مع ظهور الأوروبيين في القارة الأمريكية كان سكانها الأصليون قد قطعوا طريقاً طويلة من التطور التاريخي.
قدم الإنسان إلى أمريكا من آسيا الشمالية الشرقية عبر مضيق البيرينغ قبل 15 إلى 20 ألف عام. كانوا أقواماً صغيرة رُحَّلاً من الصيادين، تبعوا الوحوش المتقهقرة نحو الشمال بسبب من تغير المناخ. حدثت، في وقت لاحق، وبعد أن اختفى جسر البيرينغ كما يفترض بعض الباحثين كما قامت، اتصالات عرضية عبر المحيط الهادئ أيضاً.
انتسب سكان القارة الأمريكية الأوائل من حيث مستوى تطور الثقافة إلى عصر الميزوليت(1). تعود أبكر الآثار الدالة على وجودهم في القارة الأمريكية إلى الحقبة الممتدة بين الألفين الثاني عشر والعاشر قبل الميلاد (أراضي المكسيك وكولومبيا وفنزويلا وغواتيمالا وساحل البيرو وتشيلي الجنوبية). انتشر السكان الأقدمون تدريجياً في مناطق أخرى أيضاً (الهندوراس وكوستا ريكا والإكوادور وغيرها). في الألف السابع قبل الميلاد، وبسبب من ارتفاع حرارة الطقس، وتغير المجموعات النباتية والحيوانية المميزة لذلك العصر تراجع دور الصيد، وانتقل قاطنو أمريكا إلى الجمع والالتقاط، ثم إلى الزراعة مع حلول الألف الخامس ق.م، ثم بدأت صناعة الفخار نحو منتصف الألف الثالث ق.م، ونشأت التجمعات السكنية الدائمة المعتمدة على الزراعة.
برز على مساحة أمريكا اللاتينية مع حلول هذه المدّة عدة مناطق تاريخية جغرافية: ما بين الأمريكيتين، وما تسمى الوسيطة،و حول الكاريبية، ومنطقة السهول والجبال الأمريكية الجنوبية والمنطقة الأنديّة. حدث التطور في الأولى والأخيرة نتيجة الحضارات القديمة، أما في المناطق الأخرى فقطنت قبائل ذات اقتصاد متخصص بالصيد والزراعة المبكرة مختلط مع بقايا حقبة الجمع والالتقاط. الجدير بالذكر هو أن تطور شعوب أمريكا القديمة الاجتماعي والاقتصادي والثقافي كان مستقلاً، ولم تتكلل بالنجاح محاولات بعض الباحثين ربط «السبب الأول» في التقدم الثقافي لهذه الشعوب بالقادمين من العالم القديم.
ما بين الأمريكيتين (الميسوأمريكا)
مرت الحدود الشمالية لمنطقة ما بين الأمريكيتين على امتداد القسم الشمالي للمكسيك المعاصرة، أما الحدود الجنوبية فشملت غواتيمالا وبيليسّه وقسماً من الهندوراس والسلفادور وكوستاريكا. سكنت هذه المنطقة (وفاقاً للمؤشرات الإنثروبولوجية واللغوية) مجموعات إثنية مختلفة، حققت كل منها في حقبة معينة كليةَ ثقافية كبيرة، مانحة بذلك طابعاً مميزاً للمنطقة التي قطنتها.
يمكننا، بغض النظر عن هذا، الحديث عن وجود تقاليد ثقافية موحدة في منطقة ما بين الأمريكيتين، تتجلى في وحدة الملامح الأساسية الثقافية.
يقسم عادة تاريخ ما بين الأمريكيتين، استناداً إلى تصنيف المادة الأثرية، إلى ثلاث مراحل أساسية: ما قبل الكلاسيكية (من القرن العشرين ق.م حتى القرن الأول) والكلاسيكية (من القرن الأول الميلادي حتى القرن التاسع) وما بعد الكلاسيكية (من القرن التاسع حتى القرن السادس عشر).
بدأت منذ القرن الخامس عشر وحتى القرن الثاني عشر قبل الميلاد عملية فرز طبقي نشط بين القبائل القاطنة في ما بين الأمريكيتين. وينبغي البحث عن أسباب هذا الفرز في تطور الزراعة الشديد والتبادل ما بين القبائل. ويظهر أن أول من خطا على طريق التطور الطبقي هم الأولميك على ساحل خليج المكسيك، وقاطنو أواخاكا، وبعدهم بمدة وجيزة سكان وادي ميخيكو، ومركز منطقة غواتيمالا الجبلية وساحل السلفادور. وتبدو العلامات الثقافية المميزة لهذه المرحلة، خلافاً لسابقاتها، ظهور العمارة الضخمة، والنحت، والعبادة الوليدة للأعمدة الحجرية المشيدة خلال فواصل زمنية معينة، وزراعة الكاكاو، ووضع التقويم والكتابة الهيروغليفية، وبناء مجمع راسخ من الرموز والأنماط الدينية التشكيلية، التي صارت في ما بعد ترسانة الدين والفن، وظهور طقس اللعب بالكرة مع الأضاحي الإنسانية، واستخدام الكاوتشوك في الطقوس، وظهور الورق، والمجتمعات الحربية «المحاربون ـ النسور» و«المحاربون ـ النمور الأمريكيون»، وغيرهما. وتعود إلى ذلك الوقت كذلك الصلات الثقافية الحيوية بين منطقة ما بين الأمريكيتين والمنطقة الأنديَّة.
