آخر الأخبار

قبور بلا عظام



مع تصاعد نغمات الشكّ بالرواية الدينية، وغياب النقوش والوثائق الأصلية لمرحلة التأسيس، وكثرة المنحولات والأساطير، يسأل المرء عمّا إذا كانت الأضرحة والقبور، تملك إجابة دامغة تؤكد هويّة ساكنيها، فأخبار جهينة، لم تعد يقيناً.. ومن غير المعقول أن يُعثر على نقش قبر امرئ القيس (325م) ولا يوجد مثيله في كنيسة القيامة، أو في حجرة عائشة، التي احتضنت جثمان النبيّ.

وقبل المضيّ بعيداً أشير إلى أن أركيولوجيا الكتاب المقدّس، رفعت الراية البيضاء، ولم نعد بحاجة للإغراق في التفاصيل، فخلاصات جهود التنقيب طوَت صفحة آباء التوراة، وأصبح الكلام عنهم ضرباً من العبث: " قبر داوود على جبل صهيون (القدس) هو من صنيع القرون الوسطى، أمّا برجه الشهير القريب من باب يافا.. فهو عبارة عن صومعة بنتها الجيوش العثمانية للسلطان سليمان (القانوني) "(1).

الحفريات في مدينة داوود، بالقرب من ساحة الأقصى، التي بدأها رايموند فايل عام 1913 وتابعها يغال شيلون بين عامي 1978ـ 1984 والمغارات المنحوتُة التي فُسّرت على أنّها مقابر السلالة الداوودية، استنادا لمقولة التوراة "انضمّوا إلى آبائهم ودُفنوا في مدينة داوود" فتقوم على دائرة تأويلية مغلقة، ولعل اكتشاف مقبرة "سيلوا" في وادي قيدرون شرق مدينة داوود، جعل تلك المغارات لغزاً بدل أن تكون حلاً "(2).

أي أنّ الآركيولوجيا القديمة حاولت إكراه الأرض لتنطق بما يخالفها، وما جرى في أرض الكتاب المقدّس كان أشبه بمحاولة لإثبات عروبة السويد، بناءً على عُملات أمويّة وجدت في قبور الفايكينغ، من هنا يصبح الحديث عن أضرحة آباء أسطوريين مثل إبراهيم وسارة وهاجر، مضيعة للوقت (والعقل). والأجدى أن نتأمّل صروحاً أخرى مازالت مهوى أفئدة الناس، ومحطّ رحالهم كالقبر المقدّس في القدس، وضريح بطرس في روما، ومرقد نبيّ الإسلام وابن عمه حيدر الكرار في يثرب والنجف.

بين القدس وروما:

يبدو أنّ المسيحية كانت محظوظة عندما دحرجت الحجر عن قبر يسوع، وتركته يصعد إلى السماء، وبهذا أعفت الأركيولوجيا من مهمّة البحث عن عظام "المخلّص"، ومع ذلك كان قبره (الفارغ) حجر الأساس لكنيسة القيامة، أحد أهمّ ذخائر المسيحية.

