"قبلة يهوذا" رواية باللغة الفرنسية للكاتب الفرنسي أوبير برولونجو، صدرت في العام 2004 عن دار "غراسيه" الفرنسية، ونقلها إلى العربية ميشال كرم وصدرت في طبعتها العربية الأولى عن دار الفارابي عام 2006. وتتألف الرواية من اثنين وعشرين فصلا تقع في 410 صفحات من القطع المتوسط.
هذه الرواية هي التجربة الثانية للكاتب والصحافي الفرنسي أوبير برولونجو بعد رواية "قاتل بونابارت". صدر له من بعدها روايتا "موت صديقته" و"لا ذاكرة للفراشات".
كما يبدو من اسم الرواية، البطل الرئيسي هو يهوذا الاسخريوطي تلميذ يسوع المسيح. ومن خلال مسيرة حياته التي تشكل السياق الزمني للرواية، نلتقي بشخصيات نعرفها في القرآن والانجيل والقصص التاريخية مثل يسوع المسيح ومريم المجدلية وباراباس (قائد المقاومة اليهودية ضد الرومان) ويوحنا المعمدان وهيرودس (ملك الرومان) وبطرس وبولس وسمعان وفيليبوس وأندراوس ويعقوب (من تلامذة المسيح) وغيرهم.
ومن خلال حياة يهوذا المتشعبة والتي تدور أحداثها في القرن الأول الميلادي على أرض فلسطين التاريخية ما بين الجليل والقدس وعكا وأريحا وبيت لحم وطبريا، وعلاقته بباقي الشخصيات، وعلاقات هذه الشخصيات ببعضها، تتكون لدى القارئ صورة واضحة عن الحياة السياسية والاجتماعية في تلك الحقبة في ظل الحكم الروماني للمشرق.
لدى قراءة الرواية، يشعر القارئ كمن يلمس التاريخ بيديه بعد أن كان مجرد حكايا وكلمات في الكتب. كمن سمع عن تحفة فنية، لكنها اليوم باتت ماثلة أمامه وبوسعه أن يراها بعينيه ويتلمس بيديه معالمها ومكامن جمالها وقبحها. "قبلة يهوذا"، تقدم قراءة جديدة لتاريخ نشوء المسيحية وحياة يسوع المسيح، كما تدفع القارئ للتساؤل العميق حول حقيقة قبلة يهوذا، وهل كانت فعلا بادرة ود تخفي خيانة ومن أنذل البوادر التي عرفها التاريخ؟ أم أنها كانت أكثر تعقيدا وصدقا وغموضا مما تبدو عليه؟
تنقسم الرواية إلى جزأين، الجزء الأول يتناول حياة يهوذا الاسخريوطي، وباراباس حتي ظهور يوحنا المعمداني، في حين يتناول الجزء الثاني ظهور السيد المسيح و تعميده على يد يوحنا المعمداني حتى محاكمته وإعدامه حسب المعتقدات المسيحية.
تبدأ الرواية بسرد ملحمي لأحدى الثورات اليهودية في احدى المدن الفلسطينية حينما كانت ترزح تحت الاحتلال الروماني. والمشهد الأول منها يحكي حادثة صلب والد يهوذا سمعان الاسخريوطي مع عدد من الثوار اليهود في منطقة بئر راحيل. ويصف المشهد عويل النساء والجثث المتدلية عن الصلبان وتأوهات المصلوبين، كما ينقل الينا صورة الطفل ذي الأحد عشر عاما، يهوذا، الذي يرقب والده يلفظ أنفساه الأخيرة على الصليب بتهمة المشاركة في الثورة ضد الاحتلال الروماني. ومنذ تلك اللحظة، يستوطن الحقد على الرومان قلب الطفل طيلة حياته ليتحكم بها ويرسم أحداثها ومصيرها.
