في الإتحاد السوفيتي
وصلنا إلى مطار موسكو في صيف 1971م وكان باستقبالنا عضوا في المكتب السياسي في الحزب الشيوعي السوفيتي و/ الأخ أبو خلدون جميل شيا وزوجته الفاضلة أم خلدون / وعدد من المستقبلين و كانت معهم مترجمة اسمها / فيرا / كانت واحدة من أجمل نساء الأرض وكانت جميلة الروح أيضا ونزلنا في فندق اللجنة المركزية في موسكو لمدة خمسة عشر يوما زرنا خلالها عددا من الأطباء الذين أكدوا كلام الدكتور صايغ بالحرف وأوصوا بأن نذهب للاستراحة في القفقاز حيث الأجواء مشابهة لجو بلادنا حسب اقتراح مضيفينا .
لقد أحببت هؤلاء الناس جدا كانوا طيبين و رائعين و غمرونا بكرمهم وكياستهم و لن أنسى ما حييت تلك الأيام التي أعادت إلي الروح بالفعل.
كنا في جمهورية داغستان الإسلامية الروسية وكان مرافقنا حينها الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف الذي كان ملازما رائعا لنا في منتجع جبلي خلاب وكان الحوار معه عبر المترجمة فيرا أو دون مترجم عندما يبدأ أبو علي بالتحدث الروسية التي تعلمها خلال السنة التي قضاها في موسكو عام 1967 وهنا أريد أن أشير إلى أن أيام استراحتي لم تكن خالية تماما من الدموع فلقد كانت لي وجبة يومية من البكاء شوقا لأولادي الذين تركتهم مع عمتهم أم جابر صديقة العمر الحبيبة كان أبو علي يحتج من بكاءاتي الحسينية .
عدنا إلى دمشق وقد استعدت قوتي وارتحت بحمد الله وبعد عدة أشهر في عام 1972 وضعت طفلتي الحلوة / رولا / ولم أطلق أنا هذا الاسم على ابنتي بل تلقيت هاتفا يبارك لنا من الأخ العزيز و الكبير مصطفى طلاس الذي أشهد و أكرر كلام أبوعلي عنه (أبو فراس رجال ) و قال ما أسميت أبنتكم يا أم علي فقلت ما زلنا بعد نفكر فقال : يا أم علي نكتب قائمة بالأسماء ثم نختار وهنا أريد أن أذكر أخا عزيزا على قلبي هو الأخ أبو وائل / محمد ناصيف / الذي وقف إلى جانب أسرتي في أشد الحالات وأذكره هنا لأنه كتب نفس القائمة لاختيار اسم لطفلتي و شاءت الصدف أن اجتمع الأخوان / أبو فراس و أبو وائل / في مكتب أحدهما واتصلا / بأبو علي / ثم اتفق الثلاثة على أن نسمي الطفلة رولا !
واتصل بي أبو فراس قائلا :
رولا عرب قصورهم الخيام
سمي الطفلة رولا يا أم علي وكان الاسم الجميل .
استمرت حياتنا بمنوالها الطبيعي وبدأت أتعود قليلا بقليل مع حياتي كزوجة لرجل مسؤول في البلد ولكن ذلك الأمر لم يجعلني أتغير أو أغير أولادي حتى مع النصائح التي كانت تأتيني من بعض الأصدقاء . فقد كنت أحب جيراني في مساكن برزة كثيرا وأزورهم ويزورونني وكنت أستقبل في كل يوم صاحب حاجة أحاول مساعدته بإرساله إلى مكتب أبو علي في القيادة وذلك بأن أتصل مباشرة مع الأخ سليمان زيود - أبو بسام - و هو رجل وفي وكريم وكان مديرا لمكتب أبو علي فيقوم أبو بسام باستقبالهم وتقديم المعونة بالاتصال بأبو علي ....
حتى أن أبو بسام قال مرة لأبو علي : والله لو سافرت شهرا في إجازة فإن أم علي ستبقينا نعمل من الناس الذين ترسلهم لكي نساعدهم .
