آخر الأخبار

الفصول الأربعة في خبرات أهل شرق المتوسط

اعتمد أهالي القرية الساحلية منذ عصور خلت على خبرتهم في تدبر شؤون حياتهم وقد تعمقت خبراتهم في شتى المجالات بما فيها تلك التي يستمر العمل حتى اليوم في تقصيها اعتماداً على مجموعة من القوانين والظواهر العلمية لتظهر العديد من نتائج هذه البحوث والدراسات الحديثة نتائج مدهشة في تطابقها مع الخبرات الحياتية التي قامت أساسا على فعل الملاحظة والاستقراء لدى الإنسان التقليدي.

وطالت هذه الخبرات أحوال الطقس الساحلي وتقلباته والظواهر الطبيعية المرافقة على مدار العام وهي خبرات أفضت بدورها إلى مجموعة من العلوم الأخرى في مجالات عدة كالزراعة والصيد والرعي وكانت جميعها تقوم على تجارب بسيطة متوارثة من جيل إلى آخر لخصت أحوال الجو والطقس على مدى الفصول الأربعة في السنة.

وقالت الباحثة التراثية فريال سليمة سميت هذه التجارب التي أثبتت صحتها على مر السنين بـ الآبيات وقد اعتمدها أهل الساحل في سورية للتنبؤ بما سيكون عليه الطقس في العام التالي فإحدى هذه التجارب كانت تجري تحديدا بعد الثالث عشر من شهر آب من كل عام وفقاً للتقويم الشرقي وتستمر لستة أيام بين الرابع عشر وحتى العشرين منه.

تقابل هذه الأيام الأشهر الستة المقبلة بعد هذا التاريخ فالرابع عشر من آب ينبئ بما سيكون عليه أيلول والخامس عشر يؤشر في طقسه على تشرين الأول والسادس عشر يلخص طقس تشرين الثاني وهكذا حتى نهاية الشهور الستة فإذا كان 14 آب على سبيل المثال ممطرا فهذا يعني أن آب سيكون كذلك وإذا كان 15 آب حاراً فسيكون تشرين الأول مثله والأمر نفسه في بقية الأيام.

وأضافت سليمة أن هذه التجربة اتخذت شكلاً مختلفا لدى مجموعة أخرى من الناس وإن كانت تقوم على المبدأ ذاته فكان يعمد في الرابع عشر من آب إلى وضع حفنة من الملح على حجر جاف خارج المنزل و تركها حتى اليوم الثاني ليفحص الملح فإذا كان مبتلاً بفعل الندى فهذا يعني أن أيلول وهو الشهر المقابل لهذا اليوم سيكون ماطراً وإذا كان الملح جافا فهي إشارة إلى جفاف طقس أيلول.

وتدوم هذه العملية ستة أيام متتالية تقاس خلالها درجة رطوبة أو جفاف الملح ليستدل منها على طقس الشهر المقابل لكل من هذه الأيام.

وأشارت مصادر أخرى كما تقول الباحثة إلى أن الأيام السبعة الأولى من آب الشرقي تعطي فكرة عامة عن طقس الشتاء التالي فإذا كانت حارة جدا فهذا يعني أن الشتاء سيكون ممطرا وإذا كانت معتدلة الحرارة فهي إشارة إلى شتاء معتدل في برودته كذلك عمد الريفيون في الساحل السوري إلى مراقبة حيواناتهم التي كانت تبدي سلوكيات وردود فعل متغايرة يدل كل منها على طقس قادم ما فما إن تنتصب أذان بعض الدواب او يفلي الدجاج ريشه أو يلجأ الذباب للاختباء داخل المنازل حتى يكون المطر قاب قوسين أو أدنى من الهطول والأمر نفسه عندما تسارع أكثرية الطيور إلى التقاط الدهن بمناقيرها من غدة تعلو ذيلها لتدهن بها ريشها فلا يبتل بالمطر.

أما عندما يبدأ النحل بزم أجنحته وتحريكها بسرعة داخل الخلية أو خارجها فهي دلالة على ارتفاع درجة حرارة الجو كما تشير الباحثة سليمة والأمر نفسه عندما تبرق السماء من جهة البحر فإن الناس تستبشر انبلاج الشمس وانحسار البرد وبالتالي القدرة على إنجاز بعض الأعمال خارج المنزل.