ولأوّل وهلة يستوقفنا أمر مهمّ، يتكرّر في قصّة بناء كاتدرائية القدّيس بطرس في روما (الفاتيكان)، فكلا الصرحين بُني بعد مرور أكثر من ثلاثمائة سنة على الحدث، أي بعد اعتناق القيصر قسطنطين للمسيحية. حيث تذكر الرواية السائدة (3) أنّ هيلانا أمّ القيصر، حضرت عام 326م. للقدس، وعثرت على الصليب ومكان القبر تحت معبد رومانيّ، متاخم لمكان الصلب في تلّة الجلجثة Golgota (وفي الأدب الديني: جبل الجلجلة)، والتي فسّرتها الأناجيل "بمكان الجمجمة" لوقا (23:33) ويوحنا (17: 19) وهو موقع مجهول مازال يحيّر الباحثين، وتعيينه خضع لموهبة هيلانا في اقتفاء الأثر، وهي التي أمرت ببناء صغير يحيط بالقبر (يُزعم أنّ آثاره لا تزال باقية داخل كنيسة القيامة)، وإلى الشرق منه أمرت بإنشاء كنيسة (لا أثر لها حالياً)، إذ تروي المصادر بأنها احترقت أثناء الاحتلال الفارسيّ عام 614م، وبعدها بقرون دُمّرت تماما على يد الحاكم بأمر الله الفاطمي عام 1009م (4).. والخلاصة أنّ بناءها الحالي يعود للفترة الصليبية (حوالي عام 1160م)، ومنذ عام 1555م تنازع عليها الأرثودوكس والفرانسيسكان، إلى أن صدر فرمان من الباب العالي العثماني عام 1767م قسّم الكنيسة بين الفريقين المتنازعين.. والمهمّ أنّ نزاع السيادة عليها، كان السبب الأبرز لاندلاع حرب القرم عام 1853م بين روسيا (حامية الأرثودوكس) والدولة العثمانية، ومازال رهبان كلا الفريقين، يخوضون أحياناً مباريات شدّ شعر وتبادل لكمات (وعلى الهواء مباشرة).

أما ضريح القديس بطرس، فيعود بناؤه أيضا للقيصر قسطنطين الذي أمر ببناء كنيسة عام 326م (حينها كانت أمّه مشغولة بالقدس) على رفات بطرس، الذي صُلب معكوساً عام 64 م أيام نيرون، في مضمار "السيرك" الذي أنشأه القيصر الدمويّ والطاغية (المجنون) كاليغولا Caligola (37ـ 41م).. ولأهمّية هذه النقطة تحديدا، وللإضاءة على طوبغرافيا المكان وتاريخه. تجدر الإشارة إلى أنّ تلّة الفاتيكان تقع في الجهة الغربية لنهر التيبر، مقابل مباني الأنتيكا لروما حيث ميدان مارس الشهير، وكانت التلّة (الفاتيكان) موضعا مقدّسا لتأليه وعبادة الإلهة "الأمّ الكبرى" Kybele*. وفي سفحها شيّد كاليغولا "السيرك" الذي يُزعم أنّ بطرس صُلب فيه.. والمهمّ أنّ الحفريات التي أجريت عام 1950م تحت الكاتدرائية الحالية، حاولت أن توهم بالعثور على رفات بطرس في أحد جدران السراديب، لكنّ المعروف أنّ المنطقة كانت ضمن دائرة مقابر روما، وما عُثر عليه من جدران مزيّنة بالرسوم والموزاييك، إضافة لقبور كثيرة، تجعل تحديد القبر بعينه إسقاطاً دوغمائياً لا يُقنع النقاد. والجدير بالذكر أنّ الكنيسة القديمة، التي نُسبت لقسطنطين، تعرّضت عام 846م لنهب وحريق، أثناء غزوة المسلمين الأغالبة لروما..أمّا الكاتدرال الحالي فيقوم عليها، وقد وُضع حجر أساسه عام 1506م عند عمود فيرونيكا الشهير (5)

عليه فإنّ النقد التاريخي الذي يشكّك بتاريخية تلك الأحداث المبكّرة، لغياب النقوش والأدلة الدامغة لا يعوّل كثيرا على هذا الأدب القصصيّ، الذي ترك صليب المسيح مرميّا تحت معبد رومانيّ لثلاثة قرون، ينتظر قدوم السيّدة هيلانا. فالتذرّع بأنّ الاضطهاد الروماني كان حائلا دون تكريم المكان وتعظيمه، ليس كافياً لتبرير القصّة، سيما وأنّ نفس النسيج الروائيّ يقصّ أخباراً عن فرق مسيحية شرقية، كانت موجودة في القدس وعموم سوريا، وكان بإمكانها أن تعثر على الصليب وتنقذه من الوعثاء والمهانة، لكنّ الأمر يشير إلى أنّ دوغما الصليب نشأت في أزمنة متأخرة، وذات طابع رومانو ـ هيليني، وكذلك فإنّ التماهي بين القبرين أمر يثير الدهشة والشكوك، فالقبر الأوّل قام على تلّة في القدس اسمها الجلجلة (الجمجمة) غير محدّدة إلا بإشارة من إنجيل يوحنا تقول: وكان في الموضع الذي صلبوا فيه يسوع بستان، وفي البستان قبر جديد ما دُفن فيه أحد(19:41) وقبر بطرس قام أيضا على سفح تلّة الفاتيكان قرب سيرك كاليغولا Caligola (لاحظ التشابه مع الجلجلة) أي في مكان منسوب لقيصر دمويّ عُرف حكمه بالجماجم.