وتتابع الرواية في ال 300 صفحة الاولى في رحلة زمنية يكبر و يشب فيها هذا الطفل و تدور عليه الاحداث من انخراطه في الثورة المسلحة بقيادة باراباس وتجربته الجنسية الأولى مع عاهرة يتبين لاحقا أنها مريم المجدلية، إلى عمله جاسوسا لصالح الثورة في قصر أحد الأثرياء اليهود المقربين من الرومان، إلى زواجه وانجابه ومن ثم موت أسرته في حريق افتعله الرومان ، فعودته من جديد إلى صفوف الثورة. لكن عبر الرواية، لم ينس يهوذا قضيته بل كان كل ما يفعله ناتج عن دافعه الثوري وايمانه بمقاومة المحتل. الا أن دوره كان تارة في المقاومة المسلحة وتارة في التقصي والجاسوسية. ثم ينتهى به المطاف في الاربعينيات من عمره، في احدى الرحلات ليلتقي رجلا يدعى يسوع، وهي نقطة التحول في الرواية.
وبايعاز من القائد باراباس الذي كان يبحث عن زعيم روحي يستطيع أن يحرك الرجال باسم الله خدمة للجميع، ويفعل ما يريده باراباس دون أن يتخلى عنهم عند إخفاق أول تجربة، أخذ يهوذا يتقرب من يسوع.
و يصبح يسوع برفقة رفيقه الاقرب يهوذا و يقومان بتبشير اليهود للقيام بالثورة على الرومان، و يجمع يسوع من الرجال 12 ليكونوا سفرائه و خيرة اصحابه لاستنهاض اليهود من خنوعهم و سكونهم.
ثم تجري الأحداث وفقا للروايات الإنجيلية في معظم الأحيان مع التشديد على بشرية المسيح وقدرته علي شفاء الناس بالتماس الأسباب وإعطاء العلاج المناسب واستخدام الأعشاب حتى اشتهر أمر يسوع خاصة أخبار المشادات مع الفقهاء، والأمل في الشفاءات، وقوة الكلام وتأثيره على الجمهور.
ثم يشتد الخلاف بين يسوع و يهوذا حول اسلوب الدعوة. فيهوذا هذا يفضل الخيار الثوري و الانقلابي لاستعادة مجد اليهود، لكنه يلاحظ ان ليسوع اجندة مغايرة للسبب الذي التقاه من اجله. فيسوع يفضل الاسلوب الخطابي و الدعوة الرقيقة الرومانسية في استمالة قلوب الناس من محبيه و مخالفيه، ما ينفذ صبر يهوذا.
اذا، اتفق الاثنان على الهدف: ضرورة بعث نهضة في اليهود تمكنهم من التخلص من نير الظلم الروماني. لكن الوسيلة لتحقيق ذلك كانت سبب الخلاف بين المعلم وتلميذه.
وأخيرا يذهب يسوع إلي أورشليم مركز الديانة اليهودية، وظن يهوذا أنه يمكن الدفع بالأمور في اتجاه الثورة ومهاجمة الهيكل، والدفع بيسوع إلى خوض المعركة الحقيقية المسلحة خاصة أن وراءه جماهير كثيرة تؤمن به.
وفي الهيكل يطرح يسوع طاولة للصيرفة قائلا بيت أبي لم يصنع لأجل التجارة و لقد جعلتم من بيت أبي مغارة للصوص . ثم يقبض الرومان علي باراباس وتخشى المنظمة من أن ينكشف أمر باراباس على أنه القائد، ويقترح بعض من أفرادها أن يتم تحويل انتباه الرومان بالإبلاغ عن رجل آخر على أنه المحرض الحقيقي علي الثورة وبالطبع كان يسوع لكي يتم تحرير باراباس فيما بعد.
اعتقد يهوذا أن تسليم يسوع قد يرغمه على الأخذ بزمام الثورة ويتخلى عن أقواله عن مملكة الرب والعالم الآخر والعدالة والاستقامة والرحمة لكل البشر، واعلان الثورة المسلحة ضد الرومان.
قام يهوذا بالعملية بالكامل وأرشد عن مكان يسوع فألقي القبض عليه في معصرة زيت في حضور يهوذا الذي حرص على أن يقبل يد يسوع كما يقبل كل تلميذ يد معلمه ومن هنا عنوان الرواية قبلة يهوذا.