تتسم المرحلة اللاحقة (من القرن الأول الميلادي وحتى التاسع) بظهور دول العبودية المبكرة وتطورها، مع ما تكوّن فيها من علاقات طبقية. وقد شكلت زراعة القطع والحرق(2) (في مناطق الزراعة المروية) وزراعة الأشجار المثمرة والصيد، الأساسَ المادي لهذه الدولة. ومع ذلك تظل الطبقة المنتجة الأساسية مكونة من أفراد المشاعة، ودور العمل العبودي في الإنتاج صغير إلى أقصى حد، وَنَمَتْ هنا علاقات اجتماعية مساوية من حيث المرحلة لعهود السلالات الأولى في مصر القديمة أو سومر. لقد صنعت الأدوات كلها من الحجر والعظام والخشب، وأحياناً من الأصداف.
تكونت في هذه المرحلة على الهضبة المكسيكية الوسطى دول المدن الضخمة: تيوتيواكان وتشولولا وشوتشيكالكو، وفي القسم الجنوبي من المكسيك: مونت ألبان ونيوينيه، وعلى ساحل الخليج المكسيكي: تريس سابوتيس وتاخين، وفي تشياباس وعلى ساحل المحيط الهادي في غواتيمالا: تشيابا ديل كورسو وإيسابا وبيلباو، وفي غواتيمالا الجبلية: كامينالخويو، وتطورت في سهول غواتيمالا والمكسيك وعلى شبه جزيرة يوكاتان ثقافة المايا الرائعة بمدنها تيكال وميرادور وكيريغوا وإياشخا وبيدراس نيغراس وإياشتشيلان وتسيبيلتشالتون، وفي هندوراس: كوبان، وفي بيليز: ألتون ها، وفي السلفادور: تشالتشوابا وغيرها. شغل الكثير من هذه المدن مساحة تقدر بعشرات الكيلو مترات المربعة، وحكمتها سلالات من الحكام أقيمت في ما بينها اتحادات وعقدت الزيجات ونشبت الحروب، وتكونت في الوقت نفسه شبكة تجارية متشعبة بين المناطق الجغرافية المختلفة.
تطورت في المرحلة الكلاسيكية تطوراً كبيراً المعارف في الطب، وتقنيات البناء، وعلم الزلازل، والرياضيات، وفي علم الفلك، والأرصاد الجوية، والجغرافيا، والتاريخ، وكانت هذه المعارف في العديد من الأحوال لا تزال مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمتطلبات ممارسة العبادة. كما انتشرت في هذه المرحلة انتشاراً واسعاً الكتابة الهيروغليفية.
صار الفن أداة النضال الاجتماعي، وبدأ يؤدي دوراً نشطاً غير عادي، وعكست آثار الصروح الضخمة ابتداءً من هذا التاريخ إلى هذا الحد أو ذاك معتقدات الأوساط المتسيدة ـ الوجهاء والكهنة.
لا تزال الآثار المعمارية الهائلة من المرحلة الكلاسيكية ـ المعابد والقصور ـ تذهل الناظر إلى الآن بأحجامها وبجمال تناسباتها وبزينتها الفخمة. شيدت المعابد على الأهرامات ذات الأدراج، التي تصل أحياناً إلى ارتفاعات كبيرة. فيبلغ هرم الشمس في تيوتيواكان من العلو 72 متراً، ولا يقل عنه المعبد الرابع الشبيه بالبرج في تيكالا. ويفوق الهرم الذي شيد عليه مجمع معابد تشولولا في حجمه هرم خوفو الشهير في مصر. كان أغلب القصور من طبقة واحدة، لكنها كانت كثيرة الغرف. وكانت جدران تلك القصور والمعابد زاخرة بزينة من التصاوير والزخارف ذات المواضيع الدينية والتاريخية، وأهم اللوحات الجدارية هي التي ظلت في أبنية تيوتيواكان وتشولولا وتاخين وإياغول ومونت ألبان وبنامباك. اكتسب قاطنو ما بين الأمريكيتين مهارة كبيرة في نحت التماثيل الهائلة وفي نحت التماثيل الصغيرة أيضاً، إذ تصنف تماثيل شعوب غرب المكسيك الفخارية ومصنوعات شعوب الأولميك والسابوتيك والمايا من حجر اليشب من بين أفضل أنموذجات الفن العالمي. تدل الزخارف المنقوشة على أواني المايا والتيوتيواكانيين على أن شعوب ما بين الأمريكيتين قد سموا حتى في الفن التطبيقي إلى منزلة مضاهية لثقافة الشرق القديم الفنية.
تشمل المرحلة الكبرى الأخيرة من تطور ما بين الأمريكيتين القرون من العاشر إلى الخامس عشر. حدثت في نهاية القرن التاسع، ونتيجة الهزات الاجتماعية الضخمة (انتفاضات أفراد المشاعيات)، وغزوات قبائل الناوا الأقل تطوراً للمناطق الشمالية من ما بين الأمريكيتين، وما ترتب عليها من هجرات ضخمة لشعوب مختلفة، تغيرات كبيرة. وصلنا من هذه المرحلة عدد كبير من المصادر المكتوبة، ويسجل لها أن أول استخدام للمعادن (الذهب، الفضة، النحاس) لأغراض الزينة أول الأمر، ثم في صنع بضع أدوات (النحاس).