وكلا الشخصيتين (يسوع وبطرس) مات مصلوبا ـ وكلا الضريحين بُني بعهد قسطنطنين ـ وكلاهما اندثر وأعيد بناؤه.. إلخ وإذا أخذنا بنظر الاعتبار الاختلالات الطوبوغرافية للسرد الإنجيليّ، وأسبقية الصياغة اليونانية على غيرها (من آرامية وقبطية) وتبرئة روما من دم المسيح، وعدم وجود مدينة الناصرة في ذلك العصر..إلخ يصبح استنتاج ف. كاروتا F.Carrota منطقيا، وفحواه أنّ قصة المسيح كما وردت في الأناجيل، هي صدى أو إسقاط لأحداث جرت في روما أيام يوليوس قيصر.

وبرأيي المتواضع، فإنّ النسخ المسيحية المتأخّرة هي صور لتلك التي نشرها القيصر جستنيان في القرن السادس م. وهي خليط لرؤى وتصوّرات مصرية، ومثروية فارسية سادت عالم الأنتيكا، وطقوس تأليه ليوليوس قيصر وأغسطس، ورواقية أفلوطينية، وإذا أريد لهذه الصروح الدينية أن تُبنى فلا بدّ أن تضرب أسسها في عصر ذلك البنّاء العظيم جستنيان.

أما السياق الإسلاميّ للراوية، فيتشابه في مضمونه، حيث يذكر ابن خلدون بأنّ القساوسة أخبروا هيلانا عن وجود الخشبة (الصليب) في مكان تغمره القمامات، لذلك دُعيت الكنيسة المشيّدة بكنيسة القمامة، ويضيف بأنّ هيلانا أمرت برفع تلك الأزبال والنفايات وإلقائها على "الصخرة" انتقاما ممّن أهان قبر المسيح (قصده اليهود)، والصخرة برأيه هي محراب سليمان، حيث شيّد عليها عبد الملك ما يُعرف بمسجد قبّة الصخرة، لكنّ المُلفت قوله "ثمّ بنوا بإزاء كنيسة القمامة بيت لحم، وهو البيت الذي ولد فيه عيسى عليه السلام" (6) والجملة بذاتها لا تقبل مجازاً، فالرجل اعتقد بأن "بيت لحم" عبارة عن بيت بجانب كنيسة القيامة، وهذا برأيي اقتراح وجيه، لا يقلّ وجاهة عن ذلك الذي سمح للمسيح أن يولد في مدينة بيت لحم الحالية.

بين النجف ويثرب:

أودّ الإشارة مبدئيا إلى طبيعة خاصة في الموروث الإسلاميّ، قامت بتأميم آباء الكتاب المقدّس، وأسلمتهم جميعا (غصبا عنهم) ثمّ تعويمهم على الجغرافيا الإسلامية، وجعل حركتهم الزمكانية تحوم في فضاء مشوّش، وكأنّهم قبيلة مقدّسة ملاصقة لزمن النبيّ محمّد.. هذا نراه في إسهال من السرديات، نموذجها ما ذكره الرحالة ابن جبير عام 579 هجري أثناء وصفه لمسجد الكوفة، حيث أخبر:

