آخر الأخبار

حين تصنع الأقلية المشهد

الأصالة تقليد و الحداثة تقليد آخر و بين النماذج "المتوفرة" على الساحة الثقافية و منذ عقود سابقة تتكرس فكرة واحدة هي هذه الدورة المُفرغة التي تثرثر لئلا تقول شيئا، زخم كمّي لا مسبوق في الرواية و الشعر و القصة و الفنون بأنواعها و فضائيات تطلع علينا من هنا و هناك تزعم التخصص في الفتاوى الدينية و المنوعات و الرياضة و التنجيم و غير ذلك من المواضيع التجارية التي وقع صُنع سُوق لها من طرف عقول خفية تُحرّك الإعللام في العالم و تسهر على تمرير أفكار و إرساء سلوكات بعينها للحفاظ على العالم الثالث كسُوق كُبرى من الدُمى المتحرّكة.

و السؤال الذي يُطرح هنا، هل استطاع العالم العربي رغم هذا التطور الكمّي في الثقافة أن يُجدّد نفسه، أن يغيّر واقعه، أن يحقق حاجياته الأساسية من الحرية في الكلام و الحرية في الصمت؟ هل استطاعت المجتمعات العربية أن تخلع أقنعتها الخشبية و تخرج عن صمتها المتخفي وراء الرداءة لتحل قضاياها؟ هل الزعامات الثقافية المُكرّسة في العالم العربي تحقق انتظارات المتلقي منها أم أن المتلقي العربي لا يعلم شيئا عن أكثرها و لا يهتم بخطابها الفضفاض و الموالي للأنظمة الحاكمة؟ هل يحتاج المتلقي العربي للوصاية على أفكاره و أحلامه، هل يحتاج هذا المستهلك للمنتوج الثقافي إلى أن نعلّمه كيف يفكّر و نقدم إليه أدلّة استعماله و قائمة القضايا التي عليه أن ينتبه إليها و يكون واعيا بها؟

أظن أن أساس الهُوة بين صانع الثقافة و مستهلكها هو عدم التقدير الصحيح لأفق المواطن العربي و هو ما يؤدي إلى سوء تقدير انتظاراته من المثقف.إن المواطن العربي لا يقل وعيا عن النسبة الغالبة من الوجوه المكرّسة إعلاميا و ربما هي التي لا تزيد وعيا عنه، إن ما يريده المواطن العربي هو الفعل و التغيير و ليس كلاما في الغزل أو المديح أو المُثُل و المواطن العربي لا يخدم طبقة مثقفة لا تعبّر عن مطالبه و لا تغيّر واقعه و إن كان يقبل على مضض بِدور "خادم الأنظمة السياسية" لأن السياسة اضطرار و الثقافة اختيار و لهذا يجب أن يتغيّر الخطاب الثقافي و الاعلامي المرئي خاصة و يراجع اتجاهاته إذا كانت النية حقيقية في أن نصنع لغة حوار بين كافة حساسيات المجتمع و تياراته المتنافرة في ظاهرها و نؤسس لمجتمع أفضل و هنا يحضر بقوّة المشهد الثقافي الفلسطيني الذي يتميز في عديد المجالات من كتابة شعرا و رواية و موسيقى و فنون تشكيلية و سينما و أنا أذكره هنا لأنه يمثل مفارقة عجيبة في العالم العربي بين ثقافة بلا دولة و هو حال الثقافة الفلسطينية و دولة بلا ثقافة و هو حال أغلب الدول العربية و إذا كان الكثيرون يرون أن المثقف الفلسطيني قد سَجن نفسه و فنه في إطار القضية الفلسطينية و لم يُحلّق بعيدا فإن القضية الفلسطينية كانت و لا تزال مُلهِما أساسيا لتجارب إبداعية جريئة لم يصل إليها كُتّاب و فنّانون في دول عربية أخرى كما أن التعريف بالبشاعات الي يرتكبها الاسرائيليون خاصة من خلال الصورة سواء تمثلت في الفن التشكيلي أو الأفلام التسجيلية الوثائقية من شأنه أن يُحدث معرفة لمن يهمّه الأمر و يصنع موقفا فإذا كان العرب لا يهتمّون بما يُمكن أن يُعتبر إرثا إنسانيا ساهم مُثقفوهم في صُنعه كبعض التجارب الأدبية و الموسيقية التي حازت اعترافا عالميا و إذا كان العرب لا يهتمون بتدويل القضية الفلسطينية كما تفعل كل الأقليات في العالم فإن عديد المنظمات العالمية التي تهتم بحقوق الانسان و بالإرث الثقافي العالمي تبذل جهودا كبيرة من أجل دراسة هذه الملفات سواء للإفادة منها أو للدفاع عمّا يعتبرونه حقا إنسانيا مشروعا في الحرية و الكرامة هذا عَدَا أن القضية الفلسطينية لا تحد من إبداعية العمل الفني فضلا عن أنها قضية وجود.
إن دور المثقفين الفلسطينيين كبير جدا في نشر القضية خارج أسوارالعالم العربي رغم ظروفهم الحياتية السيئة جدا و التي لا يتمتعون فيها بأكثر الحقوق البشرية بداهة و هم موجودون بقوة في المشهد الثقافي العربي رغم غياب العمل الجماعي الذي قد يساعد أحيانا في مجالات كالمسرح و الموسيقى و السينما. و المثقف الفلسطيني يسعى لكسب حرب الوجود عن طريق الإبداع رغم الحصار و التهجير و عدم توفر أوراق هوية تحفظ له الجنسية أو حتى النسب العائلي لأبنائه في بعض الأحيان مما يدفعه أحيانا للإنعزال و العمل في صمت لأن القضية قد لا تهم غيره.
إن السرطان الاسرائيلي لا يهدد فلسطين فقط بل الشرق الأوسط بأكمله جغرافيا و العالم كله اقتصاديا و سياسيا فهو كالرمال المتحركة التي تجرف كل ما يعترض طريقها و لكن بين الاستشهاد و الاستفادة من القضية و المتاجرة بها ترتفع أصوات مبدعة هنا و هناك لا بد أن تصنع حراكا عالميا يغيّر ما كان يعتبر إلى وقت غير بعيد أمرا حتميا.