صباحات برلين السينمائية فريدة من نوعها. كانت الساعة تشير إلى السابعة صباحا. حركة ملحوظة في قطارات النقل العمومي (المترو) التي تربط أحياء العاصمة الألمانية بمنطقة "بوتسدام بلاتس" ، حيث تنظم أغلب فعاليات مهرجان برلين السينمائي الدولي، في دورته ال59.
وككل يوم على الساعة التاسعة صباحا، تعرض أفلام المسابقة الرسمية ، في قاعة "برلينه بالاتس". مئات الصحافيين و النقاد يتسابقون على الباب، حتى يجد كل واحد منهم مكانه المفضل للاستمتاع بالفرجة السينمائية. يقف الكل أمام باب قاعة العروض، ساعة قبل بداية الفيلم. البعض يتجه إلى القاعة بسرعة، تنبعث منها رائحة شغف عنيف بالفن السابع، وحب فريد لحلم الشاشة. أما البعض الآخر، فيفضل البحث عن الجرائد الألمانية، قصد الإطلاع على أحدث التعليقات و المقالات، التي تتناول الأفلام المشاركة، والتي يكتبها النقاد و الصحافيون الألمان كل يوم، في متابعة مستمرة للمهرجان.
ومثل العديد من الزملاء، أستغرب أمام الكم الهائل من المطبوعات و الجرائد و الدعوات الخاصة بالمهرجان، والتي يغرق جمالها وجودة إخراجها، طاولات و صناديق قاعة الصحافيين. منظمو المهرجان على وعي، بأن شرط حضور الفن السابع، هو وجود إستراتيجية إعلامية فاعلة و مستمرة.
أعرف أنه في مهرجان برلين، من الصعب أن نختار بين أمرين، إما النزول لقاعة الصحافة أو أخذ مكان أمام الشاشة. لكن صباح السينمائيين في كل الحالات، يظل ممتعا بقراءاته النقدية و نقاشاته الهامشية . لكن لابد من القول، إن صعوبة إصدار حكم على فيلم بأنه رديء أو جيد، صعب للغاية. فالقراءة الأولى لفيلم متميز، لا تشبه قراءته الثانية أو الثالثة. التعدد في القراءات، يسمح حتما بنقاشات صباحية حارة بين النقاد و الصحافيين، الذين يودون عن قصد أو عن غير قصد، توجيه رأي زملائهم حول فيلم معين، و إصدار حكم عليه، قد يكون قاسيا في بعض الأحيان.
وأنا أتجول في فضاءات المهرجان، أكتشف وجها آخر لصباحات برلين السينمائية.الجمهور الألماني العاشق للصورة السينمائية الجميلة، يضحي بنومه في العسل، و انشغالاته اليومية، و يأتي إلى شباك التذاكر، ونظرة كل واحد من عشاق الفن السابع، مركزة على شاشة، وضعتها إدارة المهرجان خصيصا لمعرفة عدد التذاكر المتبقية للبيع، منتظرا لحظة الحصول على فرصة ذهبية، ومشاهدة فيلم من اختياره، في قاعة توفر نصف المتعة السينمائية (أقصد بنصف المتعة ، التجهيزات و الفضاء ،وروعة المكان في قاعات العروض الألمانية).
صباحات برلين السينمائية تسمح بالحلم و الحب، و كل أنواع التواصل مع الآخر، في تعدده الثقافي و اللغوي .إنها فرصة لا تأتي إلا مرة واحدة كل عام، لكن عندما يحين الموعد، فإنه يحول العاصمة الألمانية إلى عرس فني، تختلط فيه ذوات الضيوف والمضيفين.
الصباح في برلين فريد من نوعه، فهو مثير للجدل السياسي. فمنذ بداية القرن العشرين ومروراً بالحربين العالميتين الأولى والثانية، تم تقسيم برلين إلى شطرين، شرقي و غربي، قبل أن تنتهي الحرب وتهدأ جذوتها على الأقل، بانهيار الاتحاد السوفييتي سابقاً، تمهيداً لإعادة توحيد شطري ألمانيا، أو كما يقول بعض الألمان، إلحاق ألمانيا الشرقية بالغربية، لتعود برلين عاصمة للبلاد، بعد جدل صاخب في أوائل التسعينات.
لا يمر الصباح البرليني دون أن يقف زوار المدينة الذين أتوا من بقاع عديدة لتغطية المهرجان، عند مدينة تمثل "عصارة تاريخ ألمانيا" ، وفضاء التعدد العرقي والثقافي الواسع، والفعاليات الثقافية والفنية المتنوعة التي تحقق متعة لا تنتهي .صباح برلين، يسمح باكتشاف أماكن عدة، كالبرلمان الألماني "الرايشتستاغ" بقبته الزجاجية البراقة، و"بوابة براندنبورغ"، وسوق "جندارم ماركت"، وهو أجمل أسواق المدينة وأكثرها جاذبية، وشارع "أونتر دين ليندن".الزائر للعاصمة، لا ينسى جدارها الذي تمت إزالة معظم أجزائه في الأعوام الأخيرة من الثمانينات، ولكن تم الحفاظ على أجزاء وقطع صغيرة منه، لتكون شاهدة على التاريخ، الذي لم يطويه الألمان نهائيا.
متاحف برلين تثير عشاق المدن التاريخية "كميوزيام آيلاند".أما نقطة العبور المعروفة باسم "تشارلي تشيكبونيت"، وموقع "الكسندر بلاتس" وضاحية "بوتسدام" التاريخية بمبانيها وأحيائها القديمة، كحي "داتش كوارتر" الجميل بفن عمارته، وقصر "سانسوشي" الذي أدرجته منظمة اليونسكو ضمن قائمة التراث الإنساني العالمي، لأهميته وقيمته التاريخية والثقافية، كلها مواقع و فضاءات تذكرنا بالماضي الفرح والعصيب الذي مر منه الألمان، تاريخ ما زالت خيوطه حية لحد الساعة.
صباحات برلين، تفتح أمامنا أفقا مسرحيا، تقدم فيه عروضاً للرقص والغناء والموسيقى بمختلف ألوانها بصورة تصل الليل بالنهار، وتجعل من هذه المدينة ساهرة لا تنام، ونابضة بالحياة الليلية .فزوار المهرجان السينمائي، يطلعون على حديقة "بوتسدام" حيث يقع قصر "سانسوشي" التاريخي الذي شيده الملك البروسي "فردريك الثاني"، وفيها أيضاً حديقة دار الشاي الصيني "تشانيز تي هاوس"، وحديقة "شارلوتنبرغ" نسبة إلى ضاحية تحمل نفس الاسم، و تضم قصراً تاريخياً مهيباً ، استغرق بناؤه أكثر من مائة عام، وأضحى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مركزاً رئيسياً للفنون، وملهماً لإبداعات الرسامين والفنانين.
من يدخل برلين لأول مرة، يلاحظ أن المدينة تطل على نهر يزيدها جمالاً وجاذبية، ويحمل اسم "شبري". وعلى الرغم من الطابع العصري لمدينة برلين، ومبانيها وأسواقها وضواحيها التجارية والصناعية، إلا أن لديها حدائق ومساحات خضراء تشكل متنفساً طبيعياً لسكانها.
لا أنكر أنني أعشق صباحات برلين بمختلف ألوانها، التي تجمع بين الفن و التاريخ ، فهي تنطق بالعقل و اللاعقل، وتلهم الزوار بكل ما قدمه الإنسان على هذه الأرض، التي مازال فيها ما يستحق الحياة .