آخر الأخبار

زينب التاريخ والزبّاء الأسطورة

أكثر الناس الذين ألاقيهم، وبعض الأدباء والعلماء قانعون بأن قصة زينب ملكة تدمر هي قصة الزباء المنتقمة . ولم يكن ذلك مستهجناً في قديم الزمن حين كانت النصوص التدمرية المنقوشة مجهولة وكذلك المسكوكات والمصادر المكتوبة، وحين كان الاعتماد على الرواية الشفهية المنقولة التي تبدأ بشكل وتتطور بأشكال شتى، حتى تصبح القصة التاريخية أسطورة شيقة لا تمت إلى الأصل إلا بصلات واهية.

الأسطورة جعلت من الملكة زينب، التي هي زوجة الملك التدمري أذينة وأم ولي عهده وهب اللات والوصية عليه، شخصية جديدة غيّبت، في وقت ما، كل معالم الشخصية الأولى، فلم يبق منها إلا مكانها وهو تدمر، واسم الزباء المحرّف عن بت زبّايْ الذي هو اسم الملكة زينب في النصوص التدمرية.

إن الزمن الموضوع لأسطورة الزبّاء المنتقمة مقارب لزمن زينب ( 267ـ272م) وذلك بالمقارنة مع الأزمنة المفترضة لبعض أبطال الأسطورة، مثل جذيمة الأبرش وعمرو بن عدي. وذلك أمر بديهي، لأن الملكة الأسطورة هي ظل للملكة الحقيقية مسقط على أحداث قبلية قديمة يُرجّح حالياً أنها جرت خلال أواخر القرن الثالث أو مطلع القرن الرابع الميلاديين. إن الزباء المنتقمة نُسجت حول الملكة زينب، فخلقتها من جديد محّجمة في حدود الانتقام العشائري، وفي البقعة الصغيرة نسبياً بين الحيرة وتدمر، ومختلفة تماماً عن زينب الأصل، من حيث السيرة ومعالم الشخصية ومن حيث الآفاق ومن حيث الأهداف والبداية والنهاية.

وجذيمة الأبرش أو الوضّاح هو من مشاهير ملوك العرب في جنوب العراق ومن أهل القرن الرابع الميلادي، ينسب له تأسيس الحيرة والأنبار. وإن وجود جذيمة الأبرش في شمال الولاية العربية تشهد عليه كتابة أم الجمال المحررة بالنبطية واليونانية. وهذه الكتابة تذكر مربياً لجذيمة الأبرش وقد وثّق هذا الاكتشاف نصاً آخر اكتشف قبله في موقع النمارة على قبر امرىء القيس بن عمرو بن عدي. ولقد أصبحنا نعرف بصورة صحيحة أن جذيمة هو ملك اللخميين.

ويبدو أنه حصل في مطلع القرن الثالث الميلادي عند ضعف دولة الفرثيين (البارثيين) اتحاد أو تجمع قبلي أو عشائري باسم تنوخ. ولعل القبائل المجتمعة هي من عرب الشمال وليست من اليمن. ولقد أتت هذه القبائل إلى أطراف الفرات و استقرت وتنوخّت وعملت على حماية القوافل التجارية المارة من منطقة سكناها، وأقامت علاقات مع الإمارات والدول المجاورة. ونتج عن ذلك تأسيس سلالة اللخميين في الحيرة. وقد ذكرت المصادر العربية ذلك كثيراً وخاصة الطبري. ولكن العلماء لم يكونوا يقبلون مضمونها. وهناك حالياً ربط بين التوتر الذي حدث في أواخر حكم أذينة وزينب في سورية والولاية العربية وتحرّك تجمّع تنوخ وقيام سلالة اللخميين. ويرى بوروسوك أن تنوخ برزت عدواً قوياً لتدمر. وعندما قررت زينب الثورة ضد الرومان كان عملها، في رأيه، هجوماً على جيرانها من القبائل العربية بقدر ما هو ردة عن روما. وهذا الرأي يمكن أن يكون موضع نقاش في غير هذه المناسبة.