كنت أفرح كثيرا عندما أعرف أن فلانا ممن جاء يطلب المساعدة قد عين في مصنع السماد أو المصفاة مثلا أو رفع عنه الظلم أو حتى منعنا عنه قضية ثأر مثلاً فلقد كانت تأتيني مشكلات كهذه حتى في مرة من المرات جاءني يضرب على بابي شاب يبيع الجرائد و رجاني أن نجد له عملا و عندما علمت أنه تخرج منذ أيام من الجامعة اتصلت على الفور بأبو علي وكانت شدة فرحي كبيرة عندما علمت أن زوجي وظفه على الفور بوظيفة تناسبه وتناسب اختصاصه وعندما أتى زوجي إلى المنزل كنت أحاوره دائما متسائلة أنه كيف يمكن أن يبقى خريج جامعة دون وظيفة أو يبيع الجرائد ؟!
لا أريد أن أذكر الحالات التي جاءتني وساعدت فيها لكي لا أمارس منة لا سمح الله وكنت ولا زلت أعرف أن هذا واجب ولكني أذكرها من بوابة طرح المشكلة آنذاك لكي يعرف القارئ أحد جوانب حقيقة حياتنا ليس إلا , فهذا الأمر كان يحصل و كان يحصل أن يأتيني من يريد مصالحة زوجته ويريد تدخلي وأحمد الله أني ما رديت واحدا عن بابي وكنت على الدوام أومن أن الله تعالى سيطرح البركة في أولادي بقدر ما أساعد هؤلاء الناس .
لقد قال السيد الرئيس حافظ الأسد مرة في خطاب أمام مجلس الشعب عن هذه الناحية عندما تحدث عن المرآة بأنه يشكر كل امرأة تساعد زوجها في واجباته في المجتمع وأعرف من الأصدقاء أنه كان قبل أيام يناقش وتطرق لنشاطات زوجات المسؤولين في القيادة وطبيعة حياة أسر المسؤولين .
جاء تشرين الأول 1973 وكنا على موعد مع يوم تشرين الغالي الذي صنعه شعب سورية البطل وشعب مصر البطل ولكني أريد القول هنا أن القائد الكبير حافظ الأسد قد صنع من كل سوري بطلا في هذا اليوم والأيام التالية...
في يوم 6 / تشرين / ومن زاويتي كأم و كزوجة مسؤول أريد القول أنني كنت أشعر أن شيئا ما سيحدث لأن أبو علي كان شديد الجدية و الانشغال على نحو غير اعتيادي و لم يكن في المنزل ليومين متتاليين وكان الاتصال الهاتفي صعبا معه أيضا ...
بدأت الحرب و تحرك الطيران وتحركت القطعة العسكرية المجاورة لبيتنا وسمعنا حديث الناطق العسكري وكنت أنا و أولادي و سلفي يحيى في المنزل - يحيى أصبح فيما بعد طبيبا مشهورا في حمص - وقال يحيى : إنها الحرب يا أم علي ...
وتمنينا على الله أن تكون حرب التحرير هذه المرة وأن نرد أرضنا السليبة وأن نستعيد الكرامة والثقة التي هدرت في عام 1967م .
في اليوم التالي جاءتني لجنة من فتيات الدفاع المدني وقرعوا بابي وأدخلتهم مرحبة فقالوا أن هناك جريح في مشفى المواساة يطلب أن أزوره مبتور اليد وأسمه / سمير حمدان / ولقد عرفته على الفور فهو أخ لصديق زوجي والأخ الفدائي / عيسى حمدان / من رجال الصاعقة و ذهبت على الفور إلى المشفى لأزوره وكان سمير عندها قد فقد يده وهو يحاول رفع العلم السوري على مرصد جبل الشيخ , وكنت في قمة الانفعال وأنا أحادثه وأحاول شد أزره لكنه هو الذي كان يشد أزرنا جميعا وهكذا هم أبطال تشرين وأبطال سوريا .
