نقلت مصادر أعلامية لبنانية عن رئيس تحرير الآداب ,سماح ادريس أن سبب منع توزيع عدد مجلة الآداب البيروتية في سوريا هو بحثٌ نقدي للكاتب د.حسّان عباس بعنوان "حكايات ضدّ النسيان: قراءةٌ في بعض النتاج الروائي المعاصر في سوريا". واعتبر ادريس ان تلك الخطوة الرقابيّة عبثيّة. وقال لصحيفة الاخبار اللبنانية : "نحن مجلة وطنيّة، قوميّة عربيّة ومعارضة لـ «14 آذار»، وللعنصريّة ضدّ العمال السوريين، وكنّا دائماً حلفاء لسورية وشعبها"، مضيفاً: يبدو أنّ مواقف «الآداب» لم يشفع لها أمام مقصّ الرقيب وتضامنا مع المجلة الممنوعة وسعياللخلاص نهائيا من ظاهرة الرقيب في عصر لا تجدي فيه الرقابة أما المقال المقصود فنورده هنا:
حكايات ضد النسيان:
قراءة في بعض النتاج الروائيّ المعاصر في سورية (2)
حسـّان عبـّاس
للحكايات سحرُها الغاوي. وربما كانت جملةُ "كان يا ما كان،" فاتحةُ الحكاية، أقوى تعويذةٍ سحريّةٍ تستحوذ على وعي المستمع، وتُدخِله إلى فضاء الحكاية المنفتح كفقاعة على محور الزمن، ليتيه في تلافيف ذاك الفضاء، وينسى زمنَه المعيش، ريثما تصل الحكايةُ إلى قفلها الخاتم. (3)
يَعرِف الحُكاة أن جُبّ الحكاية يأسر مَن يقع فيه ويلهيه عن الواقع الذي يعيشه، ولذا فهم لا يتوانوْن عن توظيف الحكاية ترياقًا للنسيان. هذا ما تفعله الأمّهاتُ والجدّاتُ حين يحكين للأطفال لينسوْا خوفَهم من ظلمة الليل وليدخلوا بسلام وطمأنينة إلى النوم وأحلامه. وهذا ما يفعله الحكواتيّون في مقاهي أيّام زمان أمام مستمعين أنهكتهم متاعبُ الحياة، فاحتاجوا إلى فسحة مسائيّة يسلون فيها عن شقائهم وهمومهم. وهذا ما يفعله التلفزيونُ أيضًا، ذاك الحكواتيُّ المعاصرُ الذي بقيتْ وظيفتُه الرئيسةُ تسليةَ المشاهدين، رغم تغيّر منحى علاقة السلطة بينه وبين المشاهد. وما التسلية، في أيّة حال، سوى شكلٍ من أشكال التنسية.
وتمارس الحكاية هذا الدور في الأدب أيضًا. وحسبُنا أن نذْكر شهرزاد التي تمثّل حكاياتُها أنموذجًا لطاقة الحكاية على خلق غواية النسيان: فهي تحكيها أولاً لتنسّي شهريار الفعلَ الشائنَ الذي دفعه إلى البحث عن الانتقام من النساء؛ وتحكيها ثانيًا لتحاول أن تنسّيه وعدَه بقتلها عند الصباح؛ وتحكيها ثالثاً لتنسي نفسَها أنّ هذه الليلة، بل كلّ ليلة، هي ليلتها الأخيرة التي ستنتهي بها رقمًا في سجلّ قتيلات العاشق المجنون.
* * *
لكنْ، يمكن أن تكون للحكايات وظيفةٌ أخرى، نقيضٌ، تحفِّّز ذاكرةَ القارئ وتمنعه من النسيان. وفي الأدب السوريّ الجديد الكثيرُ من هذا النوع الكتابيّ، حتى ليمكننا القولُ إنه الأكثرُ حضورًا في الرواية في السنوات العشر الأخيرة، وبخاصّةٍ في الرواية النسائيّة، وكأنّ الروائيّات السوريّات يجتهدن لتغيير الصورة المهيمنة لشهرزاد. (4)
تتعرّف "الكتابةُ ضدّ النسيان،" قبل كلّ شيء، بالرغبة في استحضار تاريخٍ تريد سلطةٌ ما ـ أأدبيّةً أمْ معرفيّةً أمْ سياسيّةً ـ أن تغيّبه أو أن ترغِم على صياغته ضمن منظورها الخاصّ، مستخدمةً الأدواتِ التي يمنحها لها موقعُها المهيمن. وتتلخّص آليّاتُ فعل هذه الأدوات في شكلين من أشكال التدخّل هما: إكسابُ الوعي المندمج، ويتمّ هذا عبر الأدوات المتاحة للسلطة، وأهمُّها على الإطلاق التربيةُ والإعلام؛ ومنعُ الوعي المضادّ، وهو ما يتمّ عبر سلسلة من الإجراءات تبدأ بفرض الرقابة بمختلف أشكالها، وتنتهي بالسجن، وربما بالتصفية.
