الهندسة آنذاك كانت تعني إدراك علاقات المنطق الرياضي وقوانين الطبيعة السائدة بلغة الأنتيكا، اليوم أصبحت خاضعة للغة التجريد والمعادلات التفاضلية والرياضيات العالية. فمن سمات الحداثة أنها أحدثت تحولا عميقا في اللغة. هذا ما إكتشفه فوكو في تغير لغة العلوم الطبيعية بين حقب الكلاسيك والنهضة والحداثة، وبصورة أقل في نصوص الأدب والشعر .. وهذا الأمر يمكننا أن نرى إرهاصاته في اللغة العربية، وإن كنا مانزال بعيدين بسبب عدم وجود أرضية معرفية خصبة تحتضن المصطلحات والدلالات اللغوية للحداثة..وهو أمر طبيعي لأن أي لغة هي سلسلة معرفية تراكمية تنحت نفسها في مصطلحات ودلالات جديدة، فعندما نقول مثلا: مملكة أردنية هاشمية، نكون قد ربطنا سلسلة معرفية لغوية مُدركة؟ قد تكون مستهجنة لياقوت الحموي، الذي يعرف أن الأردن مجرد نهر صغير في جنوب الشام، لكنها مُدركة جزئيا لمن لايعرف شيئا عن تأسيس الأردن على يد أسرة هاشمية، وهي غير مُدركة بالمطلق لمن يجهل موقع الأردن على الخارطة ولايعرف دلالة مملكة (نظام حكم دستوري أو مطلق يسود مجموعة بشرية، على رقعة جغرافية، تضبطها قوانين ومواثيق دولية..إلخ) أي أن اللغة لاتخضع للمفهوم الديني الساذج: عن علم آدم الأسماء؟ بل ترتبط بصيرورة منظومة معرفية لهذا فإن غياب الأطر الإجتماعية لها يزيد من إرتباك مفاهيم حداثية مثل: (دولة، دستور، ديمقراطية، مواطنة، حرية) لأنها مضادة لقانون الدم والعصبية والقبيلة التي فطمت على ثقافة (أمة، شريعة، طويل العمر، دهماء أو رعية، حلال وحرام) .. وربما نكون بحاجة لعلم جديد إسمه: هندسة اللغة، تفرضه دولنا على مناهج التعليم، غرضه تشذيب وتهذيب وأقلمة الموروث الكلامي مع قواعد العصر والحداثة، وأن تتجرأ الميديا على إنتقاد ركام الهذيان الميثولوجي المليئ بمفردات فاقدة للمعنى والجدوى والقيمة، والتي تتحكم بلغة الشارع وآداب المحادثة وضروب التلقين الببغائي ناهيك عن الأدعية الجديدة ذات النكهة الوهابية التي تحتاج ملفا خاصا (أو كيسا بلاستيكا للتقيؤ):
قبل أيام كتبت خطبة تأبينية في رثاء لغة الضاد، شكوت فيها أجواء مختنقة بجثث الكلام ونفاياته. وعدم قدرة اللغة على ممارسة وظيفتها كسلطة أخلاقية. وإستكمالا أود أن أعرج على النقاط التالية:
1ـ علينا أن نعترف مبدئيا بأننا أمة رواية شفهية لم تترسخ فيها الثقافة الكتابية وهذا يمكن تلمسه في إرتفاع نسبة الأمية، وضعف طباعة الكتب وتسويقها، وينطبق على الميديا الحديثة حيث أن نسبة مستخدمي الإنترنت لاتتجاوز 2% من السكان جلّهم يستخدمون الشبكة للإتصالات، والإيميل، والتوك، أو البحث في متاهة غوغل عن معلومات (فاقدة للسياق المعرفي) وبالتالي فاقدة للقيمة
2ـ عليه فإن الثقافة (إنتاج المعرفة) تبدو ضحلة متآكلة. وهنا يُطرح السؤال من يُنتج المعرفة في العالم العربي؟ إنهم برأيي قلة من المفكرين والمبدعين الذين يطبعون من أعمالهم بضعة آلاف من النسخ، (يوزعون نصفها هدايا للأحبة والأصدقاء) في حين يبقى سواد الشعب متعلقا (بأستار) التلفزيون.
