قدّم النموذج المصري للثقافة على مدى العقود السابقة جملة من الأفكار"الشعبية" قامت على الصورة التقليدية للعائلة يحكمها الرجل و تكتفي فيها المرأة بِدوْر الآلة ( تلبية الرغبات و الإنجاب و خدمة الأسرة) إضافة إلى صورة سطحية للصراع الطبقي تقوم فيها المرأة بالدور التوفيقي/التلفيقي بين الطبقة الفاحشة الثراء و الطبقات المعدومة عن طريق الزواج كما قدّم تأريخا للمرحلة الناصرية ( حرب 6أكتوبر/ بناء السد العالي/ تأميم قناة السويس) من خلال الغناء و السينما و التلفزيون..و إذا تجاوزنا هذه المرحلة السابقة نجد أنفسنا أمام ثقافة المقاولات التي تتصدّرها السينما و التي يغيب فيها شبح القيم تقريبا من خلال طغيان شريحة الشباب على الشخصيات ( و ربّما لا يوجد بين الممثلين كهل واحد أو شخصية ترمز إلى السلطة أو القيادة و كأن هذه السينما لا تحمل سوى محظور واحد هو المال أما الثالوث التقليدي للمحرّمات فقد صار مكشوفا أ و مغطّى بغشاء من التمييع المقصود.
إن الثقافة المصرية التي مثّلت إلى عهد غير بعيد الحضور الوحيد في شاشاتنا الصغيرة و الكبيرة و مناهجنا التعليمية (تيمور/ الزيات/العقاد/ المنفلوطي/المازني...) وصلت إلى مرحلة خطيرة من اجترار الذات و بالتالي من الموت البطيء لا على مستوى التسويق الثقافي بل على مستوى الثقافة المصرية في حدّ ذاتها فالمصريون و إن حافظوا منذ زمن بعيد على هامش من الحرية يتمتعون به نظرا لأسبقية الكتابة و الطباعة عندهم علينا فإن ما يصل إليه المثقفون المصريون ممنوع على الرواية الرسمية للأدب و السينما و المسرح كما أن التقوقع الثقافي الشديد للمصريين النابع من شعورهم بأفضليتهم على الشعوب الأخرى في مجال الثقافة جعلهم يُقصون الثقافات الأخرى و يغلقون أبواب مسارحهم في وجوه البعض و صُحُفهم في وجوه البعض الآخر بل إنهم يمنعون الأقليات المصرية من المشاركة في الثقافة الرسمية كالأقباط و المسيحيين المصريين و النوبيين و مثقفي الأرياف و هذا ما يجعل الثقافة المصرية في تراجع كبيرو هذه المركزية الثقافية تعيدنا لا محالة إلى نهاية السلالة الفرعونية فقد كان الملوك الفراعنة يحافظون على سلالتهم بزيجات محرّمة لكي لا يتداخل دم الرعية مع دم الملوك فكان مُباحا زواجهم من الإخوة و الأخوال و الأعمام حين لا يتوفّر الشريك المناسب (أبناء الأخوال و الأعمام)...و حين فسد الدم الأزرق و كثرت فيه الأمراض بسبب الزيجات المحرمة انتهت هذه السلالة وبقيت أهرامها شاهدة على وجودها. و لما كان المصريون، أحفاد الفراعنة، مشدودين إلى ذلك الإرث العظيم فقد صنعوا ثقافة سادت قرابة القرن و لنفس السبب الذي أودى بالفراعنة تجد الثقافة المصرية ذاتها تتخبط في ذات المصير بعد
أن كثرت أمراضها و اُستفحلت و لا إمكانية لتجديد دمائها لأنها تُقصي لسبب أو لآخر كلّ آخر " يدّعي" امتلاك الثقافة و لقد كان للمصريين في بلاد بونابرت درس لم يفقهوه فأغلبية الأعمال الفرنسية الخالدة لم يصنعها فرنسيون ف"إديت بياف" يونانية و "جاك برال" بلجيكي و "أزنفور" أرمني و لا ننسى الأسماء المغاربية ( كاتب ياسين) و اللبنانية ( دومينيك إدّي) في الأدب ناهيك عن المواهب التشكيلية و الموسيقية الإفريقية التي وجدت محضنة هامة للفن في باريس لعقود طويلة.
إن اللوبي الثقافي المصري قد لفظ أنفاسه و إن كنا لا نفرح لسقوط الثقافة فإننا نفرح لسقوط الأوثان و لا بد أن يكون لنا مكان ضمن هذا المشهد المستقبلي المتعدد الذي تنطفئ أنواره في مصر لتسطع في لبنان و المغرب و دبي و في بلادنا.