اذا، كان مخطط يهوذا دفع يسوع إلى إعلان الثورة المسلحة بدلا من الخطابات الرومانسية. لكن ما جرى في الواقع كان نقيض المخطط. فيسوع اعتبر أن صلبه هو "مشيئة أبيه"، ورفض أن يعاكس مبادئه باعلان الثورة المسلحة. وبذلك، انقلب مخطط يهوذا عليه، وتم صلب يسوع المسيح، ولم يستطع يهوذا تحمل ما حدث، فاختار وضع حد لحياته بتعليق مشنقته بنفسه في شجرة تين.
بنية الرواية
من حيث البنية، تمكن برولونجو من أن يمزج بعض الحقائق التاريخية مع الكثير من الأدبيات اليهودية، والإنجيلية معا لخلق عالم روائي متماسك لا يخلو بالطبع من اختلاق مواقف خيالية يتطلبها النص خاصة أن الشخصيات الرئيسية في الرواية مثل يهوذا، وباراباس لا تتوافر لدينا معلومات مؤكدة عنهما من أية مصادر خارج الأناجيل بل العكس هي شخصيات يكتنفها الغموض، و لا تسمح لنا بتقديم صورة كاملة عن هذين الرجلين بالذات. لذا، كان خيال الكاتب حرا ليرسم الصور كما يشاء متأثرا بالتصورات الشعبية أكثر من النصوص المقدسة. وهذا يبدو جليا في وصفه ليهوذا: شخص صغير الحجم، له شعر أحمر، ويرتدي دائما روبا أصفر، وهو الوصف الذي استلهمه معظم فناني عصر النهضة.
ومن حيث البنية أيضا، تعج الرواية بالصور الوصفية الدقيقة المفصلة التي تتيح للقارئ رؤية حركة الشخصيات وتعابير الوجوه ونبرات الأصوات، واشتمام الروائح، والاحساس بالجو العام للمشهد والمكان. هو وصف يضفي الواقعية والحركة على أحداث تاريخية جامدة، نعرفها كقصص جامدة دون الغوص في واقعيتها وتفاصيلها البسيطة والدقيقة:
"داعب شجرة التين بيده، وكان سعيدا اذ شعر بقشرتها القاسية تحت راحته فانتزع منها فلذة صغيرة. التف الحبل حول أحد الأغصان، فتثبت من متانته. وصنع سيبة صغيرة من بضع قطع من الحطب وحجرين كبيرين، وصعد إليها بعد أن خلع ثيابه، راغبا في الاحساس بحرارة الشمس عند آخر لحظة. ووضع الحبل حول عنقه وشخص بنظره إلى المدينة المتلألئة بالأنوار أمامه. ثم رفس السيبة. توتر الحبل. وسقطت آخر قطرات من زرعه على حجر مستدير وما لبثت أن جفت تحت حرارة الشمس". (ص 410)
"أضاءت الشمس الطالعة انطلاقهما، وبان الجليل بكل بهائه مع بداية الخريف: مغرة التراب، وخضرة الزيتون، وآخر تألقات الأشجار المتنوعة، كالرمان والتين والنخيل، كانت ترسم لوحة جميلة. لم يسبق أن رأى يهوذا أرضا أخرى. لكنه كان يشعر بأنه لا توجد أرض أخرى يمكن أن تخلب لبه إلى هذا الحد". (ص 47)
كما نلحظ في العبارة الآتية لغة تصويرية سمعية، ومثل هذه العبارات كثيرة في متن النص:
"كان يحاول أن يضفي رنة ساخرة على صوته، لكنه لا ينجح كثيرا، كانت تغلب عليه فرحة اللقاء"
لقد حول الكاتب في بنية النص، المعلومات التاريخية، والوثائق إلى حياة واقعية ملموسة عن بني إسرائيل، وعن خارطة فلسطين في تلك المرحلة، مرحلة ولادة المسيح، في رؤية تحليلية عميقة، بعيدة عن الإبهار الديني، عبر لغة حوارية وتوصيفية، بالغة البساطة، لكنها تصنع، بفسيفساء بسيطة، مشهدية عالية الدقة والواقعية المقنعة لذلك التاريخ.
