كان الشعر سلاحاً ماضياً في أيدي شعرائنا القدامى يتهددون به أعداءهم ويهجون خصومهم وكان إلى ذلك سبيلاً إلى اكتساب المال من الممدوحين، ولكنه كان سلاحاً ذا حدّين ربما أدى إلى إلقاء الشاعر في هاوية الهلاك، حين يكون المهجو من أولي البطش والفتك، أو من ذوي السلطان القادرين على إهلاك من يتعرض لهم بهجو أو نقد، وفي هذه الأحوال تصدق مقولة "ومن الشعر ما قتل" قياساً على مقولة شاعرنا الأخطل الصغير، "ومن العلم ما قتل".
وسوف أتحدث عن هؤلاء الشعراء مع بيان الدافع إلى قتلهم بدءاً من العصر الجاهلي حتى العصور المتأخرة.
ـ 1 ـ
طَرَفة بن العبد
ينتمي طرفة بن العبد إلى بني مالك بن ضُبيعة، من بطون قبيلة بكر بن وائل، وهو أحد أبرز الشعراء الجاهليين، جعله بعضهم ومنهم لبيد بن ربيعة ثاني شعراء الجاهلية بعد امرئ القيس، وفضّل ابن قتيبة في الشعر والشعراء معلقته على سائر المعلقات فقال: "وهو أجودهم طويلة"، ولكن لم يؤثر عنه إلا أشعار قليلة، ولعل ما يفسر قلة شعره مقتله المبكر وهو في السادسة والعشرين.
وتذكر الأخبار في سبب قتله أنه كان وخاله المتلمس، وهو من شعراء الجاهلية أيضاً، ممن يفدون على ملك الحيرة عمرو بن هند "عمر بن المنذر" وكان بهما حفياً، وكان لطرفة بن العبد ابن عم اسمه عبد عمرو بن بشر، ولم تكن صلة طرفة به صلة الود والمحبة وإنما كان الود مفقوداً بينهما لسوء سيرته مع أخت طرفة، فهجاه طرفة بأبيات يسخر بها منه فيقول:
ولا خير فيه غير أن لـه غنىً
وأن لـه كَشحاً إذا قام أهضما
وأن نساء الحي يعكفن حولـه
يقلن عسيبٌ من سَرارةِ مَلْهَما
كان من سادة قومه، وكان سميناً بادناً. فأسرّها ابن عمه في نفسه. وكان له منزلة رفيعة عند عمرو بن هند.
ثم إن ابن هند وكل إلى طرفة وخاله المتلمس ملازمة أخيه قابوس بن المنذر، وكان قابوس فتى عابثاً لا يشغله إلا اللهو والقنص والشراب، فوجدا عناءً في ملازمته، وربما أنفقا اليوم كله في الوقوف ببابه، حتى ضاقا ذرعاً بالأمر، فنقما عليه وعلى أخيه عمرو بن هند لإذلالهما على هذا النحو، وكان طرفة فتى جريئاً لا يبالي بعواقب الأمر، فجرى على لسانه هجاء في عمرو بن هند وأخيه قابوس، قال فيه:
فليت لنا مكان الملك عمرو
رَغَوثاً حول قبتنا تخورُ
لعمرك إن قابوس بن هند
ليخلط مُلكَه نَوك كثير
فقد تمنى طرفة لو أنهم بدلوا بعمر بن هند نعجةً تخور حول خبائهم، ورمى أخاه قابوساً بالحمق، ولكن عمرو بن هند لم يبلغه هذا الشعر، وكان طرفة قال قبل ذلك شعراً يتغزل فيه بأخت عمرو بن هند، وقد رأى ظلها، فقال:
ألا بأبي الظبي الذ
ي يبرقُ شِنْفاهُ
ولولا الملك القاعـ
ـد قد ألثمني فاه
فغضب عمرو بن هند على طرفة ولكنه أسرها في نفسه. واتفق بعد ذلك أن ابن هند خرج إلى الصيد ومعه ابن عم طرفة، فأصاب حمار وحش، فطلب الملك إلى عبد عمرو أن ينزل إليه فأعياه، فضحك عمرو بن هند، وقال له: لقد أبصر طرفة حسن كشحك حين قال شعره فيك، وفي رواية أخرى أنه شاهد كشحه وهما في الحمام، فأجابه عبد عمرو: إن طرفة قال فيك ما هو أقبح من هذا الشعر، وروى له ما قاله طرفة في هجائه، فاشتد غضبه، ولكنه لم يشأ أن يقتل طرفة فوراً، اتقاء لغضب عشيرته، فدعاه ودعا خاله المتلمس، وكان قال أيضاً شعراً في هجاء ابن هند، وقال لهما: أمضيا إلى عامل البحرين فقد أمرت لكما بجائزة، ودفع إليهما بكتاب مختوم إلى عامله، وقد أمره فيه بقتلهما.