كانت أيام تشرين أياما مشهودة لم أر فيها زوجي بالطبع إلا لدقائق معدودات و استمرت بعدها أيام حرب الاستنزاف و كان مشرفا سياسيا على القوات البحرية في الساحل السوري و انتهت أيام تشرين والاستنزاف بانتصار كبير كانت سوريا قد انتصرت على ذاتها أولا وكنت أشعر في حارتي أن الناس صارت تحب بعضها أكثر , كانت جدران البيوت تبتسم وتريد أن تتضامن مع رجال الجيش والترحم على الشهداء وكنت أشعر بالعزة كمواطنة سورية وأيضا كزوجة مسؤول في الدولة التي تصنع في هذه اللحظة هذا الانتصار .
كان الأولاد السبعة يكبرون وكنت أرى المنزل المؤلف من غرفتين و/ أرض ديار / صغيرا علينا و بدأت أفكر أنه علينا الانتقال إلى منزل أوسع..
قبل أن أتابع الحديث عن المنزل الجديد أريد إن اذكر هنا أن ولدي طارق مرض بالربو لتحسسي و تفاقم الأمر معه و كان الوضع صعبا ودخل إلى مستشفى المجتهد و كدت أفقد صوابي خوفاً عليه أنا التي فقدت
طفلتي صنعاء قبل عدة سنوات و مرت أيام في المشفى كانت بقربي الأخت (أم أيمن) زوجة الأخ عبد الكريم بلال وقد كانت رئيسة الممرضات في المشفى و لم تتركني أبداً و بحمد الله خرج طارق ابن الثلاث سنوات من الأزمة ، اذكر هذا لكي أصور بكلامي الناس الأوفياء فأم أيمن و هي ابنة الشاعر و الأديب المعروف حامد حسن (رحمه الله) كانت أختا بكل معنى الكلمة أشكرها من كل قلبي .
كان لنا صديق من أحد معارف أبو علي يعمل في مجال البناء وبعد حوار مع أبو علي الذي كان معارضا للانتقال وإصراري محاولة إقناعه تقدمنا بطلب قرض من المكتب المالي في القيادة القطرية وبطلب آخر من المصرف العقاري ودفعنا مبلغ أربعين ألف ليرة سورية مبلغا لشقة / غير مكسية / في منطقة المزه وكان قرض القيادة للكساء .
وكان الأخ / أبو عصام / مدير الكتب المالي في القيادة محترما ووجب علي هنا أ، أذكره بكل الود .
وبالإضافة إلى هذين القرضين بعت / الذهب / الذي كان لدي وهكذا توفر أساس المبلغ وبدأنا الإكساء بالتدريج وجهز البيت في صيف 1974م وانتقلنا إلى المزه .
أذكر هذا لأن واحدة من أحلى لحظات حياتنا هي قدوم السيد الرئيس حافظ الأسد إلى بيتنا للمباركة وذلك على ما أذكر في تموز 1974 بعد المؤتمر السادس القطري.
جاء أبو علي من العمل وقال لي السيد الرئيس سيأتي للعشاء عندنا بعد يومين ومعه القيادتين القومية والقطرية وفرحت فرحا شديدا ولكني لم أنم ليلتها وبدأت أفكر بالموضوع ليس من باب الفرحة فقط بل من باب المشكلة ؟! فلقد كانت كراسي غرفة الضيوف لا تكفي وطاولة الطعام عليها اثنا عشر كرسيا فقط... فما العمل ؟!
وبدأت أفكر وقال أبو علي: لا أعلم ماذا ستفعلين... هذا ما عندي !! واللي بدو يوقف... يوقف - يعني يأكل على الواقف -!