3ـ والسؤال كيف تتكوّن المعرفة عند الأجيال؟ تلعب الكتب المدرسية الدور الرئيسي في تكوين البنية المعرفية للأجيال، يضاف لها ما يتلقاه الفرد في صيرورته وبيئته اللغوية (بيت، مهنة، ميديا، كتب..إلخ) وهنا تضطلع اللغة (بإعتبارها آلة الفكر ومخزن موروث الميثولوجيا والشعر ومنظومة القيم والحكمة ) دورا أساسيا في تحديد ملامح الشخصية التاريخية، وإطار الهوية.
4ـ ومن يساهم في إنتاج المعرفة في مستوياتها العليا ومن يقدم الإجابة عن تساؤلات الفكر والسياسة والإقتصاد والعلوم والبيئة؟ بالتأكيد غيرنا ..إذ ماتزال مساهمة العربية محدودة للغاية. فما نفعله ليس أكثر من ترجمة ما يُصاغ في الواقع من حقائق.. ما هي الحقيقة؟ هي ماتصنعه وتفرضه صيرورة الحياة من وقائع (أو الكذبة الحاذقة التي تفرضها عقول متفوقة مُدركة حسب تعبير غاسبر) أي أنها في بعدها الماهوي عبارة عن معلومات تتخلّق في أنساق معرفية لغوية، من هنا تولي الأمم أهمية كبرى للميديا ووسائل الإعلام والدعاية كأداة لترويج المعلومة..
5ـ ولو أخذنا شبكات الميديا لوجدنا أن التلفزة هي المصدر الأساسي لترويج المعلومة هي تقوم بدور الحكواتي في الثقافة الشفهية والأخطر أنها تتجاوز السمع إلى لعبة بصرية خطيرة تشحن المخيّلة بالصور والرموز وتسيل اللعاب وتوجه الرأي العام والسلوك وأنماط الإستهلاك، وهذا يمكن معرفته ببساطة حيث يصل عدد مشاهدي الجزيرة (مثلا) عشرات الملايين يوميا، بينما يبلغ عدد زوار أفضل مواقع الثقافة الجادة والرصينة، ألفا إلى خمسة آلاف شخص يوميا؟
وعلى العموم يمكن تشبيه مواقع الإنترنت بأندية أو حمامات عامة يرتادها عدد من الروّاد بدافع الفضول وتزجية الفراغ؟ أجل لتزجية الفراغ وإمتصاص الفائض الزمني الذي تنتجته الحياة الإستهلاكية والميل للحياة الفردية وممارسة لذة ومتعة إفتراضية تتحول بالتدريج إلى إدمان يصعب الإقلاع عنه؟ فمعظم كتاب النت أصبحوا من مدمني الكتابة الذين يمارسون لذة (فكرية؟) مع مجموعة من القراء ويتبادلون معهم الأدوار بسبب سهولة النشر.
إن الكتابة الإلكترونية، تساهم في خلق ثقافة إفتراضية تعكس حضارة إستهلاك متوترة تُفقد الإنسان شرطه كحيوان تاريخي نضج وتكوّن معرفيا على نار هادئة، وتخلق منه إنسانا لحظيا منفعلا، بسبب التوق والترقب المتوتر وإستهلاك اللحظة ثم رميها مع الفضلات وإنتظار لحظة قادمة تسكّن من توتره.. لهذا أعتقد أن الأدب والإبداع الفني والشعر هو الضحية الكبرى لعصر النت، إضافة إلى تحوّل المبدعين، إلى معلقين وباحثين عن نرجسيتهم بين القراء ومحركات البحث، وهذا يوقف تدريجيا فرصة نمّوهم المعرفي ويخصي طاقة الإبداع في ذواتهم.
لهذا أعيد ماسبق وكتبته قبل أيام: من الأفضل أن يلجأ الكتاب إلى تلحين مقالاتهم وكتبهم وإنشادها في المواقع الصوتية والفضائيات بمرافقة الدفوف وصنجات الراقصات. وإذ لا أمل لإحياء هذه السلطة الأخلاقية في ثقافتنا على المدى المنظور. أقترح تخفيف هذا الضجيج رحمة بالنيام، فسوق الكتابة مكتظ بعربات البضائع الكاسدة ومقالات العلاكين. وإن تنصروا الجزيرة تنصركم وتثبت أقدامكم .