آخر الأخبار

فنّ الإصغاء مشكلة سوريا


مع التطور العلمي والمعرفي والحقوقي الذي بلغته الحضارة البشرية, ما زال المجهول( في اللاوعي وخارج الوعي) هو الأساسي والرئيسي مقارنة بالمعلوم والمعروف على الصعيدين الفردي والمشترك. على الأقل هذا رأي شخصي.
لست في وارد الرد على أحد, وليس في نيتي, لا المقدرة ولا الرغبة لإعطاء الدروس, كل ما في الأمر عرض لتجربتي وفهمي للثقافة الليبرالية في سوريا وجوارها, ومحاولة الحوار بالدقة والوضوح الممكنين.
ألا توجد نزعة ثقافية ليبرالية(سورية وعربية) وخيار فردي ليبرالي بجوار الثقافة الإسلامية والقومية والماركسية والتوجهات الفردية المرافقة لها؟
أعتقد بوجود ثقافة ليبرالية ناشئة, تحمل من السمات المحلّية الكثير, كما تحمل آثار الثقافات الأخرى, وهي متغيّر دائم مع توجهات ومحاور ثابتة, في جوهرها قضية الفرد والموقف منه. يختلف الأمر كثيرا في البلاد الأخرى التي حققت حداثتها في السياسة والاقتصاد والفكر, عن بلادنا التي يكفي التفكير العلني بالثوابت(التي تغطّي حياتنا من الرحم إلى القبر) ناهيك عن الخروج عليها ليصبح هذا الخائن في موقع الخطر الفعلي, من الأسرة والمجتمع قبل السلطة.

*
قضايا: حقوق الإنسان والديمقراطية والحقوق الفردية الأساسية في الاعتقاد والتفكير والتعبير والتملك والممارسة, هي مفاهيم مختلفة في البلاد والثقافات العصرية لكنها في بلادنا شيء واحد مع الليبرالية, لأننا ما زلنا نعيش دون مرحلة الفرد والمؤسسات الحديثة وعلى رأسها الأسرة والسلطة.
لماذا تسمية ليبرالي وليس ديمقراطي أو مناصر لحقوق الإنسان أو حداثي إلى آخر التسميات المستهلكة و المفرّغة من مضمونها الأصلي!؟
الحالمون بعودة الخلافة الإسلامية مع حلفائهم اليوم, الحالمون بثورة البروليتاريا
ومعهم من يريدون دولة واحدة من طنجة إلى الخليج الفارسي, اختزلوا المشروع الديمقراطي بصندوق الاقتراع, ووضعوا العربة أمام الحصان عن عمد أو غفلة.

حقوق المريض والطفل والمرأة والمختلف والفقير والعاطل عن العمل, ليست على أجندة جمعيات حقوق الإنسان في بلادنا, وفي حال وجودها لا تتعدى الشعار والعناوين العالية, مع أهمية رفع قانون الطوارئ وإلغاء السجن السياسي, توجد قضية حقوقية أكثر إلحاحا و في مقدمة انتهاكات حقوق الإنسان لكنها أقل جاذبية بكثير, هي التعذيب الدائم في دوائر الشرطة والأمن للمتهمين القضائيين, سيما أنهم من السواد الأعظم, وحقهم في العيش لم يعترف به.

*

ما علاقة ذلك بالإصغاء؟
الأفكار الموروثة والمستقرة بعيدا عن الوعي, تتحكم بالمواقف والسلوك وتأثيرها أعمق وأبعد أثرا من بقية العوامل التي تقود حياة الأفراد والمجتمع.
يبدأ التحرر من مواجهة أفكارنا الخاصة, نقدها وتجاوزها, عبودية الإنسان للفكرة أشدّ أنواع العبودية قسوة وأكثرها انغلاقا. الأفكار أنتجت وتمّت صياغتها بالشكل المتداول الآن, في الماضي ومن قبل آخرين, وأسلاف بالتحديد, وهي مصدر دائم لتزييف الوعي, وعائق دائم أمام الحضور والتحقق الآن هنا. الفكر والتفكير ليسا مترادفين على العكس هما متناقضان غالبا. يعمل الفكر على الثبات والجمود, ويعمل التفكير على التحرر من ثقل الماضي, الموجود دوما بدرجات تفوق الحاجة للفرد وللمجتمع على السواء. لا خوف من خسارة الماضي إلا عبر خسارة الحاضر. فنّ الإصغاء والتلقّي مشكلة سوريا الأولى, كما هي مشكلة جميع البلاد القديمة التي تختزلها ثقافة الاستبداد, الوجه الآخر لثقافة الموت.
ما زلنا نستعيد في أنشطتنا المختلفة, في الحوارات والخصومة والممارسة, النماذج والمعايير من الماضي البعيد, الأوربي أو الأمريكي أو الإقليمي, متناسين أن عصرا جديدا ولد مع موت الاتحاد السوفييتي, وأن العصر الذي كان يستمر لألف عام صار ينتهي, ويبدأ عصر جديد تماما خلال أقل من عشرة أعوام.
أشعر بالأسى والأسف لدى قراءتي ومتابعتي للجدل البيزنطي حول الوطنية والخيانة!ذلك ليس حوارا وإن جذب إليه بعض الشخصيات التي تحاول التفكير وتسعى للحوار.
ثقافة الليبرالية الناشئة في سوريا وجوارها,قوامها ومحورها ومعناها,الفرد هبة الوجود الأسمى, فليمارس إبداعيّته الخاصة بالصورة التي يراها.
الكفر والخيانة والشذوذ والمروق جميعها حمولات الماضي الشقي, كفى اختزال المجتمعات في كرسي الحكم أو كرسي الإعدام, وكفى طغيان السياسة العقيمة على الإبداع والمعرفة والحضور.
لقد خاض الإنسان تجارب كثيرة
وسمّى كثيرا من السماوات
منذ أن كنا حوار,
وكان بوسعنا أن يسمع بعضنا البعض الآخر.
أعتقد أن هولدرلين برسالته اليائسة تلك التي وجهها للألمان, قبل عصر السيارة والطائرة والكهرباء والانترنيت, يتوجه بها اليوم إلى بلادنا القديمة المتعبة.