يُعد الفيلسوف السوري صادق جلال العظم من أشهر النقاد في العالم العربي وأكثرهم حدة. بطروحاته وسجالاته الفكرية والثقافية الطاحنة تعرض العظم إلى نيران كافة الجبهات، غير أن ذلك لم يضر بمكانته حتى اليوم. كرستين كنيب تعرض أهم المحطات الفكرية في حياة صادق جلال العظم الذي احتفل مؤخراً بعيد ميلاده الخامس والسبعين.
"عرّض صادق جلال العظم نفسه بآرائه إلى نيران كافة الجبهات، سواء كانت إسلامية أم علمانية" هناك مزايا عديدة يتمتع بها مَن ينتمي إلى الطبقة الأرستقراطية الراقية في دمشق، ومن بينها الالتفات إلى الواقع الحقيقي وإهمال كل ما له علاقة بالميتافيزيقا. هذه الرؤية تزيح عبئاً عظيماً عن الإنسان، لأنها تجعله ينظر إلى العالم نظرة عقلانية مادية، ليس هذا فحسب، بل إنها تحميه أيضاً من كافة أشكال "العُصاب" الفكري. والعصاب، يقول الفيلسوف السوري المولود عام 1934، كان من السهل للغاية أن يُصاب به المثقف الذي شهد طور تكوينه خلال سنوات الأربعينيات والخمسينيات. كان يكفي تماماً أن يقرأ المرء الأدب الديني، ثم أن يصطدم بالأعمال العلمانية الآتية من الغرب، والنتيجة: صدمة ثقافية من الدرجة الأولى.
مهما حدث، هكذا يتعلم المرء في الكتب الدينية، فإن قدرة الإنسان ضئيلة للغاية: "هذا ما أراده الله" - هذا هو التفسير لكل شيء تقريباً: الخير والشر، الأشياء السارة والبغيضة؛ وهو ما ينطبق أيضاً على السياسة والمجتمع وكذلك على الحياة الخاصة، والحياة في دائرة العائلة والأصدقاء. أما أن نتخيل أن الحياة يمكن أن تسلك مسلكاً آخر، فهو شيء كان يعتبره عديد من جيله وقاحة لا تُطاق.
المحرمات الفكرية
هذا ما يرويه صادق جلال العظم في كتابه الصادر عام 2008 بالفرنسية Ces Interdits qui nous hantent (هذه المحرّمات التي تسكننا) والذي يتضمن مجموعة من المقالات ونصوص من السيرة الذاتية. لقد كان العظم محظوظاً لأنه نشأ في أسرة أرستقراطية ليس فيها مكان لاعتقادات عن تأثير الله على مسار العالم. تعلم الفتى أن على الإنسان أن يمسك بدفة الأمور بنفسه، وعليه أيضاً أن يتحمل عواقب ما يفعل. الله ليس له علاقة بأخطائك، وإذا قال لك رجال الدين شيئاً آخر فعليك ألا تصغي إليهم.
يرى العظم أن تداعيات حرب 67 ولدت فجوة "ملأها المتشددون الدينيون، حيث كان الإسلام هو الإجابة الوحيدة التي يمكن أن تسد ذلك الفراغ الناشئ" يقول صادق جلال العظم: "هذه الظروف حمتني من شبح الأزمة النفسية والروحية التي كان من الممكن أن تصيبني عندما بدأت أهتم بأفكار القومية والعروبة التي كانت شائعة للغاية في شبابي المبكر". هناك آخرون لم يستطيعوا أن يقابلوا الصدمات الثقافية والسياسية في الأربعينيات والخمسينيات بمثل هذا الهدوء. بالنسبة لهم مثلت تلك الأحداث قطيعة تامة مع كل ما تعلموه وكل ما كانوا يعتبرونه بديهياً.
ربما كانت الأفكار الجديدة مقنعة. لكنها كانت في المقام الأول - على الأقل في البداية - صادمة. لقد وقع عديد من أصدقائه في أزمة وجودية عميقة، يقول العظم. لم تتوافق الأفكار الجديدة مع القديمة. كانت الهوة من العمق والاتساع بحيث لم يكن من الممكن سدها. "أدى ذلك بالبعض إلى الوقوع في براثن الاكتئاب أو إلى الاعتزال الكامل للحياة العامة". اتسمت بعض الأفكار بالراديكالية البالغة وهو ما جعل الرعب يستولي على من يطالعها. ولأن الأفكار كانت غريبة فقد كان المرء بحاجة إلى وقت ليهضمها. غير أن المرء، وبعد فترة ما، سار وراء تلك الأفكار. "معظم معارفي تغلبوا على الأزمة ليتبنوا من بعد أفكاراً أكثر تقدمية."