أما المتلمس فقد شك في حسن نية ابن هند، وقال لطرفة: يا طرفة إنك غلام غِرّ حديث السن، والملك من قد عرفت حقده وغدره، وكلانا قد هجاه، فلست آمناً أن يكون قد أمر فينا بشرّ، فهلم ننظر في كتابينا، فإن يكن أمر لنا بخير مضينا فيه، وإن يكن أمر فينا بغير ذلك لم نهلك أنفسنا. فأبى طرفة أن يفك خاتم الكتاب.
فدفع المتلمس كتابه إلى غلام من غلمان الحيرة يحسن القراءة، فإذا به أمر بقتله، فألقى الكتاب في نهر الحيرة ونجا بنفسه لاجئاً إلى ملوك الشام، ونصح طرفة أن يصنع صنيعه، ولكن طرفة المغرور بمنزلته والمعتز بمنعة قومه لم يصخ لنصيحته وقال لخاله: إن كان اجترأ عليك فما كان ليجترئ علي. وهنا تختلف الروايات في مقتلة، فتذكر إحداها أن طرفة مضى إلى عامل البحرين بهجر وأعطاه كتاب ابن هند، وكان العامل من ذوي قرباه، فنصح لطرفة بأن ينجو بنفسه من ليلته هذه قبل أن يدركه الصبح، فأبى طرفة وأساء الظن بقريبه، واتهمه بأن يرغب في حرمانه من الجائزة. فسجنه العامل، وبعث إلى ابن هند طالباً إعفاءه من عمله لأنه لا يرغب في قتل طرفة، فأقاله ابن هند واستعمل مكانه رجلاً من تغلب، فدعا بكر بن وائل، قوم طرفة، وقرأ عليهم كتاب ابن هند، فهموا بقتل العامل، وعاجلهم التغلبي فأمر بقتل رجلاً من عبد القيس بقتل طرفة، ففعل. ثم طالب معبد أخو طرفة بديته، فأعطيت لـه من بني عبد القيس. وتذكر الرواية أن قبره معروف بهجر.
وتذهب الرواية الأخرى إلى أن عمرو بن هند بعث بطرفة والمتلمس إلى عامل البحرين الربيع بن حوثرة، فأخذه الربيع فسقاه الخمر حتى أثمله، ثم فصد أكحله، فمات. وفي اسم قاتله خلاف بين الروايات. وقد قالت الخرنق، أخت طرفة، وكانت شاعرة مجيدة، أبياتاً في رثاء أخيها طرفة منها قولها:
عددنا له ستا وعشرين حجة
فلما توفَاها استوى سيّداً ضخماً
فُجعنا به، لما رجونا إيابه
على خير حال لا وليداً ولا قَحْما([2])
ـ 2 ـ
عبد بني الحَسْحاس
أحد الشعراء المخضرمين بين الجاهلية والإسلام، واسمه سُحيم، وكان عبداً أسود نوبياً أعجمياً، اشتراه بنو الحساس، وهم بطن من قبيلة بني أسد، وكان ينطق العربيّة بلكنة نوبية، ولكنه أوتي ملكة الشعر، فكان إذا أنشد يبدي إعجابه بشعره فيقول: أهشنت والله، مكان: أحسنت.
يقال إنه أدرك النبي عليه الصلاة والسلام وإنه تمثل بشطر من شعره ولكنه قدّم وأخر في الكلمات وأنقص من لفظه فاختل الوزن قال عليه الصلاة والسلام:
كفى بالإسلام والشيب ناهياً
فقال له أبو بكر: يا رسول الله، كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً.
ولما لم يستقم للرسول e روايته على وجهه قال له أبو بكر: أشهد أنك رسول الله )وما علمناه الشعر وما ينبغي له( [سورة يس الآية 69].
وكان سُحيم يدفع عن نفسه معرّة السواد بما يتحلى به من حميد الخصال نحو قوله:
إن كنت عبداً فنفسي حرّة كرماً
أو أسود اللون إني أبيضُ الخُلق
وكان، على سواد لونه وضعة أصله، يتغزل بالنساء الحرائر ويهجو الأشراف، وقد تنبأ عمر ابن الخطاب، رضي الله عنه، بقتله حين سمعه، مرّة ينشد متغزلاً:
توَسّدني كفّاً وتثني بمعصم
عليّ وتحوي رِجلها من ورائيا
فقال له عمر: ويلك، إنك مقتول.
