وهو نفس المبلغ الاميركي الذي اقترحه شارون ان يكون «تعويضاً» عن نفقات الانسحاب من غزة، مثلما اخذت اسرائيل نفقات الاستيطان من الولايات المتحدة ـ بعد طول ممانعة من الرئيس بوش الاول مما ادى لأزمة بين واشنطن وتل ابيب تمت تسويتها بتراجع بوش الاب عن معارضته لدفع هذا المبلغ لاسرائيل، وكان هو نفسه قد «تقاضى» المبلغ لنفسه من الدول العربية الخليجية والبالغ 13 مليار دولار، تحت عنوان «قروض ائتمانية» بحيث كان ما اخذه باليد اليمنى من الدول الخليحية اعطاه لاسرائيل كقروض ائتمانية. اما في موضوع علاقة هذا الامر بصفقة الغاز بين مصر واسرائيل، فان ما تأخذه اسرائيل من اميركا كنفقات انسحابها من غزة فانها تعطيه لمصر ثمناً للغاز المصري المنقول عبر انابيب تمتد عبر البحر الاحمر الى الأراضي المحتلة من فلسطين والتي يقوم عليها «كيان اسرائيل» منذ عام 1948، علماً ان غزة التي سيتم الانسحاب منها كانت في الاساس في عهد الادارة المصرية فتكون هنالك «قرابة» بين مصر وغزة «انجبت» مشروعاً للغاز بين مصر واسرائيل في زمن العجائب الذي تعيشه المنطقة في «العصر الاسرائيلي» الذي يحظى برعاية وحصانة اميركيتين، هذا اذا لم نضف الى ثمن الانسحاب من غزة، وقف المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الاسرائيلي «برعاية ووساطة» مصريتين بين الفصائل واسرائيل و«احتواء» فصائل المقاومة و«ترويضها» عبر التوسط بين الفصائل نفسها. ولدرجة انه لم يصدر وليس في الأفق ما يوحي بأنه سيصدر عن الفصائل الفلسطينية المسلحة اي كلمة نقد ضد صفقة الغاز بين مصر واسرائيل، لأنها ربما لانها ترى انه من غير اللياقة «مكافأة» القاهرة على جهودها التي ادت لوقف عمليات المقاومة ـ خلال فترة الانسحاب الاسرائيلي على الاقل ـ تمهيداً لوضعها في ظروف تجعلها تلقي السلاح وتسلمه «للسلطة الفلسطينية» نهائياً!.
وعلى الساحة اللبنانية تسير الأمور قدماً على طريق تنفيذ «القسم الفلسطيني» من القرار 1559، عبر قرارات لبنانية لمصلحة «ضيوف» لبنان الفلسطينيين تحت شعار رفع المعاناة عنهم، بحيث تشعر الجهات الدولية والاقليمية الساعية للتوطين، ان هذه القرارات اللبنانية برفع الحظر عن ممارسة الفلسينيين لخمسين نوع من الاعمال التي كانت محظورة عنهم، انه قد رجح لدى «التوطينيين الدوليين والاقلميين والممالئين ضمناً للتوطين من الداخل اللبناني امل بأن يكون ذلك «فاتحة» و«مقبلات» تؤدي للتوطين، وخاصة على ضوء اعلان شارون الصريح والحازم «بالالغاء العملي» للقرار 191 المتعلق بعودة لاجئي عام 1948 الى ارضهم وديارهم.