الحركة القومية المخيبة للآمال
الحكاية التي يلمح إليها فحسب صادق جلال العظم في كتابه قد تعطي إشارة إلى الظروف التي صاحبت مخاض الفكر العلماني في العالم العربي، تلك الظروف التي تسببت، على الأقل أحياناً، في مشكلات عديدة. ولأن العظم لم يعرف تلك المشكلات مطلقاً فقد يكون ذلك هو ما دفع الفيلسوف السوري إلى ممارسة الحد الأقصى من النقد للظروف العربية، وألا يقف أمام أي شيء أو أي شخص موقف هيبة، وأن يقابل بالارتياب العميق تلك الحركات التي سادت عصره والتي كان يُطلق عليها حركات سياسية تقدمية. يتساءل العظم مثلاً: ما هي القومية العربية؟ أهي رد فعل على الحركة الكولونيالية الأوروبية ومحاولة لتوحيد الدول العربية؟ بالتأكيد. أو على كل حال كانت القومية العربية كذلك في منحى من مناحيها.
صورة إرشيفية من حرب الأيام الستة، الصورة: ا.ب
Bild vergrössern في ظل انحسار القومية العربية بعد هزيمة حرب الأيام الستة يعتقد العظم أن "الظاهرة الإسلاموية لن تستمر طويلاً" ولكن ربما، يقول العظم، كانت شيئاً آخر تماماً: إنها محاولة لاستعادة الدور المفقود خلال القرون كقوة عالمية. القومية العربية، يشرح العظم، كانت في ظاهرها فحسب حركة تحرير. ولكنها كانت في الواقع تصبو إلى أن تلعب دوراً على خشبة المسرح العالمي. طموحات عالية لم تتحقق، أما العواقب فكانت وخيمة: "هكذا ولدت الأوهام العظيمة، عقدة النقص الهائلة، والأوهام الضخمة التي تسعى للتعويض، روح مغامرة ضارية سياسة غير مسؤولة، ثم مؤخراً الإرهاب المُمارس على نطاق واسع والذي تعود العالم كله عليه".
ولكن مما يثير العجب هو أن هذه التطورات - يقول العظم شارحاً - نجمت عن فشل القومية العربية تحديداً، وهو فشل يمكن تأريخه تأريخاً دقيقاً، وإرجاعه إلى الخامس من يونيو عام 1967، أي إلى ما أطلق عليه حرب الأيام الستة التي دارت رحاها بين تحالف عدة دول عربية قادته مصر وبين إسرائيل. بين عشية وضحاها تقريبا سحقت الهزيمة كل الخطط الطموحة إلى أقصى حد، كما دمرت الإيمان بمستقبل علماني للمنطقة. "هذه الفجوة"، يقول العظم في حديث صحافي، "ملأها المتشددون الدينيون. كان الإسلام هو الإجابة الوحيدة التي يمكن أن تسد ذلك الفراغ الناشئ".
غير أن تلك الحركة لم تكن تلقائية على الإطلاق، لقد وقفت خلفها قوى عظيمة: "على الفور قام ممولون من المملكة العربية السعودية ودول خليجية أخرى بدعم الإسلاميين الذين بدأوا منذ ذلك الحين يحتلون مساحات كبيرة من الحياة العامة".
تحت وابل النيران...
بآراء كهذه عرّض صادق جلال العظم نفسه إلى نيران كافة الجبهات، سواء كانت إسلامية أم علمانية. ليس لدى العظم أصدقاء على كلا الجانبين، على كل حال ليس لديه أصدقاء في صفوف أولئك الذين يشكّلون الحياة السياسية. عندما وقع العظم في ربيع 2006 إعلان بيروت دمشق الذي يطالب بانسحاب القوات السورية من لبنان لم يُلق القبض عليه لسبب وحيد، وهو أنه كان خارج البلاد. من بيروت - حيث يقيم معظم الوقت - استطلع الأمر بحذر، ليختبر عبر وسطاء ما إذا كان يستطيع أن يخاطر بزيارة وطنه. قيل له إنه يستطيع، فالأجواء أصبحت صافية من جديد في دمشق.
ويمثل العظم ظاهرة في العالم العربي. ليس هناك سوى مثقفين قلائل استطاعوا انتقاد الدين الذي يعتنقونه مثله. حرب الأيام الستة، الفتوى الصادرة ضد سلمان رشدي، الجدال الذي تفجر إثر صدور كتاب إدوارد سعيد بعنوان "الاستشراق"، الحرب على العراق، والأصولية الإسلامية: لم تكد العقود الأربعة الأخيرة تشهد سجالاً لم يدل فيه صادق جلال العظم بدلوه.
الظاهرة الإسلاموية لن تستمر طويلاً، يقول العظم متنبئاً. غير أنه يعتقد أيضاً بحدوث تحلل تدريجي للإسلام نفسه، مثلما حدث للمسيحية في أوروبا. هذا التحفظ حيال الدين جلب عليه في عام 1970 فتوى اعتبرته ملحداً - وهو ما يعتبره العظم لقباً شرفياً - غير أنها لم تدعو إلى ممارسة العنف ضده. ما حماه من العسف، يقول العظم، كان انتماؤه العائلي أيضاً. اسم العظم له مكانة في سوريا. وهكذا بقي التفكير الجسور الذي علمته إياه عائلته دون عواقب وخيمة حتى اليوم. هذا أيضاً مزية من مزايا الانتماء إلى الطبقة الأرستقراطية الراقية في دمشق.
كرستين كنيب
(صفية مسعود-قنطرة )