اختفت مفاجأة في المرحلة الكلاسيكية من الوجود أغلبية الدول ـ المدن الكبرى بضغط من الدخلاء. ونشأت مراكز سياسية وثقافية جديدة، وظهرت ديانات مرتبطة بعبادات بشر هؤلاء الغرباء. أعيد تجميع القوى الاجتماعية, واستولى القادة واتحادات المحاربين المشهورين المحيطين بهم على السلطة بأكملها، ففقد الكهنة القدماء عظمتهم السابقة التي لم تكن تخضع لحسيب.
لُحظت تغيرات مهمة في الثقافة أيضاً. إذ انتشرت على نطاق واسع التصورات الإيديولوجية للقبائل التي اقتحمت الهضبة الوسطى المكسيكية، الإيديولوجية بين الكثير من شعوب ما بين الأمريكيتين. فتبوأ إلاها الشمس والحرب في مجمع الآلهة مكانة رئيس، وتوطدت على نحو واسع فكرة أن حياة الآلهة مرتبطة بتغذيتهم اليومية بدم الناس المضحى بهم.
انعكست هذه المتغيرات كلها في الفن التشكيلي أيضاً. توقف نهائياً تقريباً تشييد الأهرامات ـ المعابد الهائلة والأعمدة الحجرية. ازداد عدد المشاهد الحربية المصورة على الآثار الفنية، وراحت تظهر أكثر فأكثر رموز الحرب عوضاً عن الرموز الدينية التقويمية السابقة، وعوضاً عن تمجيد سلالات الحكام. اختفى أيضاً مع سقوط فئة الكهنة القديمة التقويم السابق الدقيق؛ صاروا يستخدمون في هذا الحقبة، عوضاً عن المنظومات الزمنية التي شملت ملايين كثيرة من السنين، دورةً من 52 عاماً مساويةً لمفهوم «القرن».
قامت في وادي المكسيك دولة التولتيك الضخمة، التي كان مركزها في مدينة تولان،و التي بسطت تأثيرها السياسي والثقافي على مساحة هائلة، ابتداءً من مناطق المكسيك الشمالية وانتهاءً بغواتيمالا ويوكاتان. تشكلت في وقت لاحق، بعد سقوطها عام 1166، على الهضبة المكسيكية سلسلة من الدولة ـ المدن الصغيرة. وقد استحوذت على الزعامة نتيجة الصراع الضاري بين تلك الدول مدينة تينوتشتيتلان عاصمة الأزتيكيين التينوتشكا. راحت دولة الأزتيك مع انتهاء القرن الخامس عشر توسع ممتلكاتها بسرعة وصارت القوة السياسية الرئيسة في ما بين الأمريكيتين. كانت دولة الأزتيكيين ـ التينوتشكا، التي التقى بها الأسبان، مجتمعاً عالي التنظيم، ورث التقاليد الثقافية عن الدول ـ المدن التي سبقته. لقد أجاز هذا للفاتحين الحديث عن «الإمبراطورية الأزتيكية» المحتلة من قبلهم.
قامت في شبه جزيرة يوكاتان في بداية تلك الحقبة دول ـ مدن المايا: تشيتشن ـ إيتسا وأوشمال ومايابان. وقد أدت الحروب الداخلية التي نشبت بينها هنا إلى تشكيل عدد من الأقاليم الصغيرة المستقلة والمتعادية في ما بينها. أقام الكيتشه والكاكتشيكيلي في القسم الجبلي من غواتيمالا التشكيلات الحكومية الأكبر من تلك الحقبة.
كان لهذه الدول ـ المدن الجديدة كلها الطابع الطبقي المبكر ذاته، لذلك بدأت تتطور فيها خلال مدة وجيزة نسيباً التناقضات الاجتماعية نفسها التي تطورت في سابقاتها. وقد انقطعت هذه العملية بالاحتلال الإسباني.
المنطقتان الوسيطة وحول الكاريبية ومنطقتا السهول والجبال الأمريكية الجنوبية
تضم المنطقة الوسيطة المساحة المترامية بين منطقة ما بين الأمريكيتين والقسم الشمالي من البيرو، أي قسم من غواتيمالا وكوستاريكا ونيكاراغوا وبنما والمنطقة الأنديّة سواحل المحيط الهادئ في كولومبيا والإكوادور. لا يزال تاريخ هذه المنطقة غير معروف جيداً. وسكنت فيها شعوب تنتمي إلى مجموعات إثنية لغوية مختلفة، وتتفاوت في ما بينها بمستوى التطور. واقتربت شعوب متفرقة في المنطقة الوسيطة إلى حد كبير من تكوين المجتمع الطبقي والدولة، إلى جانب القبائل التي كانت تمتاز باقتصاد متخصص بالصيد وصيد السمك والجمع والالتقاط. يمكننا أن ننسب إليهم ثقافة سان أغوستين الغامضة في جنوب كولومبيا (النصف الثاني من الألف الأول قبل الميلاد وحتى الألف الأول الميلادي)، وثقافات الكوكليه (بنما من القرن السادس حتى الثالث عشر) وفيراغواس وتشيريكي وديكيس (غرب بنما والجنوب الغربي من كوستاريكا)، ومانتينو (الساحل الإكوادوري، النصف الثاني من الألف الأول الميلادي)، والتايرون (شمال شرقي كولومبيا) وغيرهم. وكانت دول التشيبتشا المويسكيين في أراضي كولومبيا الحالية مع حلول زمن الاحتلال الإسباني هي الاتحاد السياسي الأهم في المنطقة الوسيطة، وكانت أكبر هذه الدول هي تونخا وغوانينتا وسوغوموسا وبوغوتا، وكانت الحروب بينها مستمرة، وقد أعاق ظهور الإسبان قيام هذا الاتحاد الوليد.