يمْكننا الادّعاء أنّ الميل عن حكايةٍ تتطلّع إلى التنسية، نحو حكايةٍ مضادّةٍ تتقصّد معاندةَ النسيان، يَنتج عن فعلٍ إرادويٍّ وقصديٍّ للكاتب؛ فعلٍ يندرج في سياق موقفٍ عامٍّ لا ينحصر في حدود الأدب والكتابة، وإنْ تمظهر داخل حدودهما. أيْ إنّ هذا النوع من الكتابة يبدو مندرجًا في نشاطٍ أوسعَ للكاتب: نشاطٍ يضع الأديبَ في صورة المثقف الفاعل في "الشأن العامّ،" هي صورةُ المثقف المقاوم.
وممّا يعزِّز هذا الادّعاءَ أمران: أولهما أننا نصادف أسماءَ الأدباء الذين يقْدِمون على الكتابة ضدّ النسيان في فعاليّاتٍ ثقافيّةٍ واجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ (منتديات، بيانات، اعتصامات...) تندرج في سياق النشاط المدنيّ الذي يناهض هيمنةَ الحزب الواحد والرؤية الأحاديّة ويطالب بالإصلاح والانفتاح. وثانيهما أنّ الكتابات المندرجة في هذه الفئة قد عانتِ الرقابةَ بمختلف أشكالها: فمن رقابةٍ تمنع عملاً من النشر داخل البلاد، إلى ملاحقةٍ تسْحبه من التداول بعد عبوره حواجزَ الرقابة (قصر المطر لممدوح عزام مثلاً)، إلى رقابةٍ ثالثةٍ تمنعه من التداول في حالِ نشرِه خارج البلاد (القوقعة لمصطفى خليفة مثلاً)
يمْكننا القولُ إنّ النماذج الأقدم لهذه الكتابة وُلدتْ في السياسة ولم تأتِ من الأدب، وذلك نظرًا لكونها جاءت على قلم ناشطاتٍ سياسيّاتٍ لم يسبقْ لهنّ أن نشرن تجاربَ أدبيّةً معروفةً لكنهنّ أردن الكشفَ عن جانبٍ خفيّ من العنف السلطويّ الممارَسِ في السجن السياسيّ. النموذج الأول كان كتاب خمس دقائق وحسب (5) لصاحبته هبة الدبّاغ. في هذا العمل، الذي يفتقر إلى الكثير من الشروط الأدبيّة التي تسمح بتصنيفه روايةً أو قصةً، تحكي الكاتبةُ حكايةَ سجنها تسعَ سنواتٍ رهينةً عن أخيها "الناشط سياسيّاً" والمطلوبِ على لوائح المنتمين إلى حركة الإخوان المسلمين.
العمل يشكو من ضعفٍ أدبيّ واضح، وقد جاء على شكل لقطات لذكرياتٍ مسترجَعةٍ وضّبتْها الكاتبةُ حسب التسلسل الحقيقيّ لزمن وقوع أحداثها. ولا يحقّ لنا لومُ الكاتبة على ذلك الضعف؛ فهي لا تدّعي صناعةَ الأدب، بدليل أنّ الكتاب لا يحمل اسمَ جنس أدبيّ ينتمي إليه، بل إنّ غايتها من العمل تعلن عنها صراحةً في المقدّمة التي وضعتْها له حيث تقول: "لكنني أرى واجبَ الحديث عن مظالم النظام وانتهاكات الحقوق ألحَّ وأجلَّ.. وضرورة توثيق هذه المرحلة أمانة ملزمة.. يَهُون أن نبذلَ في سبيلها بعضَ العنت والتكدّر حتى لا يضيع الكثيرُ الذي بذلناه والكرب الجلل والعذاب الشنيع الذي نلناه..."(6) إنها، إذن، الرغبةُ في قصّ حكايةٍ للناس لكي لا ينسوْا ما جرى في مرحلةٍ كئيبةٍ من حياة الوطن.
