سالفاج الجافة (III)
(The dry salvage هى فى الأصل Les trois souvages، وهى مجموعة صغيرة من
الصخور
عليها فنار بالقرب من الشاطئ الشمالى الشرقى لكيب آن فى ماساشوستس، وتنطق
سالفاج بحيث تسجع مع Aswage {بسكون الجيم وتعطيشها بالعربية}، والنائح هو طوف
عائم يصدر صفيرا)
1
لا أعرف الكثير عن الآلهة، ولكنى أعتقد أن النهر؛
إله أسمر قوى متبرم جامح لايكبح،
صبور الى حد ما، عرف فى أول الزمان كحدود،
مفيد ولايوثق به كناقل للتجارة،
ثم مجرد مشكلة تعترض بنائى الجسور،
وإذا حلت المشكلة مرة؛ كاد السكان فى المدن
أن ينسوا الإله الاسمر.
ولكنه ظل قاسيا
محافظا على غضباته ومواسمه، مدمرا مذكرا
بما اختار الناس أن ينسوا، لايكرمه ولا يسترضيه
من يعبدون الماكينات، ولكنه ينتظر، يراقب وينتظر.
إيقاعه كان حاضرا فى غرفة المهد
وفى صفوف الأزهار على مداخل ابريل،
وفى عبق الأعناب على مائدة الخريف،
وحلقة المساء حول قنديل الشتاء.
النهر فى داخلنا، والبحر فيما حولنا،
والبحر حافة الأرض أيضا، والجرانيت الذى يصل منه الى الشواطئ التى يقارعها،
وكناياته عن خلائق قديمة وغيرها؛
نجم البحر وسرطان الحدوة وفقرات الحوت،
والبرك التى يقدم فيها الى فضولنا الطحلب الأزرق وشقائق النعمان.
يقذف بخسائرنا، بالشبكة الممزقة
والاناء المشروخ والمجداف المكسور ومتاع موتى غرباء،
للبحر أصوات كثيرة آلهة كثيرة وأصوات كثيرة
الملح فى زهرة الخليج،
الضباب فى شجرة السرو.
عصف البحر وعواءه صوتان مختلفان؛
غالبا مايسمعان معا: النحيب فى حبائل الشراع
التوعد والملاطفة للموجة
التى تنكسر على المياه
والهدير البعيد على أسنان الجرانيت،
والعويل المحذر من الأرض المقتربة،
كلها أصوات بحر، والنورس والنائح الزافر
متوجهان الى أرض الوطن.
وتحت ضغط الضباب الصامت
الجرس الداق يقيس الزمن، لازمننا تدقه حدبة الأرض المتمهلة،
بل زمن أقدم من زمن الساعات،
أقدم من زمن تعده النسوة القلقات المهمومات،
راقدات مستيقظات تحسبن المستقبل،
تحاولن نسل النسيج وحل الخيط والعقد،
ولصق الماضى بالمستقبل بين منتصف الليل والفجر حينما يكون الماضى كله خداعا،
والمستقبل بلا مستقبل، قبيل ساعة الصباح، حين يتوقف الوقت وأبدا لاينتهى
الزمن،
وحدبة الأرض الكائنة التى كانت من البداية؛
يدق الجرس.
2
أين منه النهاية ذلك العويل الساكن،
الذبول الصامت لأزهار الخريف،
تسقط بتلاتها وتبقى بلا حراك،
أين منه النهاية ذلك الحطام المنجرف،
صلاة العظام على الشاطئ،
التى لاتقام فى النذير الفاجع.
لانهاية بل أحداثا تباعا،
قاطرة لأيام وساعات أخر،
حين يطوى الانفعال مالاينفعل،
سنوات حياة بين الحطام،
لما كان يعتقد أنه الأجدر بالثقة،
ولذا فهو أحق بالجحود.
بل هناك الخاتمة النهائية؛ السقوط،
والشيخوخة أو الأشياء عندما تنهار القوى،
الولاء الحر الذى قد يفسر بالكفران،
فى مركب منجرف يتسرب إليه الماء بطيئا،
إنصات صامت لمالا ينكر،
ضجيج الجرس بالبشارة الأخيرة.
أين منهم النهاية الصيادين المبحرين،
فى ذيل الريح حيث يرتعد الضباب،
لانتصور زمنا بلا محيط،
ولا محيطا تغشاه النفايا،
ولا فى مستقبل خئون،
مثل الماضى لااتجاه له.