خلاصة السيرة السياسية لزينب ملكة تدمر:
حين قتل أذينة ملك تدمر الفذ مع هيروديس ابنه الأكبر، وهو من زوجة أولى أو ثانية، في مدينة حمص وفي ظروف يكتنفها الغموض ويرى البعض أنها من تدبير زينب، ترك ثلاثة أولاد أكبرهم ابنه الصغير وهب اللات، فقامت أمه بالوصاية عليه، وبدأت بمشروعها الكبير في الاستيلاء على الشرق ثم الغرب، فضمت سورية بكاملها ومصر وآسيا الصغرى. ثم اتخذت وابنها ألقاب الأباطرة في حدود 270م.وصكّت في أنطاكية والإسكندرية نقوداً مستقلة تحمل اسمها واسم ابنها وصورتيهما. وتقاعس الإمبراطور كلوديوس عن المسير لمحاربتها. لكن الإمبراطور الجديد أورليان تقدم لحربها بجيش قوي. وكانت معركتا أنطاكية وحمص في صالح الرومان، فتحصن التدمريون مع ملكتهم في عاصمتهم وقاوموا الرومان مقاومة ضارية.

وسقطت زينب أسيرة وهي تحاول طلب النجدة من الساسانيين، فاستسلم التدمريون في خريف 272. ثم قتلوا الحامية الرومانية. وأدى ذلك إلى نهب مدينتهم الجميلة وتخريب معالمها.

ويختلف الأخباريون في نهاية هذه الملكة الشجاعة النبيلة والجميلة. وقد جاء في تاريخ الإمبراطورية الرومانية المعروف باسم التاريخ الأوغستي أن زينب أنهت حياتها بهدوء كسيدة رومانية. وإن فيلتها كانت قائمة بين قصر هادريان الشهير في بلدة تيبور (التيفولي قرب روما)، في المكان المسمى كونكه الذي كان يحمل في أيامه اسم زنوبيا . ويضيف أن أورليان قتل بعض أولادها أما الآخرون فقد ماتوا ميتة طبيعية ـ ولعله يقصد أفراد أسرتها، إذ أن أولادها لم يتجاوزوا الثلاثة (وهب اللات وتيم اللات المعروف باسم تيمولاوس وثالث قد يكون اسمه حيران) ويؤكد أنه في أيامه كان هناك بعض المتحدرين من نسل زينب بين نبلاء الرومان. على أن المؤكد وجود نصب ضخم في روما من القرن الرابع الميلادي يحمل اسم سيدة تسمى سبتيميا ونسبتها إلى أذينة.

أما فلافيوس فوبيسكوس، من القرن الرابع الميلادي، فيذكر في التاريخ الأوغستي في القسم الخاص بحياة أورليان أن زينب، بعد أن مشت في موكب نصر أورليان، الذي يسهب في وصفه، عاشت عيشة بسيطة في مكان حُدِّد لها. وقد تبعه في ذلك الكتاب المتأخرون مثل جورج لوسانسيل وزوناراس.

ويذكر زوسيموس من النصف الثاني للقرن الخامس الميلادي أن زينب مرضت في الطريق لامتناعها عن الطعام وظلت على تلك الحال إلى أن ماتت.

ويروي مالالاس أنها قتلت بعد المعركة مع أورليان. وذلك بتناقض مع خطاب أورليان الذي قال فيه إنه أبقى على حياتها لخدماتها وللاستفادة منها في التعامل مع الفرس.

أما أوتروبوس وسان جيروم فيذهبان تقريباً إلى ما ذهب إليه التاريخ الأوغستي، ويقولان أنها عاشت بعد موت أورليان وتزوجت رجلاً من مرتبة الشيوخ وأنهت أيامها في فيلا ببلدة تيبور (التيفولي قرب روما).

وفي عام 1990 زعم الطبيب الايطالي الشهير ديلفو غاليلو ماروني، الذي يملك قصراً ومزرعة في منطقة التيفولي بجوار روما، أن بقايا قصر زينب موجودة في أرضه وكذلك بقايا جسر الإمبراطور أورليان. وقد أوفدتنا السيدة وزيرة الثقافة إلى هناك لتقصي الأمر. ولدى التدقيق لم يتضح أي شيء يدل على قصر لزينب.