وقد اجترأ سحيم على التشبيب بنساء مواليه وقال أبياتاً يشبب فيها بأخت مولاه، وكانت عليلة، وأولها:
ماذا يريد السَّقام من قمر
كلّ جمال لوجهه تَبَعُ
فلما أفرط في التغزل بنساء مواليه ووصف محاسنهن الظاهرة والخافية عزموا على قتله، فلما قدموا به ليقتلوه لم يمنعه موقفه وهو على شفا الهلاك من قول بيتين يظهر فيهما استهانته بالموت ويفخر بما صنعه بنساء مواليه، قال:
شدو وثاقَ العبد لا يفلتكم
إن الحياة من الممات قريبُ
فلقد تحدّر من جبين فتاتكم
عرقٌ على متن الفِراش وطيبُ
فحفروا له أخدوداً وألقوه فيه ثم ألقوا فوقه الحطب فاحرقوه([3]).
ـ 3 ـ
قيس بن الخَطيم
قيس بن الخطيم من شعراء قبيلة الأوس المشهورين في الجاهلية، كانت بينه وبين حسان بن ثابت مناقضات، وكان يفخر فيها بقومه الأوس وبوقائعهم مع قبيلة الخزرج، قبيلة حسان، ويعدد مثالبها، وكان لهذا الشعر وقعه الشديد في نفوس الخزرج.
وكان قيس، إلى جانب كونه شاعراً فحلاً، فارساً أبلى أعظم البلاء في الوقائع التي دارت في الجاهلية بين قبيلتي الأوس والخزرج، قبل أن يوحدهما الإسلام في جماعة قبلية واحدة عرفت بالأنصار، دعوا بذلك لنصرهم رسول الله e في وقائعه مع مشركي قريش وغيهم.
نشبت مناقضات قبل الإسلام بين قيس بن الخَطيم وحسان بن ثابت، كل منهما كان يفخر بمنزلة قومه وخصالها ووقائعها. وكان قيس نداً لحسّان في البراعة الشعرية، ومن نقائضهما القصيدتان النونيتان اللتان قيلتا بمناسبة يوم الربيع، وهو أحد وقائع الأوس والخزرج ومن قصيدة حسان قوله:
لقد هاج نفسَك أشجانُها
وعاودها اليومَ أديانُها
تذكّرت ليلى وأنّى بها
إذا قُطِّعت منك أقرانها
وحجّل في الدار غِربانُها
وخفّ من الدار سُكّانُها
وهي طويلة، وقد تغزل فيها حسان بليلى، أخت قيس ليثير غيرته، فأجابه قيس بنقيضة تغزل فيها بعمرة، زوج حسّان، ومنها قوله:
أجدّ بَعمرة غُنيانُها
فتَهجر أم شأننا شانها
وقد عرّض فيها بحسّان وقومه، ومن جيد شعر قيس قصيدته التي مطلعها:
أتعرف رسماً كاطّراد المذهب
لِعمرة وحشاً غيرَ موقف راكبِ
وقد فخر فيها بقومه وبلائه في قتال الخزرج.
وقد ذكروا أن الرسول e استنشد جماعة من الخزرج قصيدة قيس هذه فأنشدها أحدهم، فلما بلغ إلى قوله:
أُجالدهم يومَ الحديقة حاسراً
كأنّ يدي بالسيف مِخراقُ لاعب
التفت إليهم الرسول e وقال: هل كان كما ذكر؟ فشهد له ثابت بن قيس بن شمّاس، خطيب الخزرج، وقال له: والذي بعثك بالحق يا رسول الله، لقد خرج إلينا يومً سابع عُرسه، عليه غُلالة وملحفة مورسّة (مصبوغة بالورس وهو الزعفران) فجالَدنا كما ذكر.
فكان شعره فيهم وهجاؤه إياهم من أسباب حقدهم عليه، يضاف إلى ذلك بلاؤه في قتالهم وإيقاعه بهم، فقد جمع قيس بين كونه فارساً ومقاتلاً شديد المراس وكونه شاعراً ممض الهجاء، فلما هدأت حروب الأوس والخزرج، تذكرت الخزرج شعر قيس في هجائه إياهم ونكايته فيهم، فتآمروا على قتله، فلما مر قيس بحصن من حصون الخزرج رُمي بثلاثة أسهم وقع أحدها في صدره فأدى إلى مصرعه، وقبيل أن يلفظ أنفاسه ثأر له أحد رجال الأوس فقتل أحد زعماء الخزرج أبا صعصعة يزيد بن عوف النجّاري، وهو من أكفاء قيس، وأتى برأسه إلى قيس وهو يحتضر، ولم يلبث أن مات قرير العين لأن دمه لم يذهب هدراً([4]).