لامناص من أن نفكر فيهم ينضحون دوما،
يبحرون ويرسون عندما تهبط الريح الشمالية الشرقية،
على الشواطئ الضحلة فى إصرار لاينكسر،
أو يقبضون أجورهم ويجففون قلاعهم على المراسى،
لا مثل القيام برحلة لن تدر أجرا،
لسفر لن يصمد للاختبار.
لانهاية له ذلك العويل الصامت،
لانهاية لذبول الأزهار الذابلة،
لحركة الألم بلا ألم ولاحركة،
لجرف اليم والحطام المنجرف،
صلاة العظام للموت ربها، بالكاد تلك الصلاة،
التى تقام للبشارة الوحيدة.
يبدو أنه كلما أوغل المرء فى العمر
يكتسب الماضى شكلا آخر ولا يصير مجرد حدث،
أو حتى تطورا، فالتطور ضلال جزئى،
شجعته أوهام تقدم سطحية،
تصير فى عقل العامة وسيلة للتخلى عن الماضى.
لحظات السعادة لامعنى الرفاهية،
لا الإثمار ولا الإنجاز ولا الأمان ولا الوجد،
ولا حتى عشاءا دسما؛ بل التجلى الفجائى.
لقد خضنا التجربة وفاتنا المغزى،
فالاقتراب من المغزى يعيد التجربة
فى شكل مختلف وراء كل معنى
يمكن أن نضفيه على السعادة. لقد قلت قبلا أن الخبرة الماضية التى تحيا فى
المعنى
ليست خبرة حياة واحدة فقط؛
ولكن حياة أجيال عدة، دون أن ننسى شيئا ربما استحال التعبير عنه؛
النظرة الخلفية الواثقة
للتاريخ المسجل، ونصف النظرة الخلفية
عبر الكتف نحو الرعب البدائى.
الآن نأتى الى اكتشاف أن لحظات الألم
(سواء كانت أو لم تكن نتيجة سوء فهم بعد أن أملت فى الأمور الخطأ أو كرهت
الأشياء الخطأ، ليست موضعا للتساؤل)
دائمة هى أيضا مثل دوام الزمن،
فنحن نفلح فى تقديرها فى ألم الآخرين الذى نكاد نعانيه وندمج فيه أنفسنا أكثر
من عذابنا نحن،
حيث أن ماضينا تغشاه تيارات الحركة،
ولكن عذاب الآخرين يبقى تجربة
لايضارعها ولا يبليها تعاقب الندم.
الناس يتغيرون ويبتسمون، لكن يقيم العذاب.
الزمن المدمر هو الزمن الحافظ،
مثل النهر بحمولته من الزنوج الموتى والابقار وأقفاص الدجاج.
التفاحة المرة والقضمة فى التفاحة،
والصخرة الرثة فى المياه القلقة،
تكسوها الأمواج ويحجبها الضباب.
وفى أيام السكينة فليست سوى نصب.
وفى أجواء الملاحة دائما علامة بحرية.
أو فى مداهمة الغضبات هى ماكانت عليه أبدا.
3
أحيانا أعجب ما إذا كان هذا ماعناه كريشنا ـ بين أشياء أخرى ـ أو أنها طريقة
لقول نفس الشيئ؛
أن المستقبل أغنية باهتة، وردة ملكية أو رذاذ عطرى،
تثير مشاعر الأسف على أولئك الذين لم يعودوا هنا ليأسفوا،
مضغوطة بين أوراق كتاب صفراء لم تفتح أبدا،
والطريق الى أعلى هو الطريق الى أسفل، وإلى الأمام هو الى الخلف،
لايمكنك أن تواجهها مباشرة، ولكن من المؤكد
أن الزمن لبس طبيبا شافيا، فالمريض لم يعد هنا،
حين يقوم القطار ويكب المسافرون
على الفاكهة والمجلات وخطابات الأعمال
(وأولئك الذين ودعوهم قد تركوا الرصيف)
تنتقل سحناهم من الحزن الى الراحة،
مستسلمة للايقاع النعسان لساعات مئة،
سافروا قدما ياراحلين، لاأنتم هاربين من الماضى
الى حياة أخرى أو الى مستقبل أخر؛
لستم نفس الناس الذين تركوا المحطة،
أو الذين سوف يصلون إلى أى نهاية،
بينما القضبان التى تضيق تنزلق خلفكم،
وعلى سطح المركبة الداقة،
تراقبون السهول التى تتسع ورائكم،
فلا تظنوا أن الماضى قد انتهى،
أو أن المستقبل أمامنا.
