شرف العائلة
كان الخريف والشتاء في عمان صعبين علي زوجي ابنتي صدام. في البداية كان لا يزال الأمر مشوقا. استقبلت مخابرات الدول الغربية وعلي رأسها وكالة المخابرات الأميركية بنهم ما كان عندهما من حكايات، وهو ما انطبق أيضا علي رولف إيكيوس، رئيس فريق التفتيش علي الأسلحة التابع للأمم المتحدة.
ولكن بعد أن روي لهم حسين كامل كل ما يعرفه عن برنامج التسليح العراقي، وبعد فشل أخيه صدام في تقديم معلومات علي درجة خاصة من الأهمية عن حياة النظام العراقي، بدأت الحياة اليومية الكئيبة في العاصمة الأردنية عمان تزحف سريعا عليهما وعلي عائلتيهما. لم يعد هناك من يهتم بهما، كما أن العراقيين في المنفي بمجموعاتهم المعارضة لم يريدوا أن تربطهم علاقة بهما لأن زوجي ابنتي صدام كانا مسؤولين بصفة شخصية عن جزء من القمع وبعض جرائم الحرب.
كان الانتقال من الحياة المترفة في مركز السلطة في بغداد إلي كيان كان يزداد ضآلة يوما بعد يوم في المنفي في عمان أشد مما كانا يتوقعانه، ارتفعت أصوات الاشاعات أن حسين كامل كان مشتاقا إلي البيت لأنه ليس في أحسن أحواله الصحية، كان عنده مشاكل نفسية عميقة.
ألمح الوزراء الذين تحدثت معهم ان مبعوث عائلة الخريبط القوية ذات النفوذ في مدينة الرمادي، توجه كوسيط للرئيس في زيارة لعمان، وعرض علي زوجي الابنتين حرية الحركة إذا أرادا ذلك.
كما أخبرهما بأن صدام يعدهما بألا يعاقبهما.
عودة الشقيقين
علي بعد ثلاثمائة كيلومتر من عمان وخمسمائة كيلومتر من العراق تمتد الحدود بين العراق والأردن في الصحراء العربية الجافة القاحلة. النقطة الحدودية علي الناحية العراقية اسمها «طريبيل». يقال إن هذا الاسم اشتق من كلمة trouble الانكليزية التي تعني المشاكل. لقي الآلاف من الجنود الإنكليز مصرعهم هنا في نهاية الحرب العالمية الأولي في حربهم ضد الأتراك عندما تحللت بقايا الدولة العثمانية.
هشام الغريري كان رئيس النقطة الحدودية عندما وصل حسين، وصدام وحاكم كامل مع زوجاتهم وأطفالهم في العشرين من فبراير من عام 1996 إلي طريبيل، لا أعرف ما السبب وراء عودتهم إلي العراق، لكنه تكون لدي الانطباع أن حسين كامل في المقام الأول لم يعد يتحمل الإقامة في عمان، وأنه بوصفه الأخ الأكبر قد أقنع الباقين بمصاحبته في طريق عودته إلي بغداد.
طبقا لأقوال الغريري فإن حالة حسين كامل كانت سيئة عندما وصل إلي طريبيل.
«كان كمن يسير وهو نائم. لم يكن حليق الذقن وكان يرتدي بيجاما عبارة عن قميص أبيض اللون وبنطلون أسود».
كان معه مسدس، أخذه منه الغريري طبقا لتعليمات الرئيس.
وكان صدام كامل مازال يرتدي البيجاما عندما دخل الحدود العراقية.
قصي وعدي أخذا شقيقتيهما
في أعقاب ذلك أعطي رئيس النقطة أوامره بأن تسلم رغد ورنا وأطفالهما إلي ابني الرئيس ليتوجها بهم إلي بغداد. كان قصي وعدي قد وصلا قبلهم مع حرسهما الخاص إلي طريبيل ليكونا في استقبال المجموعة القادمة من عمان.
سأل حسين كامل في استغراب: «لماذا»؟
أجابه الغريري: «هذا أفضل شيء لكما».
مسألة عائلية
بعد أن غادر ابنا وابنتا وأحفاد الرئيس المكان تم إرسال زوجي الابنتين في عربة خاصة تحت حراسة مشددة إلي بغداد.
بعدها بيومين أعلن في الصحف وفي التلفزيون أن رغد ورنا قررتا طلب الطلاق.