ـ 4 ـ
ابن دارة
اسمه سالم بن مُسافع بن يربوع الغطفاني القيسي، وأُمّه دارة من بني أسد، نسب ابنها إليها، ونسبة الرجل إلى أمه كانت شائعة في القديم، وهو شاعر مخضرم بين الجاهلية والإسلام، وكان شاعراً هجّاءً، وكان أخوه عبد الرحمن شاعراً أيضاً.
وقع شر بين ابن دارة وبين مُرّة بن واقع، وكان أحد وجوه بني فزازة، وسبب وقوع العداوة بينهما أن مُرّة طلّق امرأته ثم أراد أن يعاودها، ولكن رجالاً ثلاثة تقدموا لخطبتها قبل أن يعاودها، فلجأ إلى معاوية، وهو يومئذ وال على الشام من قبل عثمان بن عفان، رضي الله عنه، فقال له معاوية: لقد ذكرت أمراً صغيراً في أمر عظيم، أمر الله عظيم، وامرأتك أمرها صغير، ولا سبيل لك عليها. ففرّق معاوية بينهما. واختارت المرأة احد الذين تقدموا لخطبتها فتزوجته، فقال ابن دارة رجزاً في ذلك يعيّر فيه مرّة بإخفاقه في استعادة زوجه، ومنه قوله:
يا مُرُّ يا ابن واقعِ يا أنتا
أنت الذي طلّقت لَما جُعتا
فضّمها البدريّ إذ طلّقتا
حتى إذا اصطبحت واغتبقتا
أقبلت مُعتادا لما تركتا
أردت أن تردّها كذبتا
أودى بنو بدر بها وأنتا
تُقسم وسط القوم ما فارقتا
قد أحسن الله وقد أسأتا
فاضطغنها مُرّة على ابن دارة وأقسم أن يهجوه ما بلّ ريقه لسانه. ولم يكفّ ابن دارة عن هجاء مُرّة وقومه بني فزازة، ومن هجائه المقذع فيهم قوله:
لا تأمننّ فزازياً خلوت به
على قلوصك واكتبها بأسيار
فلما لج في هجاء بني فزازة أقسم رجل منهم يدعى زُمَيل بن أبير أن لا يأكل لحماً ولا يغسل رأسه ولا يأتي امرأة حتى يقتل ابن دارة. وسنحت له الفرصة حتى لقيه في المدينة فاتبعه ثم علاه بالسيف ولكنه لم يجهز عليه، فحمل إلى عثمان فدفعه إلى طبيب نصراني عالجه وأوشك أن يبرأ من جراحته، ولكنه وجد عليه لأنه وجده يعابث زوجته أو لأن امرأة شريفة من نساء فزازة رشته بمال، فدسّ له السم، فمات.
وقد فخر زميل بقتله ابن دارة فقال:
أنا زُميل قاتل ابن داره
وغاسل المخزاة عن فزاره
وقد قتل أخوه عبد الرحمن كذلك بسبب هجائه بني أسد، قتله رجل منهم وافتخر بقتله، فقال:
قَتل ابن دارة بالجزيرة سَبُّنا
وزعمت أن سِبابنا لا يقتلُ
وقال الكميت بن معروف الأسدي:
فلا تكثرو فيها الضِّجاجَ فإنه
محا السيف ما قَال ابن دارة أجمعا([5])
ـ 5 ـ
وضّاح اليمن
وضّاح اليمن لقب غلب على الشاعر عبد الرحمن بن إسماعيل بن عبد كُلال، لُقّب بذلك لجماله الفائق، وهو من شعراء الغزل المجيدين، وقد اختلف في نسبه فجعله بعضهم من قبيلة خولان الحميرية، ونسبه آخرون إلى الفرس الذين قدموا مع سيف بن ذي يزن لنصرته على الحبشة، والذين استوطنوا اليمن منهم بعد إجلاء الحبشة عرفوا (بالأبناء).
تعشق وضاح اليمن في أول أمره فتاة من أهل اليمن تدعى روضة وقد قال فيها غزلاً كثيراً، ولما خطبها إلى أهلها رفضوا تزويجها منه لأنه شهّر بها في شعره، ومن مشهور شعره فيها قصيدته التي يقول فيها:
قالت ألا لا تلجن دارنا
إن أبانا رجل غائر
قلت فإني طالب غِرّة
منه وسيفي صارم باتر
قالت فإن القصر من دوننا
قلت فإني فوقه ظاهر
قالت فإن البحر من دوننا
قلت فإني سابح ماهر
قالت فحولي إخوة سبعة
قلت فإني غالب قاهر
وفي أحد مواسم الحج أبصر وضاح أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان وزوج الوليد بن عبد الملك، وهو يومئذ خليفة، وكان الوليد قد توعد الشعراء إن هم تغزلوا بها، فلما وقعت عين وضاح عليها أُخذ بجمالها فشبب بها، ويقال إنها شجعته على التغزل بها. وبلغ شعره الوليد فعزم على قتله، وكان وضاح قد قدم على الوليد قبل ذلك ومدحه بمدائح عدة، فأحسن الوليد صلته، ولكنه غضب لتشبيبه بزوجه، فأرسل إليه من اختلسه ليلاً وجاء به، فقتله ودفنه في داره، فلم يوقف له بعد ذلك على خبر.
