بعد انقشاع دخان الحرب, طلائع و بذور مشروع يشابه في جوهره مشروع مارشال الذي أتيت على ذكره سابقاً في مقالتي " أوروبا , بين مطرقة مارشال و سندان الجدار الحديدي ".
فقد أوضح مارشال في خطابه بجامعة هارفارد بتاريخ , الخامس من يونيو عام 1947, الهدف من مشروعه حين قال : " إن الناس في بلادنا , بعيدون عن مناطق المتاعب في شتى بقاع العالم . و من الصعب عليهم أن يستوعبوا المعاناة الطويله التي تتعرض لها هذه الشعوب . و ما يترتب عليها من ردود أفعال و تأثير ردود الأفعال على حكوماتهم فيما يتعلق بجهودنا لتحقيق السلام في العالم ."
لا يخفى على أحد , الوضع المأساوي الذي كانت عليه أوروبا عقب الحرب العالمية الثانيه من دمار هائل طاول البنى التحتيه و الفوقيه كافة جراء القصف الاستراتيجي المتبادل بين دول المحور من جهة و الحلفاء من جهة ثانيه . الأمر الذي أدى إلى تدمير كبير و واسع بهذه البنى شمل أرجاء القارة الأوروبية كافة على اختلاف اتجاهاتها .
ناهيكم , عن انتشار الأمراض المعديه و استشراء حالات الفقر و العوز و البطاله الناجمه عن الحالة الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية التي أعقبت نهاية الحرب !
هذا , ما دفع الولايات المتحدة الأمريكيه إلى النفوذ عبر هذه البوابة الأوروبيه المفتوحة على مصراعيها للقبول القسري بمشروع يساهم في إعادة الحياة إلى الجسد الأوروبي الذي دخل إلى العناية المشددة آنذاك !
لقد أدرك جورج مارشال , أثناء زيارته إلى موسكو عام 1947 , الخطر الوافد من أقصى شرق أوروبا و المتمثل بنشر الفكر الشيوعي الساعي إلى السيطرة على أوروبا .
غير أن مارشال , بمشروعه التنموي , وضع على أوروبا شروطه المبكرة للمضي قدماً في مشروع إعادة بناء أوروبا بعد الحرب.
أول هذه الشروط , القبول باعتماد النهج الليبرالي الاقتصادي و السياسي كأسلوب و ممارسة . فجاء هذا المشروع , عملياً , منسجماً مع الميول الطبيعيه لمجتمعات أوروبا و شعوبها التي كانت تميل أصلاً إلى مبدأ الليبرالية .
لقد اعتمد مشروع مارشال , مبدأ حرب العقول للتأثير على هذه الشعوب و هذه المجتمعات . فحرب العقول أو حرب الأفكار , برأي مارشال , هي السبيل الوحيد لتجفيف منابع و مستنقعات الفكر الشيوعي أينما و جدت !!!
حيث أرست الولايات المتحدة الأمريكية فكرها السياسي و الاقتصادي و الثقافي بل و العسكري أيضاً في أوروبا , من خلال البرامج و البعثات و التكوينات الإدارية و المالية و الخبرات البشرية و التقنية التي أقحمها مشروع مارشال في حياة شعوب أوروبا و مجتمعاتها .
و ما وجود القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في أنحاء كثيره من أوروبا , إلا دليل واضح على ولوج الفكر العسكري لمشروع مارشال بقوة في رسم العناوين الرئيسه للدور العسكري الذي تلعبه أوروبا بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية من خلال حلف شمال الأطلسي !!
من هذه النقطة بالذات , أطرح على نفسي سؤالاً حول إمكانية و جود و ولوج نسخ مستنسخة من مشروع مارشال إلى منطقتنا العربية!!
بالعودة قليلاً إلى تموز عام 2006 و بالتحديد إلى زمن العدوان الاسرائيلي على لبنان , و الأسباب و المسوغات الواهية التي ساقتها القيادتان العسكرية و السياسية في اسرائيل للعالم حول مبررات الحرب و أهدافها , من خلال وضع بنك الأهداف و الجدول الزمني و العملياتي للحرب , نجد أن الغاية العليا لم تكن القضاء على المقاومة الباسلة في لبنان بشكل مباشر و مادي و إينما تحشيد الرأي العام الداخلي و الاقليمي و العالمي ضد فكرة المقاومة و جدواها في حسم المعركة لصالحها .
لقد أدرك الاسرائيليون قبل الحرب و خلالها كما أدركوا ذلك بعد الحرب أيضاُ من خلال نتائج تقرير فينوغراد , أن القضاء على المقاومة في لبنان هو ضرب من المستحيل في ضوء الالتفاف الشعبي و القدرة القتالية المتنامية لدى حزب الله التي أبرزت و للمرة الأولى في تاريخ المعارك , أسلوباً جديداُ و متطوراً في إدارة المعركة و حسمها بسرعة .
كما و أدرك حزب الله أيضاً , الأهداف الحقيقية و غير المعلنة من وراء هذه الحرب التي أخذت على الأخضر و اليابس . فسارعت الكوادر الشعبية فوراً إلى إعلان العودة إلى القرى و البلدات في نفس اليوم الذي أعلن فيه وقف إطلاق النار .
و بذلك , يكون حزب الله قد أرسل برقية عاجلة للعالم , بأن الأهداف الحقيقية للحرب على لبنان , قد أسقطها الرهان و الالتفاف الشعبي و الجماهيري حول قيادته و زعاماته .