ويشكل الحوار قسطا وافرا من الرواية، وهو حوار واضح وبسيط، ولا يطول بما يسبب الملل. وهو في الوقت عينه غني بالمعاني والعبارات المؤثرة المكثفة والبليغة. ولعل الحوار بين يهوذا وأرشيبوس الأثيني هو مثال على السجال العميق انما البسيط الذي يثري الرواية يدفع بالقارئ إلى توسيع آفاقه واعادة التفكير في أمور كانت يقينية بالنسبة اليه. أما الحوار بين يسوع ويهوذا، فهو من العوامل التي ميزت الرواية. فمن خلال الحوار، ظهرت هذه العلاقة الملتبسة بين يهوذا والمسيح في هذا النص الروائي في أعمق تجلياتها واضطرابها، وعنفوانها ومصداقيتها البشرية. بدا يسوع ويهوذا شخصيتين شكسبيريتين بامتياز، وحواراتهما قبل بدء الشقاق بينهما، وأثناءه كانت في قمة التراجيديا الانسانية، والصراعات بين قيم الخير، والشر، بين رؤيا براغماتية، وأخرى ميكيافيليية. ما ميز حوار الرواية هو أنه لا يبدو كحوار بين معلم وتلميذه كما يصور لنا التاريخ والنصوص المقدسة. بل هو أقرب إلى حوار بين ذات واحدة تريد التغلب على ما في داخلها من نواقص وتناقضات وضعف، وتبحث عبر الكمال المطلق عن خلاصها، إنه الحوار المزمن، بين الثنائية الدائمة الاختلاف:
"- يهوذا: أنت تقودنا إلى الكارثة بهذه السلبية، القوة هي الحجة الوحيدة التي ينحني أمامها كل شيء.
- يسوع: المحبة سترسي أسس عالم أفضل، لا تظن أن الانتصارات الوحيدة هي على هذه الأرض" ص353.
تاريخ جديد يولد في الرواية
في الرواية قراءة جديدة ومختلفة كليا عن القراءة التي قدمتها الكنيسة والنصوص الانجيلية طوال قرون لشخصية يهوذا وعلاقته بالمسيح. فما أراده يهوذا كان أكثر بكثير من كيس نقود بثلاثين دينارا، وهو الذي كان حائزا على ثقة يسوع التامة وأقرب الأقربين اليه، وهو المؤتمن على كيس مال الرسل، وكان يتصرف يوميا بمبالغ أكثر بكثير من الثلاثين دينارا التي يقال أنه حصل عليها مقابل الوشاية بيسوع.
ولعل ما ترك لبرولونجو حرية رسم الأحداث في سياق منطقي، هو استناده الى دراسة حديثة حول حياة يسوع وموته، أثبتت أن ما من أمر موثوق حول موت يسوع سوى موته على الصليب وهو العقاب المخصص للخارجين على النظام الروماني. أما الأحداث الباقية، فكانت تؤخذ من الأناجيل الأولى التي كتبها تلامذة يسوع لأجل مسيحيي روما، والتي اكتفت بتصوير يهوذا انسانا جشعا خاليا من أية مبادئ أو أحاسيس في صورة تبدو خارجة عن نطاق الأحداث التي سبقتها والتي لا يوجد فيها ما يبرر فعلته كونه كان أقرب المقربين ليسوع، والمؤتمن على كيس مال الرسل والمناضل الذي كرس حياته لمقاومة الاحتلال الروماني.
ولعل زبدة الرواية تتجلى في الحوار الأخير بين يهوذا ويسوع في اللقاء الأخير في السجن قبل تنفيذ حكم الاعدام بيسوع:
" - (يقول يهوذا ليسوع) جئت لأقول لك أن كل شيء جاهز. لم يبق عليك الا أن تتولى قيادة قواتنا والمدينة لنا.
- (يسوع باكيا) لكن لا أقدر، لا أقدر.
...