وقد حيكت حول مقتله أخبار هي أدنى إلى الأساطير فزعموا أن أم البنين كانت تخلو به في غرفتها وقد أعدّت صندوقاً لتخفيه فيه إذا فاجأها أحد، ونمي الخبر إلى الوليد من طريق أحد خدمه، فدخل على أم البنين وأخذ الصندوق الذي خبأت فيه وضاحاً، ثم حفر حفرة في مجلسه ودفن الصندوق فيها، فمات وضاح مختنقاً داخل الصندوق.
ومن شعره في التشبيب بها قصيدته التي يقول فيها:
ترجّل وضَاح وأسبل بعدما
تكهّل حيناً في الكهول وما احتلمْ
وعُلّق بيضاء العوارض طفلةً
مُخَضّبَةَ الأطراف طيبةَ النَسَم
إذا قلت يوماً نوّليني تبسّمت
وقالت معاذَ الله من فِعل ما حَرُمْ
ـ 5 ـ
ابن الدُّمينة
اسمه عبد الله بن عبيد الله، والدُّمينة أُمّه وقد نُسب إليها، وهو ينتمي إلى قبيلة خثعم اليمانية، وهو شاعر غزلي من فحول شعراء العصر الإسلامي.
تذكر الأخبار أن رجلاً من بني سلول يقال له مزاحم كان يختلف إلى امرأة ابن الدمينة ويتحدث إليها، فعزم ابن الدمينة على قتله، فأرغم امرأته على أن تبعث إلى مزاحم وتواعده ليلاً في دارها، ففعلت وكمن له زوجها وصاحب له، وأعدّ له ثوباً فيه حصى، فلما حضر ضرب كبده بالثوب حتى قتله، ثم طرحه ميتاً خارج داره، فجاء أهله فاحتملوه وعرفوا أن قاتله هو ابن الدمينة.
وكان الهجاء قد لجّ قبل ذلك بين مزاحم وابن الدمينة، وقد تناول ابن الدمينة قبيلة سلول بكل سوء، فنقمت عليه لذلك.
وبعد مقتل مزاحم عاد ابن الدمينة إلى هجاء بني سلول، ومما قال فيهم:
قالوا هجتك سلولُ اللؤم مخفيةً
فاليومَ أهجو سلولاً لا أُخافيها
قالوا هجاك سلوليٌّ فقلت لهم
قد أنصف الصخرة الصمّاء راميها
رجالهم شرُّ من يمشي ونسوتُهم
شرّ البريّة.. ذلّ حاميها
ثم أتى ابن الدمينة امرأته فطرح على وجهها قَطيفة وجلس عليها حتى قتلها. وبعد مقتل مزاحم مضى أخو القتيل إلى الوالي أحمد بن إسماعيل فاستعداه على ابن الدمنية لقتله أخاه وهجائه قومه، فقبض الوالي على ابن الدمنية وزجّه في السجن.
ولما طال سجنه ولم يجد عليه أحمد بن إسماعيل سبيلاً ولا حُجّة أطلقه، ومع أن بني سلول قتلوا رجلاً من خثعم بواءً بقتيلهم لم يشتفوا منه لهجائه إياهم، وكانت أم القتيل لا تزال تحرّض أخا القتيل مصعباً على قتل ابن الدمنية وتقول له: اقتل ابن الدمنية، فإنه قتل أخاك، وهجا قومك، وذمّ أختك. فأخذ مصعب يتعقب ابن الدمنية، وسنحت له الفرصة حتى لقيه بتبالة، وهو في طريق حجه، فعلاه بسيفه حتى قتله.
ومن مشهور شعر ابن الدمنية في الغزل قصيدته التي يقول فيها:
ألا يا صَبا نجدٍ، متى هجت من نجد
فقد زادني مسراك وجداً على وجد
أ أن هتفت ورقاءُ في رونق الضحى
على فَنَن غضّ النبات من الرَّندِ
بكيتَ كما يبكي الحزينُ صبابةً
وذُبتَ من الشوق المبرِّح والصَّدِّ([6])
ـ 6 ـ
الوليد بن يزيد
الوليد بن يزيد بن عبد الملك، الخليفة الأموي الحادي عشر، كان شاعراً مجيداً أخذ منه الشعراء بعضاً من معانيه المبتكرة وتضافرت على قتله دواع شتى: كان متهماً في دينه، وكان متعصباً للقيسية، وكان يهجو اليمانية ويتحداهم بشعره، وقتل أحد أشرافهم البارزين فقتلته اليمانية.