إن وجهات النظر حول حجم هذه الأهداف و طبيعتها يختلف باختلاف الواقع الجيوسياسي في المنطقة التي ما زالت تعاني من آثار الحروب و النزاعات . إلا أن القاسم المشترك بينها جميعاً هو القدرة على الانتصار عسكرياً و سياسياً و ثقافياً على فكر المقاومة و جدواها و مستقبلها بعدما فشلت نظرية التدمير و أدواتها المتطورة و المحرمة في القضاء عملياً على البنية التحتية و القياديه للمقاومه بعدتها و عدادها .
اليوم , تبحث اسرائيل عن معارك أخرى في المنطقة . ليس لإعادة ماء الوجه الذي هدر في لبنان , بل خلق المقدمات الموضوعية لقبول مشروع جديد يساهم بقوه في الانتصار على الفكر المقاوم الناشئ في منطقتنا .
فكانت الحرب على غزة . التي أدركت فيها اسرائيل مرة أخرى أن سبيل القضاء على المقاومة الإسلامية حماس ضرب من المستحيل أيضاً و لكن ,
اسرائيل نفسها أدركت أيضاً أن العمق القتالي و الجغرافي لواقع المقاومة في غزة لا يشبه العمق القتالي و الجغرافي للمقاومة في لبنان . و من هنا , جاء الرهان على قدرة العدو في الانتصار على المقاومة إن لم يكن بالشكل العسكري , فليكن بشكل آخر !!!
إن جزءاً مهماً من وقائع و حقيقة العدوان على غزه, هو الحصار المفروض على القطاع قبل و خلال و بعد الحرب من قبل قوى و أنظمه لها كل المصلحة في ضرب النظرية القائمة على مقاومة التطبيع الفكري و العقائدي المتماشي مع المشاريع المستنسخة أصلاً من مشروع مارشال .
فالولوج إلى غزه بمشروع يشبه مشروع مارشال ,
يملي على قيادة السلطه القبول بمبدأ حدده جورج
مارشال سنة 1947 . أي حرب العقول و تجفيف منابع الفكر المقاوم الفلسطيني بواسطة إغداق و إغراق القطاع بكل الوسائل و الإمكانات الماديه و البشريه و الثقافيه التي تخدم هذا المشروع.
و بالتالي فرض الشروط التي تناسب هذا الهدف .
فالاقتراح المقدم من الرئيس الايطالي , سيلفيو برلسكوني في مؤتمر البارحة للدول المانحة و بحضور سبعين دولة من دول العالم , المتضمن اعتماد مشروع مارشال في غزه , يؤكد ما جاء في اجتماع شرم الشيخ الذي أعقب انتهاء حرب غزه , أكد على دعوة المجتمع الدولي للانخراط في إعادة إعمار غزه كما دعا فيما قبل إلى إعادة إعمار العراق بعيد الاحتلال و إعادة إعمار افغانستان و كل بقاع الأرض التي وطأتها آلة الحرب الغربيه .
غير أن مارشال , لن يأتي لوحده هكذا . بل سيكون مدججاً بكل الوسائل و الأدوات و الأفكار و الثقافات التي ذكرناها خدمة لعمله و نشاطه في غزه .
لتتحول أرض غزه و شعبها إلى رقعة من الاستثمار الفكري و الثقافي و العسكري و ... و ... الهدف منه , تغيير وجه غزه المقاوم .
إن الغرب , اليوم , يقوم بمعركة نيابة عن اسرائيل. المعركة التي أرادتها اسرائيل بهذا الشكل من وضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته الفكرية و الثقافية أولاً تجاه صراعها مع بوادر ولادة الفكر المقاوم الجديد .
من هنا تأتي أهمية عدم وقوف الأخوه العرب بموقف المتفرج أحياناً و المساهم في هذا المشروع أحياناً أخرى . فظروف المرحلة و طبيعة الصراع القائم اليوم , تدعو الجميع إلى وقفة استبصار و تمعن بأهداف أي مشروع يطلقه الآخرون لإيجاد حلول ثقافية و اقتصادية و اجتماعية و عسكرية .. إلخ .
فمما لا شك فيه , أن الدور الذي لعبته و تلعبه فصائل المقاومة أينما وجدت , في العراق و لبنان و فلسطين , هو من سيحدد المسارات التاريخيه التي سترسم معالم منطقتنا مرة أخرى في مطلع القرن الواحد و العشرين .
إن العرب مدعوون اليوم إلى تبني مشروعهم الخاص المستولد من حضارتهم و ثقافتهم و جغرافيتهم . مشروع يقاوم فكر برلسكوني و بوش و بلير و كل هؤلاء . مشروع يخدم قضايانا أولاً . مشروع يخدم تطلعات شعوبنا إلى بناء مجتمعاتهم الحرة و الحديثة و المزدهره .
لذلك , يجب علينا أن ندرك أولاً أهداف أي مشروع قادم أو مقترح لهذه المنطقه . هذا الإدراك الذي يعتبر نقطة البدايه و حجر الأساس لمواجهة المتغيرات بالأساليب المعتبره و الخطط التي تضمن حشد القدرات و الطاقات بحزم منضبطة و تواترية حركية و سياسة خلاقة لإيجاد البدائل عن الإخفاقات و الأخطاء أينما وجدت للوقوف عليها و الاستفادة منها وتلافي تكرارها و الوقوع في دوامتها. .
و إلا , فإننا سنشاهد, في المستقبلين القريب و البعيد , نسخاً مستنسخة من مارشال هذا في كل نواحي حياتنا و مستقبل أطفالنا .