أتقن المويسكيون الزراعة المتطورة، واستخرجوا الفحم الحجري واستخدموه (وكان هذا ظاهرة فريدة في تاريخ ثقافة أمريكا القديمة). كانت هذه المنطقة غنية بالزمرد والذهب، وقد اشتهرت حلي المويسكيين اشتهاراً واسعاً في تاريخ الفن العالمي.
تضم مناطق حول الكاريبي والسهول والجبال الأمريكية اللاتينية جزر الأنتيل، وساحل كولومبيا على الكاريبي، وأراضي فنزويلا والبرازيل الساحلية، وحوض الأورينوكو والأمازونيا، والمناطق المتاخمة الأبعد جنوباً خارج محيط جبال الأنديك الوسطى. تاريخ هذه المناطق معروف بمقدار أقل من سابقاتها، وقد حددت هيئتها الإثنية الأساسية قبائل تنتمي إلى أسر لغوية مثل الأرفاكية والكرايبية والتوبي ـ غواراني وإلى غيرها. لم تتخط شعوب هذه المناطق جميعها عتبة تكوُّن الحضارات الأولى، وبقيت في مراتب مختلفة من المشاعية البدائية.
المنطقة الأندية (الأنديس)
ضمت بؤرة الحضارة الأندية البيرو وبوليفيا وجنوبي تشيلي، لكن أثرها طال التطور الثقافي لإثنيات شتى عاشت إلى الشمال من هذا المركز، وإلى الجنوب منه (وقعت تحت تأثيرها في الشمال بضع قبائل في الإكوادور، وفي الجنوب عدد من قبائل البامبا الأرجنتينية).
انتمت الأند الوسطى مثلها كمثل ما بين الأمريكتين إلى عداد المراكز العالمية الرئيسية التي نشأت فيها الزراعة. برزت هنا عدة مناطق تشكلت فيها وتطورت ثقافات أثرية مميزة توافقت على ما يبدو مع شتى التجمعات السياسية والاقتصادية الإثنية.
ظهرت في القسم الجبلي من البيرو وتطورت في الوقت الذي ظهرت فيه في منطقة ما بين الأمريكيتين، أي في الحقبة الممتدة من القرن الثاني عشر ق.م. حتى القرن الثامن ق.م. أولى حضارات أمريكا الجنوبية وهي تشافين. كانت، وفاقاً لنوعها، قريبة من الحضارة الأولميكية (المعابد الضخمة والتماثيل الحجرية والفخار المجسم وغير ذلك). هذه الملامح، وكذلك عبادة النمر الأمريكي المميِّزة هي التي أجبرت عدداً من الباحثين على الحديث عن ثقافة زراعية مفترضة في منطقة الغابات الاستوائية الرطبة كأساس مشترك للحضارتين معاً. فسر الآخرون أوجه الشبه بالاتصالات البحرية القديمة بين ساحلي الإكوادور وغواتيمالا. بيد أن هذا السؤال لا يزال مطروحاً. اختفت ثقافة التشافين مع حلول النصف الثاني من الألف الأول قبل الميلاد واختفت مواقعها الأمامية على ساحل المحيط الهادئ. وتطورت على أراضي البيرو وبوليفيا عدة ثقافات أثرية متميزة بفرادتها الكبيرة. دخل النحاس في ذلك العهد الاستعمال أول مرة في الأند الوسطى. لكن النحاس وكذلك الذهب استخدما كمادة لصناعة الحلي فقط. الجدير ذكره هو أن تقاليد التشافين الثقافية لم تندثر بل استمرت في التواجد في الثقافات اللاحقة (بعد أن خضعت، طبعاً، لإعادة نظر وعملية تنقيح إبداعي).
نشأت على مشارف الميلاد على ساحل البيرو (وفي القسم الجبلي في وقت لاحق على الأرجح) حضارات جديدة، الأساسية منها: الموتشيك والناسكا على الساحل؛ وتكونت ثقافة البوكار ومن ثم التياواناكو في حوض بحيرة تيتيكاك. وقد بلغت هذه الحضارات وغيرها ذروة ازدهارها مع حلول الحقبة الممتدة من القرن الخامس حتى القرن الثامن ميلادي.
صارت الزراعة في هذا الوقت وسيلة العيش الرئيسية، وتطورت السقاية الاصطناعية، فشيدت القنوات وجسور نقل المياه من أجل إخصاب الحقول، واستخدم زرق الطيور، وازداد عدد الزراعات المعتمدة على الفلاحة وخدمة الأرض، ومورست تربية الحيوانات (خلافاً لمنطقة ما بين الأمريكيتين).