كان ابن عم الوليد، ناقماً عليه لسوء سيرته وفساد عقيدته، فكان يحرض الناس عليه، وأيدته القبائل اليمانية التي كانت ناقمة على الوليد لتعصبه للقيسية، قبيلة أمه، ولهجائه إياهم وتحدّيهم أن ينتصروا لخالد بن عبد الله القسري، وهو من قبيلة بجيلة اليمانية.
وكان خالد والي العراق في خلافة هشام بن عبد الملك، ثم عزله هشام، ولما ولي الوليد الخلافة سجنه ثم أمر بقتله، فقتله يوسف بن عمر الثقفي، والي العراق، وقد قال الوليد بن يزيد قصيدة يهجو بها اليمانية ويفخر فيها بقتله خالداً ويتحدى قومه اليمانية أن يثأروا له، ومنها قوله:
وهذا خالد فينا قتيلاً
ألا منعوه إن كانوا رجالاً
ولو كانت بنو قحطان عُرباً
لما ذهبت صنائعه ضلالا
ولكن المذلة ضعضعتهم
فلم يجدوا لذلتهم مقالا
وقد أثارت هذه القصيدة ثائرة اليمانية، وكانت من دواعي إقدامها على قتله، يتزعمها منصور بن جمهور، وقال شاعرهم عمران بن هلباء الكلبي قصيدة ينقض فيها قصيدة الوليد ويفخر باليمانية وقتلهم الوليد بن يزيد ومنها قوله:
سنبكي خالداً بمهندات
ولا تذهب صنائعه ضلالا
وقال الشاعر الكلبي اليماني خلف بن خليفة أبياتاً يفخر بها بثأر اليمانية لخالد ومنها قوله:
لقد سكّنت كلب وأسباق مذحج
صدىً كان يزقو ليله غيرَ راقد
تركن أمير المؤمنين بخالد
مكباً على خيشومه غيرَ ساجد([7])
ـ 7 ـ
ضابئ بن الحارث البرجمي وابنه عُمير
كان ضابئ بن الحارث البرجمي شاعراً هجّاء وقد هجا في زمن الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، قوماً من الأنصار لنزاع كان بينهما، فاستعدوا عليه عثمان، فسجنه، فما زال في الحبس حتى مات فيه، وكان قبل موته قال أبياتاً منها قوله:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني
تركت على عثمان تبكي حلائلُه
ولما أحاط الثائرون بعثمان كان عمير بن ضابئ أحد من شاركوا في قتله، ويقال إنه وثب عليه وهو مطروح على الأرض فكسر ضلعاً من أضلاعه، انتقاماً لأبيه الذي سجنه عثمان ومات في سجنه.
ولما ندب الحجاج لقتال الخوارج مع المهلب بن أبي صفرة، جاءه عمير بن ضابئ وقال له: أنا شيخ كبير عليل، وهذا ابني وهو أشبّ مني. فلما سأله عن اسمه وعرف أنه ابن ضابئ البرجمي الذي قال البيت السابق، قال له: إني لأَحَسْبُ أن في قتلك صلاح المصرين، ثم أمر بقتله([8]).
ـ 8 ـ
أعشى هَمْدان
اسمه عبد الرحمن بن عبد الله، وينتمي إلى قبيلة هَمْدان اليمانية، وهو شاعر فصيح من شعراء الدولة الأموية، وكان إلى ذلك أحد الفقهاء القُرّاء من أهل الكوفة.
لما ثار عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على بني أمية وعاملهم على العراق الحَجّاج بن يوسف، خرج معه أعشى همدان يقاتل ويقول الشعر في مديحه وهجاء الحجاج، وكان كثير التحريض لأهل العراق على الخروج على الحجاج، ومما قاله في ذلك من قصيدة:
وإذا سألت المجد أين محلّه
فالمجدُ بين محمد وسعيد
بين الأشجّ وبين قيس باذخ
بَخْ بَخْ لوالده وللمولود
[الأشج: لقب الأشعث بن قيس، جد الممدوح، بخ بخ: كلمة تقال عند الثناء والإعجاب] ومن شعره في هجاء الحجاج وتحريض ابن الأشعث على الخروج عليه قوله:
نُبّئت حجّاج بن يوسـ
ـف خرّ من زَلَق فتبّا
فانهض فُديت لعلّه
يجلو بك الرحمن كَربا
فلما باءت ثورة ابن الأشعث بالإخفاق وقتل أُتي بأعشى همدان أسيراً إلى الحجاج، فحاول الشاعر استرضاءه بقصيدة مدحه بها، وأصرّ الحجّاج على الأعشى أن ينشده الشعر الذي الذي مدح به ابن الأشعث، فأنشده إياه مكرهاً، فذكّره الحجّاج ببعض ما قاله من الشعر ثم قال له: والله لا تبخبخ بعدها أبداً. ثم أمر أحد الحرس بقتله، فضرب عنقه([9]).