أما أنا فتحرك تفكيري وذهبت إلى الأخ / تحسين بعلبكي / وهو صديق لزوجي وشرحت له مشكلتي فقال :
- أم علي لدي طقم كامل مؤلف من / 34 / قطعة من الكنبات إلى المفروشات إلى طاولة السفرة ولقد أتيت به من مصر منذ أيام وهو في بيتي فقلت له :
-أتعيرني إياه يوما واحدا ً
فوافق الرجل بكل الرحب والسعة
فكان الأمر وجاء من عنده عمال فرشوا بيتنا بمفروشات بيته كاملة وصار بإمكاني هكذا أن أستقبل السيد رئيس الجمهورية والرفاق في القيادة .. على أن لا يبقى أحدهم واقفا !!
أعددت طعاما منزليا واستجلبت طعاما أيضا من عند الأخ / فتحي كلش / وفي ذلك اليوم أنقطع شارع / الأكثم بن صيفي / الذي كنا نسكن فيه واتخذ عدد من رجال أمن الرئاسة مواقعهم فوق أسطحة المنازل ودخلت لأغسل يدي في الحمام وارتعبت من قرع الشباك مع تهذيبه الشديد ,كان القرع على الشباك يريد صاحبه أن يقول :
- نحن هنا ...!
في التاسعة مساءً وصل ضيوفنا ودخلت مسلمة مرحبة مع أطفالي وكنت برفقة / رولا و فوز / أولاً وكان الصبيان ينتظرون فأطلق / أبو إياد / وهو صاحب النكتة الدائم إحدى تقريعا ته :
- شو أم علي لأنو بناتك حلوين جبتيهون بالأول وين الصبيان ؟!
وضحك الجميع ودخل الصبيان مسلمين وصافحهم السيد الرئيس مقبلا إياهم واحداً واحداً... وبالفعل كانت واحدة من أحلى لحظات حياتي لم يكن الرجل الماثل أمامي وهو رجل قائد البلد والأمة إلا رجلا حنونا وطيبا وكريم المحيا وشعرت بأنني في قمة سعادتي .وأثناء العشاء وكنت قد حضرت نفسي لقول بعض الجمل منها : حللت أهلاً ووطئت سهلاً ومن هذا القبيل , ارتبط لساني تماما عندما التفت إلي قائلا : شكرا جزيلا أم علي فخرجت مني بالكاد : أهلا وسهلا .
هنا أذكر أن ولدي قحطان عندما دخل مسلماً اتجه فورا صوب الرئيس الذي يجلس في المنتصف من المدعويين فبادره (أبو دريد)
قائلاً: عمو السلام بيبلش من اليمين .. فرد قحطان : ل أبدي سلم
ع الرئيس .. أنت مو رئيس ! فضحك الجميع بقوة !
كان الفنان الكبير الأردني / عبده موسى / حاضرا في البيت فلقد كان الرئيس الأسد يحبه و اتصل به / أبو علي / واستدعاه ليغني عندنا في هذه الليلة وغنى عبدو موسى :
ريت المنايا يا اللي بتجي يا سلامه
وتحوم ع الأنذال دار بدار
ويطول عمرك يا حفيظ السلامة
وتدوم يا عز الأهل والجار
وبكيت عندما سمعت هذا وما قدرت منع فرحي من البكاء ....
و غنى / عبدو موسى / من أجلي
من أحلى ما لديه
ونزلن على الحمام حنن شعرهن يا عنيد يا يابا
كل البنات نجوم وأم علي قمرهن .....يا عنيد يا يابا
وغيرها وغيرها من أغانيه الجميلة .
حتى الرابعة صباحا كان الحي يسمع ضحكات ضيوفي الكرام و صوت عبدو موسى الشجي وكان سيد النكتة / أبو إياد / محمد حيدر وهذا كان حاله ظريفا و شديد الذكاء و نكاته لا توفر أحداً .
يتبع...
--------------------------
[url=http://www.jablah.com/modules/news/article.php?storyid=6097]الحلقة الثالثة[/url]
[url=http://www.jablah.com/modules/news/article.php?storyid=6071]الحلقة الثانية[/url]
[url=http://www.jablah.com/modules/news/article.php?storyid=6045]الحلقة الأولى[/url]