آخر الأخبار

الإعلام سلبا و....سلبا

كثيرا ما تصطدم أذنك و أنت مارّ بـأغنية لا تستسيغها و تَعجب من ضحالة كلماتها و تظن أنها عابرة و لكنك تسمعها ثانية و أنت تركب سيارة الاجرة فتنتبه لموسيقاها فتقول في نفسك إنها ليست سيئة كما ظننت و تنسى الأغنية لأنها ليست من أولوياتك و تغوص في تفاصيل حياتك اليومية فإذا دخلت أول مقهى اعترضتك ذات الأغنية بتفاهة كلماتها و نشاز لحنها و لكنك تجد نفسك و دون شعور منك تترنم بكلماتها و يميل رأسك "طربا" كلما سمعتها هي نفسها أو "إحدى أخواتها"
و إذا بالإغنية تحيلك على الفيديو كليب الذي لا يخضع لأي نوع من الرقابة الأخلاقية أو الفنية فيهدم فيك ما يهدم بصمت و تؤدة..
و تتصفح جريدة فتصدمك صورة إحدى البضائع الاشهارية التي لا تجد لها من مسوغ لدى أهل الاشهار سوى صورة امرأة تقل أو تزيد عُريا في كل مرّة حسب البضاعة و حسب فنتازمات السيد المخرج أو المصور الفوتوغرافي لأن ثالوث الاثارة الاشهارية يعتمد على السلطة و المال و المشاهد الطبيعية المثيرة والجنس و بما أن السلطة بالنسبة للمشاهد العربي أمر محسوم و بما ان المشاهد الطبيعية المثيرة تعتبر بالنسبة إليه تَرَفا لا ضرورة و بما أن المستوى المادي الذي يقدم في الاشهارلا يتوفر إلا لفئة قليلة فإن المشاهد العربي و بحكم المجال الضيق لتعامله مع المرأة و الذي لم يسمح منذ قرون بإقامة علاقة سوية معها رغم دخولها مجال العمل خارج البيت و اقتحامها لمجالات فكرية و قيادية يجد نفسه "ضحية" لهذا النوع من الإشهار الذي ينطلق من مكبوتاته و الذي من خلال سلطة الصورة يمرر إليه ما لا يحصى من الأفكار و الإثارات الشعورية و الحسية التي تخلو من الجمالية و الفكر لتنصب على البضاعة التي يقع اشهارها و المعاني الفنية و الفكرية الرخيصة التي يقع تداولها في الاشهار..
هذا الإعلام الذي يفترض به أن يكون في بلداننا النامية سندا للتوعية و الرقي بالانسان بالفكرة البناءة و الحث على الانجاز و العمل و تعويد المتلقي للثقافة على مستوى أدنى من الذوق الفني صار يسهم في هدم الذوق و الأفكار بشكل مقصود فأن يكون الغث و السمين متوفرا في السوق فهذا طبيعي و لكن أن يكون التافه و السيء و المثير للغرائز هو الخيار الوحيد في السوق فهذا يطرح جانبا آخر من المسألة أكثر خطورة و هو أن الإعلام في يد السياسة و السياسة في يد فئة واحدة و أن هذه الفئة تستمد سلطتها و بقاءها من الخارج لا من الشعب و هذه الأطراف الخارجية هي التي تملي على السلطة القائمة الثقافة التي يجب تكريسها و التي لا تخرج عن كوننا أسواقا استعمارية قديمة بمواصفات حديثة أسواقا استعمارية يقع التحكم فيها عن بعد بتجريدها من تقافتها و مقومات شخصيتها و خصوصيتها أولا و تطويعها لتكون تابعة فكريا و اقتصاديا و غذائيا و صحِّيا...
هذا الإعلام الذي يخترقنا من حيث لا ندري خارج البيت و داخله...يدخل من حواسنا و يتقن إيهامنا بأن ما نراه حقيقي و طبيعي و أن ما نسمعه منطقي في حين أننا لو أعدنا النظر لعرفنا أنه بوق للّوبي اليهودي المتعملق في شبكات العقل العالمي، هذا السرطان الاقتصادي و الثقافي الذي كلما وجد حقيقة طمسها و كلما وجد حيا امتص دماءه متخفيا وراء أسماء غربية أو عربية، مسيحية أو مسلمة.... يبيعنا نفس المنتوج بأسماء مختلفة في كل مرّة و بسبب تقديسنا المزمن للكلمة لا نحاول أن نبحث فيما وراءها و ماذا يريد بها قائلها و ما هي غاياته البعيدة من ذلك..
الإعلام...هذا الوحش الذي يتربع في بيوتنا فنستهلكه دون أن نتجاوز عتبة الباب لا يقتصر على منتوجات الكبار بل إنه موجه أساسا إلى الأطفال من خلال أشرطة الكارتون و النساء اللواتي يقبع أكثرهن في المنازل من خلال المسلسلات فتمنعهن محدودية تعليمهن من إدراك مخاطره على سلوكهن و سلوك أطفالهن و أزواجهن...إن مجتمعاتنا بحاجة إلى توعية عميقة فهذه الفترة من الاضطراب في القيم و الأفكار التي خلقها الإعلام ليست سوى فترة انتقالية لا ندري مدى انتشارها و عمق أثرها و لن يظهر ذلك إلا في سنوات أخرى قادمة و هذه النتائج لن تكون سوى سلبية فشباب اليوم الذي تعود آباؤه بالوراثة المزمنة أن يؤجلوا أحلامهم علّهم يرونها تتحقق في أبنائهم نراهم يضربون عرض الحائط بماضيهم القريب و البعيد و يتحسسون من كل ما يمكن أن يعيدهم إليه حاملين كل أحلامهم و تطلعاتهم نحو القادم الذي لا يملكونه و لا يقدرون على الأخذ بأسبابه فمن تعليم تابع إلى ثقافة تابعة إلى اقتصاد تابع إلى إعلام تابع أما ماضيهم فغامض بالنسبة إليهم مطموس بسبب الجهل و غياب النقد الحقيقي في مختلف المجالات الفكرية و التنموية...هذا الإعلام الذي يدخل إلينا من خلال أغنية تافهة أو صورة مثيرة و للغرائز يهدم فينا شيئا كل يوم يشوّه فينا شيئا كل يوم و يسرق منا أهم ما لدينا: عقولنا.