وعمد أهل الريف الساحلي إلى استقراء الرياح والأهوية جمع هواء وملاحظتها وتفسير وجهاتها وما يترافق مع كل منها من أحوال جوية فخرجوا بمجموعة من القواعد والخبرات التي يتم تناقلها والاعتماد عليها بصورة كبيرة حتى اليوم فالهواء الشرقي حسب أسلافنا غالبا ما يكون جافا قاسيا يقود السنابل إلى التلاطم بعضها ببعض فتنفرط حبوبها ويخرب الزرع.. ولذلك فإن الهواء الشرقي هو من الرياح غير المستحبة لا سيما عند المزارع إذ يغدو الحصاد مهمة عسيرة في ظله لأنه يتطلب من الحاصود الكثير من الانحناء نظرا لأن الهواء الشرقي يدفع السنابل إلى جهة واحدة فتميل بشدة على بعضها ويصبح حصادها بالمنجل أمراً بالغ الصعوبة ويقال انه يشقق الأرض وينشفها ويجعل الحب قاسياً كما يجفف الشجر ويرمي ثمارها وأوراقها حتى لينكسر العود اليابس من جراء نفسه.

أما الهواء الغربي أو البحري كما تقول الباحثة فهو يجعل الطقس لطيفاً ندياً تطول فيه وتنمو النباتات والحشائش والأزهار وتعقد الثمار وهو يمنح المخلوقات كافة رطوبة لأجسامها واعتدالاً في حرارتها وهناك الهواء القبلي أو الجنوبي الذي ينبئ بقدوم المطر وبالعواصف الشديدة فما أن يهب هذا الهواء حتى يمتنع الصيادون عن الإبحار إذ يضطرب البحر وتثور أمواجه فتتكسر الزوارق الصغيرة وتقتلع أشرعتها.

ودرج العرف الساحلي لدى هبوب الهواء البحري على تفادي ما يسمى بالتنين وهو العواصف الشديدة المصحوبة بالمياه وقيل قديماً إن التنين يتكون من غيوم كثيفة جداً تلتف مع الهواء الشديد فتسحب معها الرمال والأصداف والطحالب والأسماك في قاع البحر.

كما تستطيع حركة التنين الدائرية القوية أن تقتلع في طريقها أشجاراً لها من العمر ثلاثون عاماً إلى جانب اقتلاع البيوت ورمي حجارتها بعيداً وفي ما يتصل بالهواء الشمالي فما أن يهب حتى يتوقف سقوط المطر وتطيب السماء لكن رياحه تبقى جافة فيتشقق الجلد ويقال إن الجروح لا تجف ولا تندمل بسرعة وقت هبوب الهواء الشمالي من شدة جفافه حتى أن أعواد الدبق التي تستعمل لصيد الطيور تجف فلا يعلق الطير عليها.

وقد صنف أهل الساحل السوري منذ القدم تتابع سليمة مجموعة الظواهر والأحوال الجوية المتكررة عاما بعد عام وأطلقوا عليها الأسماء والصفات التي تشي بطبيعتها وما يترافق فيها من عوامل جوية قاسية تستدعي الحيطة والحذر والتزام ما يمكن من تدابير لتفادي آثارها السلبية فعرفت مربعانية الشتاء ومربعانية الصيف.

وتشير الأولى إلى الفترة الأشد برودة خلال العام حيث تنخفض فيها الحرارة إلى مستوياتها الأدنى على طول الساحل السوري وتمتد من الحادي والعشرين من كانون الثاني وحتى أول شباط من كل عام وتشير مربعانية الصيف بالمقابل إلى الفترة الزمنية التي يكون فيها الحر على أشده وتمتد من أول تموز من كل عام وحتى العشرين من آب وهناك السعودات التي تأتي في العشر الأخيرة من شباط وأولها سعد دابح الذي سمي كذلك لشدة برده وزمهريره ثم سعد بالع الذي تشتد فيه الأمطار وتبتلع الأرض مياهها ثم سعد الأخبية وتخرج فيه الناس من بيوتها والزواحف من أوكارها والحيوانات من مخابئها بعد البيات الشتوي الطويل ليأتي بعد ذلك سعد السعود وهو كناية عن سعادة الناس وفرحها بقدوم الربيع وحلول الدفء.

وتتابع سليمة بالإشارة إلى المستقرضات وهي الأيام الثلاثة الأخيرة من شباط حسب التقويم الشرقي وتسمى العجاز أو العجوز لأنها تأتي في عجز الشتاء تليها الشيوخ أو الحسوم وهي الأيام الأربعة الأولى في آذار ويقال إن شباط يقترض من آذار هذه الأيام التي يشتد فيها المطر والبرد وتهطل الثلوج وتشير الخبرة التقليدية إلى أن أيام العجاز هي الأفضل للزراعة حيث يثمر الشجر بغزارة وتثبت ثماره في حين انه في الأيام الشيوخ فإن الشجر يزهر ولا يثمر مهما امتد به العمر وتختتم الباحثة بما يسمى بـ جمرة السخنة وهي أطول فترة في السنة تمتد من بداية آذار إلى أوائل تشرين الأول ويسود فيها الدفء فتظهر أول إشاراتها عندما يخرج دود الربيع بوبره البني المخملي المنقط بالأصفر من غلالاته الشفافة اللامعة ليتجول في أشعة الشمس في إشارة إلى بداية الربيع.

(رنا رفعت -سانا)