صنعوا من النحاس الأدوات والسلاح. وكان قاطنو التياواناكو أول من بدأ في العالم الجديد يضيف إليه القصدير، الذي كانت أماكن وجوده عديدة في بوليفيا، وكانوا أول من حصل على البرونز. ترجع إلى النصف الأول من الألف الأول الميلادي أسمى الإنجازات الفنية لشعوب البيرو القديمة في العمارة الضخمة (معابد الدفن ـ الأهرامات) وفي الرسم وفن النسيج ونحت التماثيل. تضاهي الأقمشة والمطرزات القطنية والصوفية، التي عثر عليها في القبور في شبه جزيرة باراكاس (الساحل الجنوبي) بغنى ألوانها، وتركيب رسوماتها، وعدد من الخصوصيات التقنية فيها، أفضل أنموذجات الثقافات القديمة الأخرى. ويمثل مواضيع الزخارف على جدران المعابد وفي غرف القصور وعلى الأواني في ثقافة الموتشيك موسوعة حقيقية للميثولوجيا القديمة، وتعد الأواني وصور الأشخاص عليها العائدة لهذا الشعب نفسه من روائع الثقافة الأصيلة. بقيت منذ ذلك الزمن مجوهرات من الذهب والفضة والنحاس، والتي امتازت بمستوى فني رفيع وتقنيات تصنيع معقدة بما فيه الكفاية.
كان النصف الثاني من الألف الأول الميلادي هو زمن فناء حضارات الأند الوسطى. الأرجح هنا (كما في ما بين الأمريكيتين) أو الدول ـ المدن، التي أضعفتها التناقضات الاجتماعية المتنامية، والصراع المتبادل فيما بينها، صارت فريسة للأرياف المحيطة بها والأقل تطوراً.
بدأت المرحلة الأخيرة من تطور شعوب الأند الوسطى المستقل في نهاية الألف الأول وبداية الألف الثاني الميلادي. ظلت الثفافات التي تشكلت حتى ذلك الوقت مستمرة في التطور حتى الاحتلال الإنكاري، لا بل حتى الإسباني. كان المركز الرئيسي على الساحل الشمالي أول الأمر هو وادي لامباييكه. ثم انتقلت الزعامة في الشمال بعد انهياره، بنتيجة الكوارث الطبيعية التي تعرض لها في نهاية القرن الثاني عشر وبنتيجة الاضطرابات السياسية اللاحقة، إلى منطقة أخرى. كانت هذه المنطقة هي تلك الواقعة على وادي نهر موتشه. هناك، بالقرب من المركز الموتشيكي القديم، شيدت تشان ـ تشان عاصمة الدولة الجديدة تشيمور، التي نشأت فيها بدرجة معلومة تقاليد الموتشيك واللامباييكه الثقافية. وقد مكنت التجارة البحرية النشطة التي قامت في هذه الحقبة على امتداد الساحل الغربي للإكوادور حتى أراضي التشينتش من إرساء الصلات الثقافية بين سكان المناطق المتنائية.
أخضع حكام تشان ـ لسيطرتهم الساحل الشمالي كله، ووسعوا حدود دولتهم قبل الاحتلال الإنكاوي ببضع سنوات، في منتصف القرن الخامس عشر، حتى الإكوادور وضواحي ليما الحالية.
التقى المحتلون الإسبان في المنطقة الأندية في القرن السادس عشر بدولة الإنكيين ـ الكيتوشوا الجبارة تاوانتينسويو، التي شملت مساحتها الأند الوسطى والجنوبية كلها من جنوبي كولومبيا حتى الجزء الشمالي الغربي من الأرجنتين وتشيلي الوسطى. تطورت هذه الدولة، الناشئة أول الأمر في القسم الجبلي كاتحاد غير كبير بين بضع دول ـ مدن مستقلة، تطوراً مطردا، وبعد انتصارها على تشيمو صارت تمتلك المنطقة الأندية كلها. وقد عُدَّت ثقافة الفترة الإنكية الإنجاز الأسمى لشعوب القارة الأمريكية الجنوبية.
لقد تقبلت شعوب العالم القديم بعد الاحتلال عدداً من إنجازات ثقافة سكان أمريكا القدماء، فدخلت هذه الإنجازات بذلك الثقافة العالمية. وهذا ما يمكن لمسه بوضوح في الزراعة. فأغلب النباتات التي زرعها الهنود الحمر قبل فتح أمريكا لم تكن معروفة في العالم القديم، وقد جعله تعلم الثقافات الزراعية الأمريكية القديمة يزيد مصادره الغذائية إلى أكثر من الضعف. كما صارت ثقافة سكان أمريكا الأصليين الروحية بعد ذلك المكون المهم من مكونات ثقافة أمريكا اللاتينية ومنبع فرادتها.
ميثولوجيا شعوب أمريكا
حددت التصورات الميثولوجية لدى شعوب أمريكا الأصليين ثقافتهم الروحية. فتكونت خلال آلاف السنين على القارة الأمريكية ـ النائية عن أي تماس مع ثقافات العالم القديم ـ منظومات ميثولوجية فريدة، وهي إضافة إلى ذلك تظهر شبهاً تصنيفياً مع مثيلاتها بالمستوى التاريخي ـ الحقبوي من ثقافات العالم القديم، وقد ارتبط ذلك بقوانين تطور الإنسانية الروحي والاجتماعي العامة.