يسوع: لا أقدر أن أفعل ما تريده. رسالتي في مكان آخر. انها ليست على هذه الأرض. ألا تفهم؟
يهوذا: لكنهم جميعا في الخارج ينتظرونك. أنت أملهم الوحيد. انهم بحاجة اليك. ألا تسمع صرخاتهم؟
يسوع: ... أبي أرسلني لأكون ذبيحة تمحو خطاياكم. كل الخطايا. هذه هي الثورة، الثورة الحقيقية، تلك التي تقود إلى السعادة. انها تعني شعب الله بكامله، وتمتد في كل مكان على الأرض وفي الفضاء، وهي ستقيم العدل والغفران، على نحو أفضل بكثير مما قد تفعله جهودكم، لأن ذلك سيكون إلى الأبد.
...
- يهوذا: قلت لنا "أنا أعد لكم مملكة".
- يسوع: ملكوت السماوات...لا قلعة حصينة على الأرض.
...
- يسوع : لا تعتب علي يا يهوذا. أنا لم أعد قط بثورة داخلية، وأنت تكابر وتنتظر شيئا آخر. لم أعد قط على هذه الأرض الا بالاضطهادات، وأنا أول من يتحملها، لم تتقاطع طريقانا الا لحظة، وأنت لم تفهم قط ما حاولت أن أقوله لك...لكنني أحببتك وأغفر لك.
...
- يسوع: ... أنت تريد العدل وأنا أطلب الرحمة. أنت تريد انتصار الشعب اليهودي على الرومان، وأنا أطلب انتصار الانسانية على الشر. (...) ان مثلي الأعلى موجود خارج هذه الدنيا. أجل، سأنشىء مملكة، ولكن مملكة سيصنعها ويسقيها كل واحد منكم بالحب، وستكون مكافأته هناك فوق، في جوار أبي. هذه المملكة لا تزال أبعد من أن يراها بصرك. ويوم تراها أمامك، ستبدو لك آلامك الدنيوية باطلة." (ص 408)
ويسجل للرواية أنها قدمت صورة جديدة ليسوع المسيح لم تقدمها أي رواية سابقة، والأجدى القول ، لم تجرؤ أي رواية سابقة على تقديمها. ولعل هذا السبب في مصادرتها من معرض الكتاب في عدد من العواصم العربية. انها صورة يسوع المسيح الانسان، خارج هالة القدسية الدينية، وخارج القوالب القدسية التي ترسم لكل الأنبياء. فبوسعنا أن نراه على صفحات الرواية يأكل بنهم، ويرتجف خوفا، ويرد بقسوة أحيانا، ويحزن ويغضب، ويتصرف بمزاجية، فساعة يدندن الأغنيات الشعبية وينشر جوا من المرح، وساعة ينطوي على نفسه مصابا بالكآبة. أما معجزاته، فتتحول في الرواية إلى عملية علاج طبي بالأعشاب (الأعمى الذي فتح يسوع عينيه، لم يكن أعمى بحسب الرواية، بل كانت الافرازات تلصق جفونه ببعضها، فعمل يسوع على تنظيفهما فتفتحتا مجددا ووصف له دواء من الأعشاب)، ومعجزة الخمر في قانا نجد لها تفسيرا منطقيا في الرواية وهي أن يسوع قام بمزج الكمية المتبقية من الخمر بكميات كبيرة من المياه ما سمح بانتاج كمية مضاعفة وتوزيعها على الموجودين:
"قال يسوع للخادم: هذا نبيذ مفرط في القوة على كل حال. وزع النبيذ الذي تحتويه الخوابي الثلاث الملأى على دزينة من الخوابي الخاوية، وأضف قدرا من الماء.هذا يخفف من قوة النبيذ وأنا واثق من أنه سيكون أجود. على أي حال، الجميع سكارى، فاذا شربوا نبيذا أخف قليلا فهو ان يؤذي أحدا منهم، هذا اذا استطاعوا أن يفطنوا للأمر". (ص 282)
وتبدو صورة يسوع البشري في المشاهد التالية أيضا:
"أخذ يسوع سماني مشوية وراح يمتص عظامها بلذة"
"أمام منظر شهية المعلم، أخذ التلاميذ يتناولون الطعام"
"كان فرحا، وكان يشرب دون استئذان، ثم قعد إلى جانب أمه دون أن يسرف في المكوث"
" اندفع يسوع بسرعة نحو ما قدموا له وراح يأكل بنهم حتى كاد يختنق وأصابته نوبة طويلة من السعال"
كذلك تشير الرواية في اطار أنسنة المسيح، إلى الخوف والارتباك الذي واجهه يسوع في بداية التبشير، وقد عبر لصاحبه يهوذا في أكثر من محل عن خوفه من مواجهة الناس وعدم معرفته كيف يوصل رسالته ، كما في قوله مثلا: "علي أن أتوجه إلى الناس، أن أكلمهم، وهذا يخيفني. أنت أول شخص يجب أن أكله، ولكنني ألوذ بالصمت، ولا أتجاسر على قول شيء".