وفي تعريب كتاب عن حفريات منطقة اللاتزيو، من تأليف ستيفانو كابرال وفاوستو ديل ري، وفي الفصل الرابع عشر منه المسمى فيلا زنوبيا، يُذْكَر أن المركيز ابن الدوق فيديريكو تشيزي وجد قبضة باب ذهبية وإناءً فضياً قديماً في تلال فيرو في قبر إحدى بنات زنوبيا. تلك هي الحكايات المروية عن زينب الحقيقية فلننتقل إلى الأسطورة.

خلاصة الروايات عن الزبّاء الأسطورة:
في أيام جذيمة الأبرش بن مالك اللخمي، كان هناك رجل يسمى عمرو بن الظرب بن حسان بن أذينة بن السميدع بن هوبر، كما جاء في الطبري والمقدسي وابن خلدون وحمزة الأصفهاني. وقد جرت بين عمرو بن الظرب وبين جذيمة الأبرش حروب قتل فيها عمرو بن الظرب فملّك قومه مكانه ابنته الزباء ابنة عمرو. ولهذه الابنة أسماء تختلف حسب الروايات. وأبو حنيفة الدينوري من أهل القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) الذي كان أقدم من بحث موضوع الزباء بعد ابن الكلبي، يتفرد بتسميتها مارية ابنة الزباء الغسانية. وهي لديه ملكة الجزيرة ثم يروي بقية قصتها مع جذيمة. وكانت الزباء جميلة حازمة عاقلة تبغض الرجال (في هذه الصفة تلتقي بزينب الملكة) وتحسن فن الحرب. فعزمت على الثأر من قاتل أبيها ودعت جذيمة إلى قصرها، فنصحه قصير بن سعد بعدم الثقة بدعوتها. لكن جذيمة لم يبال بالنصيحة وأتى لزيارة الزباء فقبضت عليه وقطعت راهشيه فهلك نزفاً. صمم عمرو بن عدي، ابن أخت جذيمة الأبرش وخليفته، على الثأر من الزباء التي كانت أمنع من عقاب الجو، فاحتال الداهية قصير بن سعد، من حاشية جذيمة ومن رجال عمرو بن عدي، بجدع أنفه وقطع أذنيه، وقصد الزباء شاكياً باكياً زاعماً أن عدوها عمرو بن عدي فعل به هذه الأفعال. فأمنته فاحتال بإدخال جنود عمرو بن عدي في جوالق محمولة على الجمال واحتلوا مدينتها. ووصل إليها عمرو بن عدي فمصت السم الذي تحتفظ به في خاتم من خواتمها قائلة بيدي لا بيد ابن عدي . وتخللت هذه القصة الأسطورة أمثلة موضوعة وشعر. وقد أورد المؤرخون والأخباريون والكتاب العرب كالطبري وابن خلدون وحمزة الأصفهاني والمسعودي وغيرهم أسطورة الزبّاء وقد جمع كوسان دوبرسفال كل ما أورده مؤرخو العرب عن أسطورة الزبّاء.

نقاط التباين بين سيرتي زينب الملكة والزباء الأسطورة:
زينب: متزوجة، الزباء: عزباء.
زينب: ابنة زباي (زنوبيا في اليونانية واللاتينية)، الزباء: ابنة عمرو بن الظرب (فارعة، نيلة، نائلة، ليلى، ميسون...)
زينب: لم يكن أبوها ملكاً، الزباء: كان أبوها ملكاً على الجزيرة وأعمال الفرات ومشارف الشام ويزعم الميداني في مجمع الأمثال أنها ولدت في باجرمي، كما زعم القزويني وابن قتيبة أنها ابنة ملك العراق.
زينب: ليس لها أخت، الزباء: لها أخت اسمها زينب.
زينب: تتكلم عدداً من اللغات، الزباء: تتكلم العربية فقط وتضرب بها الأمثال وتقول الشعر رغم أن البعض يجعلها رومية (..)
زينب: جيوشها احتلت سورية كلها ومصر والأناضول، الزباء: لم تحارب وظلت في حدود تحركات العشائر شمال الجزيرة العربية وجنوب سورية والعراق.
زينب: خصمها الأساسي الإمبراطور الروماني أورليان، الزباء: خصمها جذيمة الأبرش ومن بعده عمرو بن عدي.
زينب: أُسرت وهي في طريقها لطلب نجدة الفرس خلا حصار تدمر، الزباء: انتحرت بالسم.

عدنان البني

الحوليات الأثرية العربية السورية