واكثر من ذلك، فان ما جاء به وفد السلطة الفلسطينية برئاسة السيد عباس زكي وما جاء به قبله رئيس السلطة الفلسطينية والذي اسفر عن قرار لم تعترض عليه اسرائيل بنقل الوف المسلحين الفلسطينيين الى غزة والذي اعلن السيد عباس زكي صراحة بأنه تنفيذ «للجزء الفلسطيني» من القرار 1556 والقاضي بالغاء السلاح الفلسطيني من المخيمات يكون قد تم بالتراضي بين الفلسطينيين والدولة اللبنانية. اما كيف تقبل اسرائيل نقل الوف المسلحين الفلسطينيين من المخيمات من لبنان الى غزة، في الوقت الذي يقول فيه شارون بأنه لا يريد ان تتحول غزة الى «قاعدة للارهاب» فلا يمكن تفسيره الا بتعزيز قوات الامن والشرطة الفلسطينية في غزة لكي تتصدى لكل من يخرق وقف اطلاق النار. ولما كانت هذه «القوات الفلسطينية التي سيجري نقلها من لبنان الى غزة تنتمي الى منطقة التحرير التابعة بدورها الى السلطة الفلسطينية والتي تشكل حركة «فتح» عمودها الفقري، فان وجودها في غزة سوف يعزز «حظوظ» فتح في رجحان كفتها على كفة «حماس» والجهاد الاسلامي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطيني وغيرها من الفصائل المسلحة من حيث رجحان كفة «ميزان القوى» الفلسطيني في غزة، لمصلحة فتح في وجه «حماس» ميدانياً ولتعزيز «هيبة السلطة وفتح» قبل اشهر معدودة من الانتخابات الفلسطينية العامة التي تم تأجيلها منذ الفترة التي سبقت واعقبت وفاة ياسر عرفات وكان هدف هذا التأجيل هو تعاون السلطة الفلسطينية واسرائيل في «ترتيب الوضع الفلسطيني» بحيث لا تفوز «حماس» والفصائل المسلحة الاخرى في الانتخابات، وان كان الباب يظل مفتوحاً من جانب السلطة الفلسطينية «والوساطة» المصرية لاشراك «حماس» والتي «شبعت» قتلاً ومجازر من جانب اسرائيل ضد قادتها الكبار وخاصة ان الجهات التي كانت ترفدها بالدعم المعنوي والعملي تلوذ بالصمت تجاه ما يدبر من ترتيبات لجعل وقف المقاومة في فلسطين وقفاً دائماً وليس موقتا او مرهونا بفترة الانسحاب من غزة فقط. وحتى الدولة التي يهتف شعبها ليل نهار وبعد كل صلاة «الموت لاسرائيل» والتي «انجبت» انتخاباتها الرئاسية رئيساً دينامياً شاباً ذا نبرة نابضة بالحيوية، تبدو منهمكة «بهمومها» الناجمة عن «الحملة الدولية» والتي تقودها الولايات المتحدة وتخطط لها اسرائيل ضد ايران، والتي تلعب فيها الدول الاوروبية الرئيسية الثلاث: فرنسا والمانيا وبريطانيا دور «مخلب القط» «الصهيو ـ اميركي» الى جانب خلق المشاكل لايران على حدودها عبر افتعال حوادث امنية تتم فيها الاغارة على مخافرها الحدودية وتحريك اعمال الشغب والاضطرابات في خورستان وكرستان ايران.
وصحيح ان كل ذلك لم يمنع شعور الشعب الايراني بالعزة والكرامة، وهو يتجاوز كل الضغوط الاقليمية الدولية، ولدرجة ان الرئيس محمد احمدي نجاد عندما اعلن ان العروض الاوروبية تعتبر اهانة للشعب الايراني لاقى تأييداً واسعاً وشاملاً من جميع الاجنحة والفعاليات السياسية الاخرى، الى جانب الرأي العام الايراني بما فيه «الجهات الاصلاحية» والرئيس السابق خاتمي الذي كان الاميركيون والاوروبيون يعملون طوال فترتي ولايته التي امتدت ثماني سنوات، بأن تكون سياسته مختلفة عن السياسات والثوابت المستمدة من ر وح الثورة والمبادىء والخطوط العريضة التي رسمها قائد الثورة الاسلامية ومؤسس الجمهورية الامام الخميني، والتي تؤكد استقلالية السياسة الايرانية عن النفوذ الاجنبي ومعارضتها للممارسات الوحشية للكيان الصهيوني بل رفضها الاعتراف باصل اغتصاب الارض الفلسطينية، واقامة الكيان العنصري الصهيوني على انقاش الوجود الفلسطيني.
وما اعتبرته القيادة الايرانية «اهانة» لها ولشعبها، هو «الحوافز» التقنية والاقتصادية التي عرضها الاوروبيون على ايران مقابل وقف تطويرها السلمي للتكنولوجيا النوورية، والتي تعتبر بمثابة «رشوة» او «شراء» لاستقلالية السياسة الايرانية عن النفوذ الاجنبي وحملها على التخلي عن «القرار الوطني الحر»..!