تزامن ذلك الإعلان مع الاحتفال بختام رمضان. تجمع صدام وعائلته في أحد قصور الرئيس في تكريت. لم يدع إلي عشاء العيد زوجا الابنتين المقضي عليهما.
«لقد وعدتهما بأنني لن أعاقبهما لهربهما إلي الأردن ولخيانتهما لي»، قالها صدام بعد أن التهم الحمل المُحمّر والأرز، وبعد أن قدمت الفاكهة والتمر. أخذ صدام يتأمل هذا الجمع الكبير ثم وجه ناظريه إلي علي حسن المجيد، عم زوجي الابنتين.
«ثم إنها مسألة عائلية».
العم، كان يكره أن يقول ما لا يلزم.
استعداد الأخوين
استقر حسين كامل وإخوته في داره في الجادرية المجاورة لبيت صدام حسين. لكن بعد أن سمع عويل وصياح النساء اللواتي دخلن المنزل قادمات من تكريت وهن ينقلن خبر عزم علي حسن المجيد القضاء علي الإخوة القادمين من الأردن، انتقل حسين، وصدام وحاكم كامل الي عند أخت لهم كانت تعيش هي وأطفالها الثلاثة في منطقة السيدية علي الأطراف الجنوبية لمدينة بغداد علي الطريق الشرياني المؤدي إلي بابل. هذا ما نقله لي أحد المضمدين العاملين في مستشفي ابن سينا.. الذي جاء ليعطي حسين كامل حقنة من البنسلين لعلاج التهاب اللوزتين الذي كان يشكو منه.
انضم إليهم أبوهم كامل المجيد في أثناء الليل، وأحضر معه أسلحة. كلهم كان يعرف ماذا ينتظرهم. سبق الاشاعات الخاصة بالاحتفال العائلي في تكريت قطيع الأقارب المسلحين تسليحا ثقيلا والذين أخذوا طريقهم باتجاه الجنوب لرد الكرامة المهدرة للعائلة.
في الساعة الخامسة صباحا وصل الأقارب الذين أصبحوا مع الوقت فرقة هجوم كاملة إلي هناك، وحاصروا المنزل الواقع في السيدية. غير أن «علي الكيماوي» لم تكن لديه الرغبة لقتل أخيه، لذا طلب من كامل المجيد أن يغادر المنزل مع ابنته والأطفال، ولكن كامل رفض.
كان كامل يلبس الكوفية المثبتة بعقال لُف حول جبهته مرتين. عندما أعاد علي حسن علي مسامعه أنه لا يريد قتل أحد سوي أبناء الأخ الذين سلبوا العائلة شرفها بهروبهم إلي الأردن، خلع كامل العقال، وقذف به تحت قدمي أخيه.
يعد ذلك في العالم العربي إشارة لا لبس فيها. قُضي الأمر. لم يكن هناك معني لمواصلة الحديث. من رمي العقال تحت الأقدام عليه هو نفسه تحمل عواقب الصراع.
مختلس مواد البناء
في بداية الموقعة أبلي حسين، وصدام، وحاكم كامل سويا مع والدهم بلاء حسنا. تكبد علي الكيماوي ورجاله بعض الخسائر. كان ثائر سليمان المجيد هو أول من أُصيب إصابة نارية مميتة، كان معظم العراقيين يعرفونه لأنه اختلس بعد نهاية الحرب مواد للبناء واسمنت كانت تخص وزارة الصناعة. اتهمته الصحف والتلفزيون، وقد أراد صدام أن يضرب من خلاله العبرة والمثل، فحبسه في السجن سنين عدة. في تلك الموقعة فقد ثائر سليمان حياته الفاسدة في القتال الدائر حول كرامة العائلة المهدورة.
بعده قتل أحمد عبد الغفور، أحد حرس صدام الشخصي، كان هو أيضا من الأقارب البعيدين للأربعة الذين كانوا يدافعون عن أنفسهم بمهارة في المنزل المحاصر.
كان ينتظرنا عمل هائل في مستشفي ابن سينا عندما بدأ نقل المصابين من العائلة. حكوا لي تفاصيل ما جري في هذا الصراع العائلي في تكريت وما تم فيه من تصفية حسابات في السيدية.
بعد ثلاث ساعات قرر علي المجيد استعمال قنبلة تعمل بالدفع الصاروخي ضد أخيه وأولاد أخيه حتي تدب الحركة في حرب الخنادق هذه.