عن وجود مصلّى بجوار محراب عليّ، قيل إنه كان لإبراهيم، وفي الزاوية القبلية للمسجد، مفار التنور، الذي كان آية لنوح، وخارجه، بيت نوح الذي عاش فيه، وبيت ابنته (لم يذكر اسمها) بجوار بيت عليّ، وعلى مقدار فرسخ .. " المشهد الشهير الشأن، المنسوب لعلي بن أبي طالب،حيث بركت ناقته وهو…مسجّى ميتاً ويقال إنّ قبره فيه" (7) هذا ما نقله ابن جبير عن أشياخ الكوفة، ولا نجد سبباً لتكذيبه، فالتاريخ آنذاك لم يكن مهمّا، بقدر تكديس الرموز المقدّسة في الكوفة ومسجدها، وجعلهما مركزا لجذب الناس. مع أنّ المدينة تأسّست بُعيد الفتح العربيّ، فالوعي التاريخيّ وتسلسل الأحداث، لم يكونا ذوي شأن إلا للنخبة من مدوّني التاريخ، الذين لم يجدوا بداً إلا باستنساخ الفضاء الزمنيّ للتوراة، وهو الآخر لا يقلّ اعتباطية وأسطورية، رغم ما اتّسم به من إطار كرونولوجي مازال يتحكّم بوعي البشرية وينحت تواريخه في العقول.

لكنّ السرد الأسطوري مفيد لنعلم إيقاع ذلك الزمن.. فقصّة إبراهيم بخلاف الأسطورة التوراتية توحي بأنّها تواترت في الشرق الفارسيّ "قصّة النّار مثلا" ودين إبراهيم حسب تفسير البعض يتناغم مع الإيقاع الزردشتي للدين النقيّ. وكلّ هذه الإشارات تبرّر لشيوخ الكوفة أن يعتقدوا بما يحلو لهم. وكذلك فإنّ قصّاصي الرواية الإسلامية لم يختلفوا كثيرا عن أولئك الأشياخ، فكلّ ما جاءنا في الموروث الإسلاميّ لا يقلّ أسطرة وضمنها معظم الشهادات والعنعنات والأحداث التي نُسبت للرعيل المؤسّس..فالطبري لم يرفّ جفنه وهو ينقل روايات تقول إنّ يوحنا (النبيّ يحيى) عاش قبل موسى، وابن الأثير القريب من الأحداث (حوالي 1160م) يخبرنا أنّ الفرنجة (الصليبين) قتلوا فقط داخل المسجد الأقصى سبعين ألفا يوم احتلالهم القدس عام 1099م (بما يعادل قنبلة ناكازاكي)؟! والقصد أنّ التاريخ في زمنهم لم يكن أكثر من أدب قصصيّ، مليء بالحكايا المُلهبة للخيال، وهذا ينعكس حتما على قصة الأضرحة والمقامات التي شيّدها الإسلام.

النجف الأشرف:

من كلام ابن جبير (قيل، ويقال) نلمس تشكيكا بصحّة مرقد عليّ، لا يقلّ عن تشكيكه بمصلّى إبراهيم في مسجد الكوفة، والحقيقة أنّ مكان الروضة الحيدرية، ظلّ ومازال محطة للتراشق بين السنّة والشيعة.. دفعت البعض للاعتقاد بأنّ نعت النجف "بالأشرف" هو صيغة تفضيل على "الحرم الشريف"..وباختصار سأنقل بعض آراء الفريقين، لأنّ الروايات لا تكاد تحصى:

ـ الموقف السنيّ: مثلته رواية ابن كثير التي تقول" إنّ علياً رضي الله عنه لمّا مات صلّى عليه ابنه الحسنُ.. ودُفن بدارِ الإمارة بالكوفة خوفاً عليه من الخوارج أن ينبشوا عن جثته، هذا هو المشهور ومن قال: إنه حُمل على راحلته، فذهبت به فلا يُدرى أين ذهبت، فقد أخطأ وتكلّف ما لا علم له به، ولا يسيغهُ عقلٌ ولا شرعٌ…" وهذا الرأي يُدعمه ابن كثير باستشهادات تقول إنّ المكان هو قبر المغيرة بن شعبة؟ ولو علمت الشيعة بذلك لرشقته بالحجارة! وأيضا يستشهد بقول للواقدي، عن أنّ عليا دُفن بدار الإمارة أو بجدار في مسجد الكوفة.. وهذا ما يذهب إليه خصم الشيعة العتيد ابن تيمية.. وأهمّ آرائه قوله:

"وإِنّما اتخذوا ذلك مشهدًا في مُلك بني بويه .. بعد موت عليّ بأكثر من 300 سنة ورووا حكاية فيها أنّ الرشيد كان يأتي إلى تلك الأماكن وأشياء لا تقوم بها حجّة"، وفي موضع آخر يقول بأنّ حكاية قدوم الرشيد إلى ذلك المكان للاعتذار عمّا جرى بينه وبين ذريّة عليّ، ليس لها أساس، ولا علم للرشيد بذلك.