بعد أقلّ من سنة على نشر الكتاب السابق صدرتْ (في بيروت على الأرجح)، وبشكلٍ مستقلّ، أو أنّ الناشر آثر عدمَ وضع اسم داره، روايةُ الشرنقة لصاحبتها حسيبة عبد الرحمن. تأتي كاتبةُ الرواية من أفق سياسيّ مناقضٍ تمامًا لذاك الذي جاءت منه هبة الدبّاغ: فعبد الرحمن عضوٌ في حزب العمل الشيوعيّ الذي لم يَشفعْ له امتناعُه عن ممارسة العنف من معاناة عنف السلطة. ولئن كان هذا العملُ يختلف عن السابق في تجنّبه السقوطَ في مطبّ الكراهية الساكنة، ويتفوّق عليه بجدارةٍ في سعيه إلى بلوغ عتبة الإبداع الأدبيّ، فإنه يلتقي معه في موضوعه (واقع سجن النساء السياسيّ)، وفي غايته من سرد حكايةٍ مغايرةٍ للحكاية السائدة التي يَعْرفها القاصي والداني: "أخطأتِ يا أمّي عندما قصصتِ حكايةَ الغولة. كنتِ تقولين: إنّ الغولة غيّرتْ شكلَها وأصبحتْ كعنزة العنوزيّة اللي قرونها حديديّة..."(7) وتأخذ الراوية على عاتقها سردَ الرواية الأخرى التي يجب ألاّ تُنسى، رواية "الأولاد الذين أمضوْا زمنًا في جوف الغولة..."
والحقّ أنّ حكاية هؤلاء "الأولاد" ليست شهادةً على عالم السجن فحسب، بل رصدٌ حزينٌ لسيرورة تصدّع الشخصيّة الإنسانيّة أيضًا. وممّا يُسجّل لصالح هذه الرواية اعتمادُها أسلوبًا في الكتابة يتماشى مع الحكاية المرويّة: فهو أسلوبٌ قائمٌ على تهتّك النصّ وتشظّي الكتابة، كتعبيرٍ فنّيّ ناجحٍ عن تفتت الشخصيّات وتفكّك العالم.
لم يتوقّفْ ظهورُ الأعمال الأدبيّة السوريّة التي يمكن أن نصنّفها ضمن فئة "أدب السجون." فهناك قصصُ إبراهيم صموئيل، وبخاصّةٍ في مجموعته المعنونة النحنحات.(8) وهناك قصصُ غسان الجباعي المتضمّنة في مجموعته أصابع الموز.(9) وهناك عمل مالك داغستاني دُوار الحريّة،(10) الذي يصنّفه ناشرُه روايةً، في حين يسجِّل كاتبُه أنه "لعبة." وهناك كتابُ لؤي حسين، الفقد،(11) الذي يعلن كاتبُه منذ صفحاته الأولى، وبمجازٍ لا يخفي دلالته، رغبتَه في كتابة حكايةٍ ضدّ النسيان. وهناك شهادة الشاعر فرج بيرقدار النثريّة، خياناتُ اللغة والصمت.(12) وهناك أخيرًا روايةُ مصطفى خليفة، القوقعة: يوميّاتُ متلصِّص،(13) التي رصدتْ مدى اللاعقلانيّة و"الحيْوَنة" في ممارسة القمع من خلال حكاياتٍ حدثتْ حقيقةً لكنها ـ لعبثيّتها ـ جديرةٌ بحكايات الغرائب والخرافات.
تجْمع بين كلّ هذه الأعمال رغبةُ كتّابها في التذكير بالسجن السياسيّ الذي كان خلال فترة طويلة، ولا يزال إلى حدٍّ ما، حقيقةً مؤلمةً من حقائق عيش شريحةٍ من الناس، هي شريحةُ الأفراد العاملين في السياسة وفي الشأن العامّ في سورية، ولكنها حقيقةٌ مسكوتٌ عنها في أدبيّات الأجهزة المندرجة في بنية السلطة. وهناك حقائقُ أخرى مسكوتٌ عنها، ولا تخصّ الأفرادََ فحسب بل مجمل الناس في المجتمع، وتعود إلى فترة من التاريخ عمل ـ ولا يزال يعمل ـ البعضُ على طمسها أو حرمانها من التأريخ حتى ينساها الناسُ: إنها حقائقُ العنف المتبادل بين السلطة والتشدّد الإسلاميّ، ذاك العنف الذي يتوارى اسمُه اليوم خلف مصطلح "الأحداث،" وقد اكتوى المجتمعُ بنيرانه خلال ما يقْرب من عقدٍ من الزمن، ولا تزال بعضُ آثاره تخنق النفوسَ حتى اليوم.