حرب عائلية
عندما أصاب الصاروخ المنزل وانفجر لقي صدام وحاكم كامل، وأبوهما، وكذلك الأخت، وأطفالها الثلاثة الذين كانت أعمارهم تتراوح بين السنوات الثلاث والست مصرعهم. كانوا قد لجأوا إلي إحدي غرف الحمام في المنزل. وعندما نقلوا في أعقاب ذلك إلي مركز صدام لجراحة القلب في بغداد كانت أجسادهم جميعا محترقة احتراقا شديدا.
لم يقتل حسين كامل في هذا الهجوم الصاروخي وواصل القتال.
غربت الشمس، وكانت الدراما العائلية الدموية قد دخلت ساعتها الثانية عشرة حين استطاع صهر حسين كامل، أي جمال مصطفي، مــع ابــن عمــه الأصغر اقتحام المنزل. كان مصطفي متزوجا من حلا، أصغر بنات الرئيس، وكان من حرس صدام الخاص.
صدام عميل أميركي
تحصن حسين كامل بمدفع رشاش قصير يتصاعد منه دخان البارود علي بسطة السلم بين الطابق الأرضي والطابق الأول، بعدما قتل اثنين من أقاربه، وجرح اثنين غيرهما.
صاح حسين كامل بصهره السابق: «صدام رجل شرير. لا بد أن تتخلصوا منه، إنه عميل أميركي، ولا يمكن الوثوق به».
رد جمال مصطفي بوابل من طلقات من مدفع الطلقات القصير الخاص به. أصيب حسين كامل إصابة بالغة، غير أن صهره وابن عمه أصيبا أيضا، وسقطا علي الأرض. أُصيب حبيب، وزوج ابنة الرئيس السابق في بطنه، وأدرك حسين كامل أنها النهاية وبكل ما تبقي عنده من قوة نهض علي قدميه وسار مترنحا في الطريق وصاح: «أنا حسين كامل». كان يريد الموت واقفا.
غير أن المدفع الرشاش القصير لأحد أقاربه البعيدين أطاح به أرضا.
توجه «علي الكيماوي» إليه ووضع حذاءه علي وجهه، وهي أكبر إهانة لرجل عربي.
في أعقاب ذلك وضع العم مسدسه علي رأس ابن أخيه الذي هو تحت حذائه، وأفرغ فيه خزان مسدسه.
لم يشارك عدي، ولا قصي في القتال، ليس لأنهما لم يكونا راغبين في ذلك أو غير قادرين عليه، بل لأن والدهما كان قد وعد في آخر الأمر زوجي ابنتيه بألا يعاقبهما. كانت كلمة الشرف التي يقولها الرئيس ملزمة أيضا لابنيه.
رؤية من السيارة
غير أن الاثنين لم يدعا المشهد يفوتهما. كانا جالسين في سيارة في نهاية الشارع متمتعين بأفضل رؤية. من هناك أخذا يتأملان مشهد النهاية من بدايته إلي نهايته.
جمال مصطفي وابن عمه حبيب نجوا من الموت في القتال الملتحم. أجريت لمصطفي عملية جراحية في مستشفي ابن سينا. كانت عنده إصابات في البطن ، غير أن الإصابات لم تكن خطيرة. في الساعة العاشرة مساء ظهر صدام ليزور زوج ابنته. لم تبد عليه السعادة الحقيقية، لكنه كان متماسكا بحق، حينما وقف بجوار سرير المريض.
سمعته يقول: «لا أعرف كيف خطر علي بال هذا الرجل أن يغادر العراق، ولا كيف خطر علي باله أن يعود».
بالطبع كان يقصد حسين كامل.
رغد: كنت أتمني ألا نعود
بعدها بشهرين كنت عند رغد، أرملة حسين كامل، في منزلها، لأجري لها جراحة صغيرة. كانت تلبس السواد، وبدا عليها الحزن العميق.
تمنت لها الممرضة التي رافقتني الشفاء.
ردت رغد قائلة: «كان من الأفضل لو تمنيتِ لي ألاّ أعود»، ومع ذلك أضافت قائلة: «يا ليتني أبني لذكري زوجي مسجدا».
بعد شهرين ذهبت مرة أخري الي عند رغد لأنهي علاجها. كانت لا تزال تلبس السواد.