واجتازت تصورات شعوب أمريكا الميثولوجية خلال تطورها (حتى تفرعها إلى فروع مستقلة وتشكل ثقافات ميثولوجية مختلفة) عدداً من مراحل الارتقاء، المرجح أن سكان القارة الأمريكية الأوائل حملوا معهم في عصر الباليوليت المتأخر إلى البر الجديد بضع أساطير عن نشوء النار، مثلاً، أو سرقتها، وعن نشأة الناس والحيوانات، وعن معاشرة الدب للمرأة (الذي تحول لاحقاً في المنطقة الاستوائية إلى النمر الأمريكي بهيئاته المتعددة)، ما شكل الأساس للاتحاد بين الناس والوحوش، وأساطير عن الأيل والكلب بوصفهما الوسيطين بين عالمي الأموات والأحياء وغير ذلك... لاحقاً في أثناء تطور أسلوب الجني والالتقاط الِّفت أساطير عن التمساح الأمريكي حامي الطعام والماء، وعن الأرواح الطيبة للنباتات، وعن ابن آوى الماكر المرتبط بعبادة النجوم وغيرها من الأجرام، وعن بناء الكون كبيت هائل وغير ذلك...
تعود المرحلة التالية، أو، مجازاً، المنظومة الميثولوجية الأولى، إلى زمن تدجين الحيوانات وزمن الزراعة الواسعة. فتتحول في هذه الحقبة ونتيجة عمليات إيديولوجية معقدة في أطر بنى سياسية واقتصادية معينة، الأرواحُ التي كانت أول الأمر بسيطة وأحادية الدلالة كروح الماء والنبات والنار والتراب وغيرها، إلى آلهة متعددة الأشكال ومتعددة الوظائف، وقد استمرت هذه العملية حتى ظهور الأوروبيين تقريباً. تنتسب إلى هذه المنظومة أغلب أساطير قبائل وشعوب المناطق الوسيطة وحول الكاريبية والسهول والجبال الأمريكية الجنوبية.
استقرت فيما بعد الأشكال الميثولوجية وتمتنت في أطر وظيفية معينة، وحدث تجزيء لاحق لوظائف الآلهة وتدقيق لها على نحو متزامن مع عملية تجميع هذه الآلهة في وحدة متماسكة، فازداد عددها، وتكونت الصلة بينها وبين عبادة الحكام الناشئة حديثاً، إذ عدّوا ممثليها أو مجسديها على الأرض. اشتغل الكهنة بوضع التصورات الميثولوجية، وصارت الأسباب السياسية الآن هي الأسباب الرئيسية في تقديم هذا الإله أو ذاك. جمعت حولهم الأساطير والدورات الميثولوجية الجديدة (عن مؤسسي الدولة ـ المدن، وعن معبد معين، وما شابه). وضُمنت الأشكال الميثولوجية صوفيةً زمنيةً مرتبطةً بمفهوم الآخرة. كان هذا كله هو الملامح المميزة للمنظومة الميثولوجية الثانية، التي ترافقت مع نشوء المجتمع الطبقي المبكر في الدول ـ المدن. والأنموذج الأكثر سطوعاً لهذه المنظومة هو ميثولوجيا شعوب المايا في الحقبة الكلاسيكية.
المنظومة الميثولوجية الأعقد والأرفع تنظيماً (الثالثة)، التي ظهرت في مرحلة الانتقال إلى الدول السياسية ذات الحكم المطلق، هي تلك التي يُشهد بها في القارة الأمريكية للتولتيك والأزتيك والإنكيين الكيتشوا. امتازت هذه المنظومة بضمها إلى مجمع آلهتها آلهة الأخيرة لُحظت بين ممثلي الفئات العليا من المجتمع. أما القسم الأساسي من الشعب فعاش تصوراته المعتادة.
وجدت مع ظهور الأوروبيين هنا، وبسبب من التطور التاريخي غير المنتظم للشعوب الأمريكية في أجزاء القارة المختلفة، إثنيات حاملةٌ لجميع المنظومات الميثولوجية المذكورة متوافقةً مع هذه المرحلة أو تلك من مراحل تقدمها الاجتماعي. وكان من المحال تاريخياً في الاتحادات الدولتية الضخمة بين الإثنيات في فترة ما بعد الكلاسيكية (دول التولتيك والأزتيك والإنكيين ـ الكيتشوا) نشوء وضع ديني ميثولوجي مغاير.
علينا أن نشير إلى تعاقب التصورات الميثولوجية المهم من أجل استمرارية التقدم التاريخي، وإلى تعاقب الأشكال المتكاملة للآلهة والمبادئ الفلسفية والإثنية الأولية المميزة لهذه المناطق أو تلك من المناطق التاريخية والجغرافية في أمريكا. وينبغي أن نشير أيضاً إلى الاختلافات الملموسة بين الأشكال الميثولوجية ومجمعات الآلهة وما شابه ذلك في المناطق التاريخية الجغرافية الضخمة. إذ ارتبطت هذه الاختلافات بنشوء الإثنيات وبوسط المعيشة المختلف وبخصوصيات الاتصالات بين الإثنيات وبالظروف التاريخية. فمثلاً، انتشرت على نطاق واسع في ميثولوجيات شعوب ما بين الأمريكيتين، إضافة إلى العبادات الأمريكية العامة، كعبادة الذرة، والأيل، والنمر الأمريكي والوطواط والأفعى، أشكال الأفعى ذات الريش وابن آوى، وفي وقت متأخر النسر والصبار. وأدت الحيوانات البحرية والطيور لدى شعوب المنطقة الأندية (خصوصاً في الحقبة قبل الإنكية) دوراً كبيراً في الميثولوجيا، والتماسيح الأمريكية والضفادع وما شابهها لدى سكان غربي بنما (المنطقة الوسيطة).