ـ الموقف الشيعيّ: أيضا يغصّ بالروايات، التي تؤكّد مكان الضريح، أهمّها ترجع لجعفر الصادق زمن الخليفة المنصور العبّاسيّ: "عن صفوان الجمال لمّا بلغنا الغريّ (النجف)…. قال الإمام الصادق (عليه السلام) لي: يا صفوان أنخ الناقة، فإنّ هذا حرم جدّي أمير المؤمنين (ع. س)، فأنختها فنزل الإمام، واغتسل وغيّر ثوبه .. فوقف الإمام الصادق (ع.س) ونظر يمنة ويسرة ثمّ أرسل دمعة، وقال: إنّا لله وإنا إليه راجعون…ثمّ قال صفوان الجمال قلت: يا سيدي! أتأذن لي أن أخبر أصحابك من أهل الكوفة فقال: نعم، وأعطاني دراهم فأصلحت القبر وبنيت فوقه كوّة".

وفي رواية أخرى للزيدية (9) "ودلّت الأخبار على أنه عليه السلام دفن أوّلاً في الرَّحبة ممّا يلي باب كندة، ثم نُقل ليلاً إلى الغرِيّ (النجف) ليخفى موضع قبره، وهذا هو السبب في اشتباه موضع قبره على كثير من العامة، ثم انضاف إليه تظافر النواصب على تقوية هذه الشبهة وادّعاؤهم أنّ موضع القبر غير معلوم، تنفيراً للناس عن الزيارة، واغتياظاً من اجتماع الناس في المشهد المقدس وعمارته.."

وخلاصة معظم الروايات الشيعية، تشير إلى أنّ القبر كان مخفيّاً، لا يعلم به سوى الخُلص من نسل عليّ وشيعته، حتى أظهره جعفر الصادق، ثم هارون الرشيد (توفي 193 هـ) الذي أمر ببناء قبّة عليه. أمّا العمارة الحالية للضريح فتعود للشاه صفي الصفوي (1047هـ) وابنه الشاه عباس (1052هـ).

وبعيدا عن السجال الدوغمائي، (ونتف اللحى) أجد أنّ الرؤية النقدية المحايدة لن تحفل بكل هذا القيل والقال.. فالروايات عن هارون الرشيد وتكريمه للمكان لا تضيف جديدا، فهارون نفسه يتهافت أمام النقد ويغدو شخصية قصصية تشبه شهريار، وعاصمته بغداد تخلو من آثار عمرانية، أو نقوش تدل عليه (باستثناء بعض المسكوكات الهزيلة)، وكذا هو حال صديقه شارلمان الذي تلقّى هداياه الثمينة (الفيل الأبيض ـ والساعة) فهو الآخر صفر اليدين، وبدون أثر حقيقيّ يدلّ عليه، ومازالت حقبته تسبّب صداعا لأوروبا، التي تقف مثلنا أمام جبل من المرّويات (وطق الحنك) بدون رصيد على الأرض. لهذا ليس من العجب العجاب أن لا يحتفظ الضريح بنقش يؤرّخ لقبّة هارون (ذات الجرّة)؟ وليس غريبا أن تضيع كلّ الشواهد، ولا نرى في النهاية إلا بناء الشاه عبّاس الصفوي؟ وقبل أن يتململ القارئ ويتذكّر معروض المتاحف والخزائن من سيوف أو رسائل ممهورة. أذكّره بـأنّ تلك الذخائر ليست سوى مزوّرات ساذجة لعصور متأخرة.