كنت أُجري كواء باستعمال موصّل كهربائي لإيقاف بعض أشكال النزيف الصغير ولإزالة بعض الأنسجة، وهي وسيلة مألوفة ولكنها تستلزم أن يتم توصيل المريض كقطب سالب أرضي بواسطة ناقل كهربائي (الإلكترود) يتم تثبيته علي الظهر أو علي الفخذ. فإذا لم يفعل ذلك يتلقي المريض صدمة كهربائية.
تلقت رغد صدمة كهربائية، ورأيت كيف ارتعشت عندما وضعت الموصّل عليها. كانت الممرضة مهملة ولم تثبت الإلكترود علي الابنة الكبري للرئيس كما تنص عليه التعليمات.
لحسن الحظ لم تكن صدمة قوية.
قلت لها: «الحمد لله»، وأحسست بطبيعة الحال بالارتياح أن رغد لم يصبها مكروه، ومع ذلك قلت لها: «كنت سأواجه مشاكل حقيقية لو أصابك مكروه».
نظرت رغد إليَّ.
«علي العكس. لا تشغل بالك. كان سيهلل من الفرح».
كانت تتحدث عن والدها.
200 بيت
ترك حسين كامل بعد مقتله بعض الأشياء ذات القيمة. عندما كان لا يزال خادما في عهد صدام من دور وعمارات. استدعيت محاميته للقاء صدام لتقدم كشف حساب عن قيمة ما كان لديه.
«اضطررت أن أخبره»، هذا ما قالته لي المحامية عندما اتت إلي عيادتي لإجراء جراحة صغيرة.
كانت ثروة حسين كامل تتمثل فيما يزيد علي مائتين من البيوت، والمحال، وغيرها من الأراضي في بغداد وبجوارها. لم يكن يملك شيئا باسمه، غير أن المحامية كان لديها ما يلزم من إحاطة شاملة بالأمر. عادةً كانت ممتلكات «الخونة» تؤول إلي خزينة الدولة، وكانت تصادر مباشرة بعد الإعدام.
روت لي المحامية: «في حالة حسين كامل قرر الرئيس أن تؤول الممتلكات إلي رغد وأطفالها».
بفضل مجهودات وبراعة الأطباء الفرنسيين استطاع وطبان بعد عام أن يقف ثانية علي قدميه، غير أنه كان يعرج وكانت عنده مشاكل ضخمة اثناء السير.
وكما كان متوقعا حُمّل جابر محمد ظافر، الصديق الحميم لعدي وسكرتيره الشخصي، مسؤولية ما حدث وجعلوه كبش فداء للمصير المر لوزير الداخلية. قُدم للمحاكمة وحكم عليه بالإعدام، لكن بعد ستة اشهر عفا عنه صدام وأطلق سراحه. أراد عدي أن يستعيد جابر مكانه كصديق وسكرتير، إلا أنه ــ لأسباب مفهومة ــ كان قد طفح به الكيل، ورفض.
هرب آخر
عندما هرب ابن آخر من أبناء الأخ في عام 2002 إلي الأردن، كان في هذا ضربة قاسية لكرامة عائلة «علي الكيماوي». في هذه المرة الهارب هو علاء سليمان المجيد أمام إغراءات حياة جديدة أفضل خارج حدود العراق. وكان علاء هو اخ ثائر المجيد الذي لقي مصرعه علي يد حسين كامل في هذا الصراع العائلي الذي نشب في السيدية في فبراير من عام 1996.
بعد عدة شهور نجح إخوة علاء في إقناعه بالعودة إلي بغداد. هو أيضا لقي مصرعه رميا بالرصاص لأنه بهروبه إلي الخارج سلب العائلة شرفها.
كان اخ علاء، أي سلام، هو من قاد عملية الاغتيال. كان واحدا من أهم الحرس الخاص لصدام، وقد ظهر ـ بعد سقوط بغداد في العام الماضي ـ هو وبعض إخوته ووالده في التلفزيون ليدلوا بدلوهم، حيث ادعوا أن الرئيس، الذي كانوا يكرهونه ويزدرونه، قد أكرههم علي اغتيال علاء المجيد.
«إذا كنت تكره صدام لهذه الدرجة فلماذا لم تقتله»؟، كان هذا هو السؤال الذي طرح عليه.
ظل مدينا لنا بالإجابة، وفي كل منطقة الشرق الأوسط تضاحك الناس من هذه الهالة القدسية المصطنعة من جانب الأب والإخوة.