وتتطرق الرواية إلى حياة يسوع العائلية، فهو ليس وحيدا بل لديه أخوة. أما أم يسوع التي لا تذكر الرواية أبدا أنها مريم العذراء، ، فتبدو في صورة مغايرة تماما للصور التي نعرفها. فهي بحسب وصف الرواية "امرأة قصيرة القامة، سمراء". كما أن ابنها يسوع ليس ابنا دائم البر بها، فهو يتذمر حين تطلب منه حل مشكلة نفاذ الخمر في عرس نسيبته، ويكلمها بنبرة حازمة تجعلها مستاءة منه ومجروحة من برودة جوابه. كما في قوله لها "ماذا تريدين مني يا امرأة؟" (ص 280)
وتتجلى بشرية يسوع في أعمق صورها في التعبير الآتي الذي يجعل منه بشريا ابن بشري، وينفي عنه صفة الألوهية بحسب المعتقدات المسيحية. ففي الصفحة 286 يذكر الكاتب " أن العروس في قانا هي نسيبة لوالد يسوع لجهة أخته".
ومن العوامل التي جعلت من الرواية مصدرا تاريخيا، قدرتها على رسم الخارطة السياسية والاجتماعية للمجتمع اليهودي في ذلك الزمان، ونجاحها في تعريف القارئ على الثقافة التاريخية لليهود والاطلالة على المؤسسات الدينية اليهودية في ذلك العصر وتقسيماتها.
فعلى خلفية مسألة كيفية التعامل مع الرومان، وعن المسيح المنتظر وصفاته، وعلى ضوء الإجابات انقسم المجتمع اليهودي إلي عدة فرق متناقضة:
1 ـ الصدوقيون
ويشكلون معظم الطبقة الأرستقراطية، والمثقفة، ولكنها لا تؤمن بالمسيح المنتظر أو بقيامة الموتى. تعاملت هذه الطبقة بود مع المحتل الروماني لحماية مكتسباتها المادية.
2ـ الفريسيون
علماء الشريعة، ويؤمنون بالقيامة والمسيح والملائكة والأرواح ويتمسكون بحرفية التوراة والتلمود، قاوموا الرومان بانتظار المسيح المنتظر بحسب حرفية النصوص. وقد برز دورهم في نهاية الرواية بملاحقة المسيح واتهامه بالالحاد والكفر لادعائه أنه ابن الله، كما كان لهم دور في اختيار المسيح ليصلب بدلا من الأسير الآخر في المحاكمة الأخيرة.
3ـ الآسينيون
جماعات انعزلت عن المجتمع في مجتمعات منغلقة، وانخرطوا في عبادة الله مع طقوس طهارة صارمة.
4ـ القناؤون( الزيلوت)
اعتقدوا أنه تجب مقاومة الاحتلال الروماني بالقوة المسلحة بدلا من التعاون معهم أو الانعزال إلا أنهم تحولوا في النهاية إلي جماعات إرهابية.
5 ـ جماعة قمران
يعتقد البعض أنهم من الآسيين، وآخرون أنهم فرقة انبثقت عنهم وشاركت في مقاومة الرومان.
وقد ساهم السرد المفصل للواقع اليهودي بفرقه و توجهاته في جعل الرواية موسوعة تاريخية قيمة ، تعطي صورة ممتازة عن الواقع اليهودي قبل قدوم المسيحية. فيهود الناصرة غير يهود الجليل، و الانحلال و الانسلاخ عن الدين اليهودي في طبريا ليس كالذي في القدس.