يعود بعضُ الأدباء السوريين المعاصرين إلى تلك الفترة لينتشلوا حكاياتها من عتمة النسيان. ولعلّ أولَ مَن فعل ذلك الأديبُ المخضرم وليد إخلاصي الذي جعل من "الأحداث" إطارًا خجولاً لروايته زهرة الصندل.(14). أما منهل السراج فقد كرّستْ روايتَها، كما ينبغي لنهر،(15) لسرد حكايات زمان الموت في مدينةٍ بلا اسم. لكنّ الكاتبة تنثر على امتداد الحكاية قرائنَ عديدةً ومتنوّعةً تجعل القارئَ العاديَّ لا يحتاج إلى كثيرٍ من النباهة لمعرفة مدينة حماة ولتعيين الزمان الحقيقيّ للحكاية. وفي روايتها الثانية، جورة حوّا،(16) التي تأخذ عنوانَها من اسم حيّ شهيرٍ من المدينة ذاتِها، لا تظهر الأحداثُ إلا في خلفيّة الحكاية، لا إطارًا لها بل تبريرًا لبعض السمات الأساسيّة المميّزة لحال المدينة وللشخصيّات. إنها حكايةُ تذكيرٍ بامتياز، تذكيرٍ بأنّ ما هو قائمٌ الآن ليس قدرًا لا تفسيرَ له وإنما هو نتيجةٌ لأحداثٍ لا تزال آثارُها ماثلةً لمن يريد أن يعرف.
في عام 2006 صدرتْ رواية مديح الكراهية (17) للروائيّ خالد خليفة. وهي تتميّز بصراحتها في تسمية الشخصيات والمكان، وفي تعيين الزمان. كما تتميّز باعتمادها أسلوبًا خاصّاً في الكتابة يقوم على تقنية "العربسة،" المشتقّة من تقنية الزخرفة العربيّة الإسلاميّة، حيث تنسلُّ الخيوطُ الفرعيّةُ من الخيوط الأساسيّة، لتصبح أساسيّةً بدورها، وهكذا دواليْك. يَستخدم خليفة هذه التقنية بمهارةٍ تجعل القارئَ يلْهث وراء السرد ليعيش، من خلال القراءة، حالةَ التوجّس والترقّب والقلق الدائم التي عرفها كلُّ مَن عاش زمنَ "الأحداث."
ومن بين الأعمال الأدبيّة التي يمكن إدراجُها ضمن "الكتابة ضدّ النسيان" تجدر الإشارةُ إلى بعض الأعمال التي تجد مادّتَها في التاريخ القريب، أيْ في فترة "الأحداث" وما بعدها. ثمّة مثلاً روايتا سمر يزبك، طفلة السماء (18) وصلصال،(19) المسكونتان بهاجس الكشف عن علاقات التجاذب والتنافر القائمة بين عنف الثقافة الدينيّة وعنف السلطة الأمنيّة. وهناك رواية أبنوس (20) للروائيّة روزا ياسين حسن التي تطوف فيها على قرنٍ كاملٍ من الزمان لتحكي حكايةَ خمسة أجيال من النساء في عائلة واحدة. ولا ننسى أيضًا روايتيْ فوّاز حدّاد، مشهد عابر (21) والمترجم الخائن،(22) وغيرها وغيرها.
***
إنّ من حقّنا التساؤلَ عمّا جعل "الكتابةَ ضدّ النسيان" تطغى على كلّ أجناس الكتابة الأخرى في الأدب السوريّ المعاصر. وأعتقد أنّ الإجابة البدهيّة على ذلك هي خطورةُ تاريخنا، ورغبةُ الأدباء في تذكيرنا بأننا قد صنعنا ذلك التاريخَ بأيدينا... عسانا نعتبر، فلا نعيد الكرّة!
ثمة طقسٌ يمارَس في الأديرة البوذيّة، وهو أنه كلّما ارتكب راهبٌ خطيئةً وجب أن يكفِّر عنها بكتابة تعاليم بوذا على جدران المعبد؛ وكلّما كانت الخطيئةُ أكبرَ زاد حجمُ التعاليم المفروضة كتابتُها. وهكذا تبقى الخطيئةُ ماثلةً أمام نظر الرهبان، فلا يعودون إليها.