يثرب:

ربما يكون هذا الصرح، الأكثر سريّة وغموضاً على وجه الأرض، خصوصا في ظل الحكم السعودي، فأبوابه لا تفتح إلا لبعض السدنة والذوات. وأوّل أوروبي استطاع أن يزور مكّة والمدينة كان الألماني هانس فيلدH.Wild الذي وقع أسيرا بيد العثمانيين عام 1604 ثم أصبح رقيقاً، وتعلّم التركية وبيع في مصر ثمّ عاد إلى موطنه. وتعتبر رحلته للحجاز أوّل أثر أوروبي، استطاع أن يفنّد كثيرا من الشائعات الباطلة، كاعتقاد الأوروبيين بأنّ ضريح النبيّ محمد عبارة عن تابوت حديديّ، يجذبه حجر مغناطيسي، فيجعله محلّقاً في فضاء حجرة الدفن.

أما وصف المكان فقد ورد في عدد من المصادر المتأخّرة كمرآة الحرمين، لإبراهيم رفعت باشا 1325هـ أو الجواهر الثمينة في محاسن المدينة، لمحمد كبريت الحسيني (توفي 1070هـ) وفيها صورة لمسجد المدينة وحجرة الدفن، أمّا الصورة الحديثة فقد رسمها صحفيّ استطاع مشاهدة المكان (10):

"وتوجد الحجرة النبوية في الجزء الجنوبي الشرقي من مسجد الرسول، وهي محاطة بمقصورة، عبارة عن حُجرة خاصة مفصولة ..ويوجد بداخلها بناء ذو خمسة أضلاع يبلغ ارتفاعه نحو 6 أمتار بناه نور الدين زنكي ونزل بأساسه إلى منابع المياه، ثم سكب عليه الرصاص حتى لا يستطيع أحد حفره أو خرقه، وداخل البناء قبر الرسول، وقبرا أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب.. ويحيط بالحجرة النبوية أربعة أعمدة أقيمت عليها القبة الخضراء التي تميز المسجد"

رغم أنّ هذا التوصيف لا يعني شيئا من وجهة نظر نقدية إلا أنّه يمنح إطلالة على تطوّر البناء في عصر زنكي، إضافة إلى المقصورة الخشبية التي بناها الظاهر بيبرس (668هـ) والقبة الخضراء التي شيّدها السلطان قلاوون (678هـ)..

لكنّ المشكلة الجوهرية تكمن في الثغرات الكبيرة والتناقضات والأسطرة، التي حفل بها السرد التاريخي للسير والمرويات، خصوصا تلك التي رافقت مرض محمد ووفاته ودفنه:

والتي بدأت بخطبة الوداع المعروفة (اليوم أتممت..) وما نُقل عن بكاء أبي بكر، الذي شعر باقتراب منيّة محمد، ثم مرضه ببيت ميمونة وطلب انتقاله لبيت عائشة؟ وانشغال السير بقصص مؤسطرة حول غسله (للالتفاف على مشكلة العوْرة) أو سرد حواريته الأسطورية مع ملك الموت، الذي حضر مستأذنا للقيام بالواجب، مخيّرا إياه بين حياة أبدية مع خزائن الدنيا وبين ملاقاة وجه ربّه. والملفت هو إهمال لحظة دفنه، والانشغال بالسقيفة، أو صمت المرويات وتبرريها لمكان الدفن في حجرة عائشة، بمقولة: "كل نبيّ يُدفن حيث يموت".. كل هذا وغيره يعكس نزاعات وأفكار قصدها تهيئة القارئ (السامع) لتلقّي صورة مستقبلية عن تشكّل الأوضاع السياسية ـ الدوغمائية في القرن الثالث هجري، أي أنّها روايات تبرمج ضمنا صورة سجال مذهبيّ لاحق لتمهّد السبل أمام تيّار رُمز له بأبي بكر وعمر، الذيْن سمح لهما أن يُدفنا في نفس الحجرة، بينما تُرك عثمان يُشيّع ليلا (أو خلسة) إلى مقبرة البقيع، سيما وأنّ الراوي ترك عائشة تقول: اقتلوا نعثلة (عثمان) وهذا يعني ضمناً حرمانه من الدفن في تلك الحجرة.. وهذا حصل أيضاًً مع خصمها عليّ، الذي تُرك يموت غيلة في الكوفة.