وتطل الرواية على فساد المؤسسة الدينية اليهودية بأحبارها وكهنتها الذين يجنون لأنفسهم عشر المحاصيل من الشعب، ويأخذون ثمار القطاف الأول للهيكل، وكذلك أولى الحيوانات المولودة. كذلك يلتقي يهوذا بأناس مقربين من الأحبار أو الكهنة، يظهرون العفة والتقشف والايمان، فيما هو يحوزون على ثروات هائلة حصلوا عليها بطرق ملتوية وفاسدة. وهذا الفساد أشعل في يهوذا غضبا وحقدا ورفضا لهؤلاء بعد أن كان متعصبا لطائفته وتعاليم وطقوس ديانته.
وهذا الفساد يتجلى بأبهى صوره مترافقا مع صورة تجسد ثورة المسيح على هذا الفساد، في حادثة زيارة المسيح إلى الهيكل، حين يطرح طاولة الصيرفة صائحا: "بيت أبي ليس للتجارة، لقد جعلتم من بيت أبي مغارة للصوص". غير أن هذه الثورة ليسوع على تجار الهيكل وكهنته لم تزدهم الا غضبا وحنقا وخوفا من هذا المبشر الجديد، فتعاونوا مع الرومان في البحث عنه والقبض عليه، ثم دسوا أتباعا لهم بين الحشود للمطالبة باعدامه في المحاكمة الأخيرة.
وتظهر في الرواية أفكار قيمة خارج اطار موضوع الرواية، هي أشبه بومضة سريعة تترك بصمة في فكر القارئ ثم تخبو. ومن هذه الومضات، لقاء يهوذا في تجربته الجنسية الأولى بفتاة الهوى مريم في احدى مواخير أورشليم (ألتي ستغدو لاحقا مريم المجدلية التي ترافق يسوع وتلاميذه بشكل دائم). وأبرز ما علمته مريم ليهوذا هو أن يحب الناس بكل اختلافاتهم وتناقضاتهم، حتى البغايا وفتيات الهوى.
ولعل علاقة يهوذا بأرشيبوس الأثيني الذي يعلمه سحر البرهان، ومبادئ الفكر اليوناني، وكيفية الهجاء، والأهم، يعمله الشك والجدال، والحوار الذي دار بينهما، يحمل معان عميقة أغنت الرواية. فأثر الفكر اليوناني بدا واضحا في شخصية يهوذا لاحقا بحيث خرج من سذاجته وحكمه على الناس انطلاقا من موقفهم من الرومان، ليغدو ذا بعد فلسفي عميق في تفكيره وأحاديثه لاحقا مع يسوع. فأرشيبوس بمنطقه الحاسم وحججه القاطعة ولهجته اللاذعة السخرية التي أشعلت يهوذا غضبا في كثير من الأحيان، علمته في النهاية الاقلاع عن الايمان الأعمى وعن ايمانه باليقينيات وعن الانسياق الأبكم وراء من يدعون أنهم ممثلو الله. في الواقع، أهم ما علمه أرشيبوس ليهوذا هو أن الشك هو الوجه الآخر للحرية: "شكّ قليلا وسترى، سيكون هذا مفيدا لك. أقلع عن يقينياتك. الشك هو وجه الحرية الآخر، وهذا أصل عظمته". (ص 193)
ان أهم قيمة في رواية برولوجو هي أن تميزها ومغايرتها لا تنبع من نفي الطبيعية الألوهية للمسيح، أو حتى التشكيك فيما حدث قبل الصلب، كما تفعل العديد من النصوص كما في رواية دان بروان "شيفرة دافنشي" واعتراض الفاتيكان على الفيلم الذي صور هذه الرواية. الأمر أكثر عمقا وجدية من عدة تأويلات، لأن برولونجو لا يكتفي بأنسنة المسيح، والحديث عن أمه وأخوته، وخلافهم العائلي كما يحدث في أي عائلة، وكيف خذلوه عندما راح للتبشير في الناصرة، بل يعمد إلى إحالة ما بدأ به يسوع في تبشيره، إلى يوحنا المعمدان، ابن خالته، ويصور أن ولادة المسيحية، هي جزء من حراك شعبي، ومجتمعي في وجه الامبراطورية الرومانية. فقبل أن يلتقي يهوذا بيسوع، التقى ابن خالته يوحنا المعمدان على ضفة نهر الأردن حيث كان يعمد الناس ويخطب بهم خطابا عنيفا ويلعن هيرودس والرومان ويحرض ضدهم. فظن يهوذا أنه وجد ظالته ليكتشف لاحقا أنه غير مؤهل ليكون قائدا حقيقيا، لا سيما عندما نقل سلطته ان صح التعبير، إلى ابن خالته يسوع قائلا: "هذا هو رسول الله، وحمل الله، ذاك الذي يمحي خطيئة العالم" مشيرا إلى يسوع، في وقت كان يسوع يقف مذهولا غير مدرك لما يقوله المعمدان. وهذا يدل على أن يسوع لم يكن مدركا لنبوته ورسالته قبل أن يفتح يوحنا المعمدان عيني يسوع على تلك الحقيقة. كما فيه اشارة إلى أن المعمدان هو أصل ولادة المسيحية كونه بدأ يمارس التبشير وينتقد الطقوس اليهودية قبل يسوع.