وأدت التصورات الميثولوجية دوراً معيناً في تشكيل منظومة النظرات الفلسفية الجمالية لدى الشعوب القديمة. فكانت عبادة الشمس ونقيضتها عبادة الليل عند شعوب الناوا مرتبطتين بالتصورات عن الصراع الأبدي بين البدايات المتناقضة، وعن ضرورة التضحية بالنفس، وعن قصر الحياة الأرضية وتعفنها. تبرز من هنا الحماسة الشديدة في ديناميكية الحياة والموت ويبرز من هنا مفهوم الآخرة والتوتر الداخلي في الفن التشكيلي والشعر. كان لعبادة الشمس في المنطقة الأندية، وفي جميع الأحوال في زمن الإنكيين، أشكال أهدأ، ولم تصادف هنا الحالات المميزة لمنطقة ما بين الأمريكيتين. تنبع من هنا على الأرجح السكونية والاتزان الكبيران في فن العمارة الضخمة وفي التماثيل، وينبع من هنا التأكيد على تراتبية الأشكال. ومن جهة أخرى فقد لُحظ هنا في حقبة ما قبل الإنكية (لدى الموتشيك مثلاً) ازدهار معين للإباحية (لم تكن موجودة في ما بين الأمريكيتين)، وكانت مرتبطة بعبادة الأموات على نحو يشبه المفارقة. إن تفسير هذه الظاهرة كامن أيضاً في خصوصية التصورات الميثولوجية لشعوب هذه المنطقة.
الثقافة الشفوية والكتابة الأدب
يجب دراسة مسألة الثقافة الشفوية لشعوب أمريكا الأصلية من حيث علاقتها بمستوى تطور هذه الشعوب التاريخي ـ الحقبوي، وبمستوى تطور هذه المنظومة الميثولوجية أو تلك. وكما أن شعوب القارة صاغت هذه المجموعات الميثولوجية أو تلك بحكم تطورها الاجتماعي والثقافي غير المنتظم، فإن ثقافتها الشفوية وفنونها كانت مختلفة المستوى. وقد تكوَّن الفن الكلامي في كل مكان في أمريكا وتحدد بأكمله بالتصورات الميثولوجية، تجذرت خصوصية الثقافة الشفوية في خصوصية هذه التصورات في هذه المنطقة أو تلك. وتسببت في الوقت ذاته الفجوة الكبيرة في التطور التاريخي بين شعوب أمريكا الأقل تطوراً وشعوبها الأكثر تطوراً، التي بلغت مستوى الحضارات، نسبياً في تحديد الفجوة الكبيرة أيضاً في مستوى تطور الثقافة الشفوية.
كانت شعوب وقبائل مناطق مثل المنطقة حول الكاريبية في قطبٍ، وشعوب المايا والأزتيك والإنكيين ـ الكيتشوا في القطب الآخر. اتسمت الثقافة الشفوية لدى الأولى بتماسكها الاجتماعي والفني نتيجة التطور القليل الذي طرأ على البناء الاجتماعي، واتسمت بعمومية مادة الميثولوجيا المستخدمة لجميع أعضاء المجتمع الراشدين تقريباً (ربما ما عدا السحرة والمشعوذين)، واتسمت هذه الثقافة بتبعيتها التامة تقريباً للعبادات وللنشاط الاقتصادي والنفعي المباشر، واتسمت بعدم الإعداد الفني مع حرية نسبية في تبدل أشكال روايات الأساطير، وبانعدام المبدأ القانوني العام.
أما المايا والأزتيك فعلى العكس، إذا تميزوا بانقسام آثار الثقافة الشفوية لديهم انقساماً دقيقاً إلى طبقتين كبيرتين بنتيجة عمليات الفرز الاجتماعي: الوجهاء والكهنة من جهة، (مثلاً، علم نشأة الكون الكهنوتي، والصوفية التقويمية، والأساطير عن النشأة الإلهية لسلالات الوجهاء وغير ذلك)، والعوام من جهة أخرى، وتميزوا ببدء قوننة الأجناس الأدبية، وبدء تخصيصها من أجل الفئات الاجتماعية المختلفة (فمثلاً، تمثل الآثار الاحترافية نوعاً خاصاً ـ دليل الحرفيين). ونشأت عناصر حكاية السحر لكن من غير انتظام الخطوات الإلزامي الذي ميز هذا الجنس الأدبي في العالم القديم. وينسب هذا كله بالدرجة ذاتها إلى الثقافة الشفوية لدى الإينكيين ـ الكيتشوا. ويضاف إلى هذا في منطقة ما بين الأمريكيتين أيضاً، تكون الثقافة الأدبية المكتوبة مع اقتصار استخدام الكتابة بوصفها وسيلة تقنية تذكيرية مساعدة فقط.