ـ 9 ـ
بشّار بن بُرد
بشّار بن بُرد بن يرجوخ. من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية وهو شاعر من أصل فارسي، وقد جعله أبو الفرج الأصفهاني في مقدمة الشعراء المحدثين، قال: "محلّه في الشعر وتقدمه طبقات المحدثين فيه بإجماع الرواة ورياسته عليهم من غير اختلاف في ذلك يغني عن وصفه وإطالة ذكر محلّه."
كان بشار وأبوه برد من عبيد خيرة القشيرية امرأة المهلب بن أبي صفرة، وقد وهبت بُرداً لامرأة عُقيلية بعد أن زوجته، فولدت له امرأته بشاراً فأعتقته العقيلية.
وُلد بشار مكفوفاً ونشأ في موالي بني عُقيل فأخذ عنهم الفصاحة والبيان، ووُهب الملكة الشعرية، فأخذ يقول الشعر، وكان جل شعره مديحاً وهجاءً وغزلاً، وكان سليط اللسان في هجائه، وقد اجترأ على هجاء الأشراف والوزراء ورؤساء المذاهب وخصومه من الشعراء، بل إنه قال هجاء في الخليفة المهدي، وكان هذا الهجاء من دواعي قتله.
كان بشار متهماً في عقيدته، وقد رويت لـه أشعار في تفضيل إبليس على آدم والنار على الطين، ومن قوله في ذلك:
الأرض مظلمة والنار مشرقة
والنار معبودة مذ كانت النار
وكان يفحش في غزله، فنهاه المهدي عن التعزل بالنساء، وأخذ عليه فساد دينه وزندقته وقوله الشعر في المس بالدين الإسلامي. وكان المهدي يطارد الزنادقة ويأمر بملاحقتهم واستئصالهم، ومما زاد في نقمة المهدي عليه هجاؤه إياه، وله شعر يحرض فيه بني أمية على بني العباس ويهجو وزير المهدي والخليفة معه، قال:
بني أمية هبوا طال نومكم
إن الخليفة يعقوب بن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا
خليفة الله بين الزق والعود
فعزم المهدي على قتله لهجائه إياه ولشعره الماس بالعقيدة الإسلامية والدال على زندقته، فقدم إلى البصرة متعللاً بالنظر في أمورها، ولكن غرضه الحقيقي كان البطش ببشار، فلما بلغها سمع أذاناً في وقت الضحى، فسأل عن الأمر فإذا بشار يؤذن وهو سكران. فغضب المهدي وأحضره وأمر بضربه بالسوط، فضُرب سبعين سوطاً، ثم ألقي في سفينة حتى مات([10]).
ـ 10 ـ
ابن الرومي
هو علي بن العباس بن جُريج، من أصل رومي (يوناني) ولذلك قيل له: ابن الرومي، شاعر مجيد من شعراء العصر العباسي، قال فيه ابن خلكان: "الشاعر المشهور، صاحب النظم العجيب، والتوليد الغريب، يغوص على المعاني النادرة فيستخرجها من مكامنها ويبرزها في أحسن صورة، ولا يترك المعنى حتى يستوفيه إلى آخره ولا يبقي فيه بقية".
أكثر شعره في الوصف، وقد أبدع في وصف مشاهد الطبيعة والمغنين والقيان والمآكل، وكان هجّاءً لا يكاد يسلم أحد من هجوه، وكان مضطرب المزاج، يتطير من مشاهد القبح، وربما لازم بيته أياماً لا يبارحه لئلا تقع عينه على جار له أحدب.