كذلك فإنّ طبيعة المكان ووجود المسجد وسط بيوت محمد وزوجاته وبيوت عمر وعلي وأبي بكر، ووجود منافذ لها على المسجد (تمّ إغلاقها بعد وفاة النبيّ، باستثناء باب أبي بكر!! مع بقاء باب عليّ موارباً ؟!) إضافة لوجود مساجد أخرى عاصرته في المدينة كـ(مسجد قباء، والقبلتين..إلخ). كلّ هذا يعكس طبيعة المدينة الإسلامية في عصور لاحقة، ولا علاقة له بإسلام قيد الإنشاء.. لذا فإنّ دراسة مفصلية حول هذا الموضوع، تحتاج مبدئيا لوجود أركيولوجيا إسلامية تتجاوز مفهوم التابو والمقدّس، وتكسر الأقفال، لتُفْرج عمّا اكتنزته تلك الأماكن من وثائق ونقوش عاصرت الأحداث المبكّرة، ومن السذاجة الاكتفاء بأساطير نقلها الرواة من قبيل أنّ سليمان (النبيّ) أخبر محمّدا بأنّه سيلاقي ربّه في حجرة عائشة؟!

لا شكّ بأنّ هذه الأضرحة قد تعرّضت للغزو والنهب وفعل الزمن، لكن لا بدّ أن تحتفظ بشواهد أو نقوش وعملات وهدايا تؤرخ لها. وختاماً لا أدري أيّهما أكثر بلاغة وفصاحة: تاريخ نُقش على الأحجار، أم آخر نسجته الأشعار؟

الهوامش:

1ـ David und Salamo I. Finkelstein, N. Silbermann , C.H.Beck 2006 S. 234

2ـ نفس المصدر ص.237ـ 238

3ـ أصل الرواية ورد في أعمال آباء الكنيسة مثل Eusubius, Vita Constantinus (قرن3) : أيسوب القيصري: سيرة قسطنطين

4ـ يُنسب للحاكم بأمر الله الفاطمي أيضا تدمير دير كاترين في سيناء

5ـ حيث يُحفظ المنديل الذي استخدم في مسح عرق المسيح أثناء الصلب، ويعتبر هذا المنديل من أهم ذخائر المسيحية.

6ـمقدمة ابن خلدون ص393ـ392 طبعة دار الجيل

7ـرحلة ابن جبير ص. 176ـ 177 دار المعارف

8ـ انظر بهذا الصدد ابن كثير، البداية والنهاية 7مجلد: 342 وكذلك فتاوى ابن تيمية: 4/502

9ـ المراجع الشيعية التي تعرّضت للحادثة عديدة أهمّها شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، والإفادة في تاريخ الأئمّة السادة، وإرشاد القلوب، لأبي محمد حسنُ الديلمي الشيعي (توفي 760 هـ)

http://www.alarabiya.net/Articles/2

*عبادة الإلهة الإغريقية "الأمّ الكبرى" Kybele استمرّت حتى الأنتيكا المتأخّرة، وتمّ تحريمها حسب المصادر الرسمية، في المؤتمر الكنسي في أفسس عام 431م، والملاحظ أنّ هذا المؤتمر قد اعترف بماريا (مريم) والدة للإله يسوع.. والمعروف أنّ عبادة الإلهة Kybele انتشرت في عموم العالم القديم وارتبط في الأناضول " بحجر نيزكي "ومن غريب الصدف أن يتشابه إسمها مع "القبْلة" الإسلامية، التي نرجعها لسانيا لـ أقّبَل/ يمّم وجهه.. وشخصيا أجد أنّ تسميَة "القبلة" مع وجود عبادة مادونات (آلهات) حول الكعبة، قد تكون متأثرة بعبادة الإلهة "كيبله"