لقد كان يهوذا رفيق نضال دائم الى جانب المسيح، ودافع عنه وأحبه، وحدث تماماً كما يحدث حالياً في زماننا الحالي، أن اختلف رفاق النضال والقضية فيما بينهم، وذهب كل منهم في اتجاه. في الوقت الذي أراد يهوذا، ثورة وعصياناً مسلحاً، أراد يسوع السلام والصلاة، والالتحاق بالله والتعويض عن عالم البشر الظالم، بوعدهم بعالم سماوي، أكثر عدالة وأماناً. ولعل ما كتبه مسيحيو روما الأوائل، وما فعلوه بالإنجيل، بعد أن تحول الدين المسيحي إلى دين الامبراطورية الرومانية، هو من فرغ المحتوى الحقيقي لعلاقة يهوذا الرفاقية والنضالية بيسوع، ومن ألبسه قبعة الخيانة، على هذا النحو الفظ، لٌيعلق عليها كل ما جرى من خطايا. إن القبلة بين يهوذا والمسيح، والتي يصورها التاريخ على أنها مرادف مجازي لغوي للخيانة، هي من أكثر القبلات والحوادث، غموضا والتباساً وتناقضاً وحباً أيضاً، لأنها معجونة بكل ما تمت إليه النفس البشرية، من مشاعر نبيلة وآثمة معاً، وإحساس عالٍ بالانتماء إلى قضية. قد تحتمل كل المعاني، لكن المعنى الوحيد الذي تخالفه، هو الكذب، لأن يهوذا اعتقد أنه يقدم حياة رفيقه قرباناً لقضيته، كانت صادقة وخائنة ومتطرفة في انتمائها، إلى الدرجة التي دفعت يهوذا إلى أقرب خشب تين في أرض فلسطين، ليلف حول رقبته حبل خلاصه، ويقول للعالم : وداعا.
لقد حمل يهوذا صليبه بطريقته الأكثر عذاباً وألماً. بعد يأسه من خلاص قضيته، وبعد أن قدم حياة صديقه الأغلى، قرباناً لها. ربما تكون هذه المغالطة التاريخية من مغالطات تاريخية كثيرة يجب إعادة النظر فيها، من أجل قراءة أكثر موضوعية للتاريخ، بعيداً عن تحريف الامبراطوريات والسلطات الرسمية، التي كانت تجيّر كل شيء لصالحها، وتفرغ كل حركات الثورة ضدها، من محتواها، لتصب في ذاتها وحدها. وربما نحن ميالون لتصديق خيانته، وتجريده من صفاته الإنسانية الأخرى، لأننا نريد دائماً من نعلق عليه الأخطاء والبشاعات، والآثام، لنثبت لأنفسنا أننا الأفضل.
بجملة واحدة، استطاع برولونجو اعادة تكوين التاريخ من خلال اعادة تكوين فلسطين التاريخية، بحيث لا يمكن للقارئ الا أن يشعر أنه يشهد على ولادة تاريخ جديد أمام عينيه، فوق تلك الصفحات الأربعمئة.
-تحولات
لين هاشم