ما زال تصور اللوحة كاملة بسبب من نقص المعلومات، بيد أن في مقدورنا أن نقول: إن الكتابة لم تبلغ لدى معظم الشعوب ذلك المستوى من التطور الذي يجعلها قادرة على أن تصير أداة لثقافة أدبية مكتوبة متطورة. استطاعت الكتابة، فعلياً، أن تؤدي هذا الدور لدى بضعة من شعوب ما بين الأمريكيتين فقط، وخصوصاً لدى المايا؛ وكانت الرموز الكتابية في المنطقة الأندية منتشرة على نطاق ضيق جداً، واستخدمت لأغراض طقوسية خالصة ولأغراض تتعلق بالأنساب جزئياً. أما الخط العقدي الكيبو فكُيِّف من أجل تسجيل المعلومات الاقتصادية والعسكرية فقط.
مهم أن نشير إلى أن الثقافة الأدبية المكتوبة لدى شعوب ما بين الأمريكيتين كانت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالبيئة الشفهية، ولم تنفصل عنها إلى حد كبير في كل شيء. وترافقت بنية النص العروضية، والتقاليد الشفوية، والحفظ والنقل من جيل إلى جيل مع التقاليد الكتابية النامية.
كانت قد تكونت لدى شعوب ما بين الأمريكيتين منظومة أجناس أدبية، فبالإضافة إلى الأدب الشعبي الميثولوجي والتاريخي، رأينا مؤلفات شعرية حول موضوع الشجاعة في القتال، وغنائيات فلسفية وعاطفية. احتكاماً للمعلومات الواصلة إلينا يمكننا أن نؤكد على قيام منازلات بين الشعراء، وعلى جمع المختارات الشعرية. الأمر المهم في تطور الإبداع الشعري هو أنه ما عاد في ما بين الأمريكيتين مغفلاً. تطورت الدراما لدى شعوب المايا والناوا تطوراً كبيراً، كما كان نثر شعوب ما بين الأمريكيتين متنوع الأجناس أيضاً ابتداءً من الكتابات الشعرية الهجائية الموجزة وانتهاءً بالقصص الموسعة.
اختلفت منظومة الأجناس الأدبية لدى شعوب المنطقة الأندية بعض الشيء عن منظومة ما بين الأمريكيتين. ويمكننا أن نلحظ بين المؤلفات الشعرية التي وصلت إلينا، أناشيد ومقاطع من أساطير وغنائيات عاطفية، وأغان حربية، وأغان عن العمل. وأقيمت في البيرو القديمة، كما في ما بين الأمريكيتين، منازلات الشعراء، لكن الأنموذجات الواصلة إلينا مغفلة الأسماء في أغلب الأحيان. كما وصلتنا في النثر، مقاطع تأريخية وحكايات وأحاجٍ وحكم فلسفية، وكان من بينها، من غير شك، دراما دينية وتاريخية.
معروف من مؤلفات مدوني التاريخ الأسبان وجود أراشيف خاصة في مدن ما بين الأمريكيتين حفظت فيها مخطوطات للمايا، ومخطوطة واحدة ذات منشأ كويكاتيكي. لم تستخدم المنظومات الهيروغليفية الكتابية لدى شعوب ما بين الأمريكيتين في المخطوطات فقط، بل في النقش على الحجر والفخار وعلى الكسوة الطينية المزخرفة واللوحات الجدارية وما شابهها. لكن مسيرة فك رموزها لم تتجاوز الخطوات الأولى. لا يمكننا، عملياً، الحديث إلا عن بضعة نجاحات محددة في فهم نصوص الحقبة الممتدة بين القرنين العاشر والخامس عشر، وفي ثلاث مناطق فقط: الهضبة المكسيكية الوسطى وأواخاكا ويوكاتان. أما جميع المنظومات الكتابية الأخرى (التي تعود آثارها إلى القرون الأولى قبل الميلاد وتنتهي بالقرن التاسع الميلادي) فلم تفك رموزها حتى النهاية. وما زلنا لا نعرف شيئاً عن محتوى النصوص من تشالتشوابا ومنته ألبانا وينوينه وشوتشياكالكو والكثير غيرها من المراكز الضخمة من المرحلتين ما قبل الكلاسيكية والكلاسيكية.
يمكننا استعادة لوحة إبداعات سكان أمريكا الأصليين في حقبة ما قبل كولومبو بفضل تجميع المعطيات من المصادر المتبقية، والهيروغليفيات المكتوبة و«التراجم» من الكتابة القديمة إلى اللاتينية، التي تمت بعيد الاحتلال الأسباني، ومقاطع ضمها مؤرخو القرن السادس عشر إلى أعمالهم.
الآداب الأجنبية
ت.عياد عيد
(1) الفترة الانتقالية من العصر الحجري القديم «باليويت» إلى العصر الحجري الجديد «نيوليت» (المترجم).
(2) أو الزراعة النارية وهو أسلوب الزراعة انتهجه السكان الأصليون بسبب تخلف الأدوات الزراعية، ويعتمد على حرق الحقول واقتلاع ما عليها من نباتات بالأيدي، وكذلك حفر الحفر بالعيدان لغرس البذور. (المترجم).