يذكر في سبب موته أنه كان يغشى مجلس القاسم بن عبيد الله وزير المعتضد العباسي، وكان الوزير يخاف من هجوه وفلتات لسانه بالفحش، فأوعز إلى متولي طعامه أن يقتله بالسم، فأطعمه في مجلس الوزير خشكنانجة مسمومة [والخُشكنان كلمة فارسية معربة تطلق على ضرب من الطعام من دقيق الحنطة والسكر واللوز والفستق]، فلما أكلها أحسّ بالسُّم، فقام ليذهب، فقال له الوزير: إلى أين تذهب؟ فأجابه إلى الموضع الذي بعثتني إليه. فقال له الوزير: سلِّم على والدي. فأجابه ابن الرومي: ما طريقي على النار. وقد حاول الطبيب شفاءه من السم فلم يفلح، ويقال إنه أخطأ في معالجته فمات بعد أيام، وقال وهو يجود بنفسه:
غلط الطبيب عليّ غلطة مُورد
عجزت موارده عن الإصدار
والناس يلحون الطبيب وإنما
غلط الطبيب إصابة المقدار([11])
ـ 11 ـ
أبو الطيب المتنبي
من الشعراء الذين جنى عليهم شعرهم وأدّى إلى مصرعهم شاعر العرب العظيم أحمد بن الحسين الملّقب بالمتنبي (303 ـ 354 هـ)، لادعائه النبوّة في بادية السماوة في مقتبل شبابه، فيما يذكر بعض من ترجموه.
كان أبو الطيب يختلف إلى الملوك والأمراء يمدحهم وينال صلاتهم السنيّة. وأشهر ممدوحيه سيف الدولة الحمداني، وله فيه المدائح الغُرّ. وقد أقام في بلاطه مدة من الزمن، ولمّا ضاق ذرعاً بحاسديه وبالوشاة الذين أوغروا عليه صدر سيف الدولة، اضطرَ إلى مفارقته وقصد كافوراً الإخشيدي بمصر، ومدحه بطائفة من قصائده، وكان يطمع في أن ينيله إحدى الولايات. فلمّا خيّب كافور ظنّه فارقه وقال فيه أهاجي ممضّة. ثم قصد عضد الدولة بفارس، ومدحه بمدائح جياد، ثم قفل عائداً إلى بغداد، وقد حمل معه كل ما جمعه من صلات ممدحيه، ولم يكن يرافقه إلا ابنه محسَّد وغلامه، ولم يشأ الاستعانة برجال يحمونه من غارات اللصوص، فعرض له فاتك بن أبي جهل الأسدي ومعه كثير من أعوانه. وقد همّ المتنبي بالفرار ـ فيما يذكره أحد الأخبار حين رأى الغلبة لمهاجميه، فقال له غلامه: لا يتحدث الناس عنك بالفرار وأنت القائل:
فالخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فقال له المتنبي: قتلتني قتلك الله. وعاد فقاتل حتى قُتل. ولا ندري من سمع خبر هذا الحوار بين المتنبي وغلامه وقد قُتل وقتل ابنه معهما، ففي الخبر ما يدعو إلى الشك في صحته.
ومهما يكن من أمر فقط اضطر المتنبي إلى الدفاع عن نفسه، ولم يكن في وسعه أن يتغلب على مهاجميه وهم أكثر عدداً، فانتهت المعركة بمصرعه ومن معه.
حول مقتل المتنبي ثمة خبر يرجحه أكثر الرواة مؤداه أن فاتكاً إنما هاجم المتنبي بدافع الانتقام لأنه هجا ابن أخته ضبّة وأمّه ـ أخت فاتك ـ بقصيدة لاذعة أولها:
ما أنصف القوم ضبّة
وأمّه الطرطبّة
على أنه من المحقق أن فاتكاً ـ وإن كان من اللصوص الفُتّاك المشهورين ـ كان سيحمله الطمع في أموال المتنبي الضخمة على مهاجمته حتى لو انتفى واقع الانتقام لابن أخته.
وثمة رواية أخرى في سبب مقتله تجعل عضد الدولة هو المحرّض على قتله لأنه فضّل عليه سيف الدولة، وهذه الرواية مستبعدة.
وقد خسر الشعر العربي بمصرع المتنبي أعظم قائليه، وهو الذي قيل فيه: مالئ الدنيا وشاغل الناس.
المصادر:
1 ـ وفيات الأعيان، ابن خلّكان، تح. إحسان عباس، ج1 ، ص 120.
2 ـ معاهد التنصيص للعباسي، ج1، ص 27.
3 ـ مع المتنبي، طه حسين.
4 ـ المتنبي: محمود محمد شاكر.
--------------------------------------------------------------------------------
التراث العربي
([2]) قصة طرفة وخاله الملتمس، الشعر والشعراء، ابن قتيبة، 1/179 ـ 196.
([3]) الأغاني، الأصبهاني، 22/305.
([4]) الأغاني، الأصبهاني، 3/12.
([5]) الأغاني، الأصبهاني، 21/114.
([6]) الأغاني، الأصبهاني، 16/350.
([7]) الأغاني، الأصبهاني، 7/1.
([8]) الشعر والشعراء، ابن قتيبة، 1/350.
([9]) الأغاني، الأصبهاني، 6/33.
([10]) معجم الأدباء، ياقوت الحموي، 1/224 ـ 227.
([11]) الأغاني، الأصبهاني، 3/135.