ففى الغسق صوت يترنم فى الحبال والصوارى،
(قوقعة الزمن الهامسة ولكن ليس الى الأذن، ولا بأى لغة)
سافروا قدما يامن تظنون أنكم تسافرون،
لستم أولئك الذين رأوا المرفأ يتباعد،
ولا هؤلاء الذين سوف يحطون رحالهم،
بين الشاطئ الأدنى والشاطئ الأبعد،
بينما ينفلت الزمن، تأملوا فى المستقبل
والماضى بعقل واحد،
واللحظة التى لاهى فى حركة ولا فى سكون.
تستطيعون أن تتقبلوا هذا "على أى مدار من الكينونة،
فعقل الانسان سوف يكون مجتهدا ساعة الموت"
وهذه هى الحركة الوحيدة.
(وساعة الموت هى كل لحظة)
والتى سوف تثمر فى حياة الآخرين،
فلا تفكروا فى ثمار الحركة.
سافروا قدما يامسافرين ياملاحين،
يامن يأتون الى المرفأ ويامن أجسادهم
سوف تعانى حكم البحر وقضائه،
أو أية نوائب.
تلك هى وجهتكم الحقيقية؛
مثلما قال كريشنا ناصحا آرجونا فى ساحة الوغى:
"لاسفرا سعيدا ..
بل سفرا قدما يامسافرين".
4
سيدتى؛ يامن يقوم محرابك فوق الأكمة،
صلى لأولئك الذين فى السفن،
وأولئك الذين يعملون بالسمك،
وأولئك الذين يعملون فى كل سفر مشروع،
وأولئك الذين يقودونهم،
وصلى أيضا للنسوة الائى شهدن أزواجهن وأبنائهن يرحلون ولم يعودوا،
ياابنة ابنك ياملكة السموات
وصلى أيضا لأولئك الذين الذين كانوا فى الفلك
وأنهوا حياتهم على الرمال فى شفاه البحر،
أو فى الحلق المظلم الذى لن يلفظهم،
أو حيث لايصلهم صليل جرس البحر،
وجرس صلاة البشارة الدائمة.
5
للاتصال بالمريخ ومخاطبة الأرواح
للابلاغ عن سلوك وحش البحر
ووصف حظ الأفلاك والكهانة والتقصى،
واستنتاج الأمراض من التوقيعات واستنباط الحياة من تجاعيد الكفوف،
والمآسى من الأصابع، وإطلاق الفأل من تنوة البن أو أوراق الشاى،
وحل ألغاز المحتوم بأوراق اللعب والعبث بالخماسيات،
أو بأحماض الباربيتوريك أو تشريح الصورة المتغيرة الى أهوال ماقبل الوعى،
لاستكشاف الرحم أو القبر أو الأحلام؛
كل هذا اعتيادى.
تضييع وقت ومخدرات وموضوعات للصحافة،
ـ وسوف تكون دائما ـ حين تغشى الامم المحن والحيرة،
سواء على شطئان آسيا أو فى إدجواير رود.
إن فضول الناس ينقب فى الماضى والمستقبل، ويتعلق بذلك البعد،
ولكن فهم النقطة التى تفصل اللازمنى عن الزمن،
هى وظيفة القديس.
وليست حتى وظيفة، ولكن شيئا يمنح ويمنع فى فناء حياة بأكملها فى الحب،
والشوق والتفانى والتسليم،
وليس هناك لمعظمنا سوى سوى اللحظة المنفصلة،
اللحظة داخل الزمن وخارجه،
ونوبة الذهول فى شعاع من ضوء الشمس،
والزعتر البرى لايرى، أو برق الشتاء أو مساقط المياه،
أو الموسيقى التى تسمع بعمق حتى أنها لاتسمع بتاتا،
ولكنك أنت الموسيقى طالما عزفت الموسيقى،
هذه ليست سوى إشارات وتخمينات،
إشارات تتبعها تخمينات والبقية صلاة وملاحظة ونظام وفكر وحركة،
فإذا انتصف تخمين الإشارة، وإذا انتصف فهم المنحة فهو التجسد.
وهنا يصبح الاتحاد المستحيل لمدارات الوجود واقعا،
هنا ينهزم الماضى والمستقبل ويتصالحان؛
حيث لم يكن الفعل سوى حركة
لما يدفع وليس فيه مصدر لحركة
تسوقه قوى شيطانية ممسوسة.
والفعل الصحيح هو الحرية
من الماضى والمستقبل معا.
ولمعظمنا فهذا هو الغرض
الذى لم نعد هنا لنتعرف عليه؛
فنحن لم نهزم لأننا واظبنا على المحاولة،
ونرضى فى النهاية
إذا ماغذى تحول رفاتنا الزمنى
(غير بعيد من شجرة السرو)
حياة تربة خصيبة.