوف الفرنسي فولتير و هو يقول : أؤمن بأنّ هناك خالقاً لكنه قطعاً أكبر من الذي تسوّق له الكنيسة .. ثم السؤال الذكي للغزالي : تُرى هل سيغفر الله لفولتير ؟ و إجابته الناضجة : الله أعلم ، و لكن الله رحيمٌ جدّاً .
إن تنمية الإحساس بعلاقة حميمة بين الكون و الإنسان و بين الإنسان و الإنسان و بين الإنسان و الغيب هي جوهر عمل التديّن ، بعيداً عن مضاربات السياسة و بورصات الإقطاع الديني و الفرمانات التي تصوغها أوليجاركي المؤسسة الدينية في أي زمان و مكان ..
فأما من خاف مقام ربّه و نهى النفس عن الهوى فإنّ الجنّة هي المأوى .
مروان الغفوري
القاهرة