وما من شك ان هذا السلوك الايراني الساعي للحاق بعصر التكنولوجيا والاصرار على هذا السلوك رغم الضغوط الهائلة والتهديدات، يحظى باحترام الرأي العام العالمي اضافة الى احترام العديد من الدول الضاغطة نفسها، بدليل اضطرار المسؤول الاميركي للقول عن الملف النووي مع كوريا الديموقراطية بان هنالك فارقاً كبيراً بين موقفي ايران وكوريا: فكوريا الشمالية «الديموقراطية» طردت الخبراء واعلنت صراحة انها تنتج الاسلحة النووية، ولكنها في الوقت نفسه تفاوض الاميركيين على ان «يطبعوا» علاقاتهم بها، وان «الحوافز» التي تقدمها لهم اميركا والتلويح بمليارات الدولارات وفك العزلة عنها، يختلف عن سلوك ايران التي اعلنت ان كل ما تقوم به لا يتنافى مع القانون الدولي ولديها حيثياتها الواضحة لاثبات ذلك، ولكنها في الوقت ذاته رغم هذه «المرونة» المتمثلة بمراعاة «الشرعية الدولية»، ترفض «الحوافز» التي يراد مقايضتها بتوقفها عن التطوير السلمي للتكنولوجيا النووية ونعتبر ذلك نوعاً من الاهانة ومحاولة لمقايضة القرار الوطني المستقل الحر، ببعض المكاسب المادية، و«التكرم» عليها بتطبيع علاقاتها مع المجتمع الدولي، علماً ان ايران رغم كل محاولات فرض العزلة عليها منذ قيام الثورة، ليست معزولة اقليمياً ودولياً، ثم ان الذي يتعهد «بفك العزلة» يعترف ضمناً بفشل هذه المساعي لفرض العزلة، وبأنه يمارس سياسة ديكتاتورية غاشمة يحاول عبرها جعل سياسات الدول الاخرى تحت رحمته. وهذا بحد ذاته مناف للحد الادنى من حقوق الدول صغيرها وكبيرها في ممارسة ادارتها الوطنية الحرة والمستقلة، مع انفتاح كامل على كل الدول الا تلك التي تمارس سياسة التعسف والظلم وفرض الارادة من جانب النظام الاحادي العالمي.
ولو عقدنا مقارنة بين ما تفعل قياداتنا العربية بالمقابل، لوجدنا ان سياسات بعض الدول العربية التي كانت تلعب دوراً رائداً في قيادة المنطقة العربية بأسرها لوجدنا في الوقت الحاضر ان سياستها قد تحولت تحت شعار الواقعية والبراغماتية الى نوع من مقايضة علنية بين ثوابتها الوطنية والقومية وبين «الحوافز» التي تقدم اليها من جانب «لعبة الامم» : فعلى سبيل المثال لا الحصر.. فان ارسال قوات رمزية من جانب الشقيقة مصر للمشاركة في حرب «عاصفة الصحرا»ء بعد اجتياح صدام للكويت، وقيادتها للحملة السياسية ضد العراق في مؤتمر القمة الذي عقد عشية الغزو كان نظير اعفائها من عدة مليارات من الديون.. ولو انها سلكت طريق التداول في الموضوع من موقع الامتناع او الممانعة على الاقل، لكان ذلك «أربح» لها حتى من ناحية « الحوافز» ولما كان اقتصر الامر على اعفاء من ديون، لم تكن مطالبة بدفعها في المستقبل المنظور، وهي قد تحظى «بالسماح» تجاهها بمرور الزمن، بل لكان بالامكان ان تحصل على مساعدات جديدة يزيد حجمها عن حجم هذه القروض التي «اعفيت» عن سدادها، وليس من موقع المساومة والاستجداء، بل من موقع «الندية» كونها اكبر دوله من المنطقة تستطيع ان تفرض كلمتها، دون ان تقيد نفسها بقيود التبعية، فلقد كان جمال عبد الناصر تقدم اليه القروض من اميركا تلقائيا وبالشروط التي يراها مناسبة، فيشتري اذا اقتضى الامر بهذه القروض سلعاً واسلحة من الاتحاد السوفياتي، واذا سحبت الولايات المتحدة عرضا بتمويل السد العالي، فان القاهرة لا تجد مانعاً من اخذ القرض من جهة اخرى لها مصلحة في التعامل مع مصر معاملة الند للند!
ونحن نرى ان الاسلوب «الشيلوكي» الذي يتبعه النظام العالمي وتوابعه في التعامل مع الدول والجهات المستهدفة بالضغوط (شيلوك هو المرابي اليهودي في مسرحية شكسبير «تاجر البندقية») فليس بين اميركا وحكومة بيونغ يانغ مجرد عداوة عقائدية حول نوع النظام الذي تتبعه بيونغ يانغ، فلو كان موقفها الضاغط على بيونغ يانغ مستمد من كون «كوريا الديموقراطية» تأخذ بالنظام الشيوعي، لكانت طبقت ذلك على الصين الشعبية التي تأخذ بالطرح الشيوعي، ولما كانت واشنطن تعرض على بيونغ يانغ المساعدات والعروض وتعدها بفك العزلة عنها، دون ان تطلب منها تغيير النظام القائم فيها. وكل ما في الامر ان اسرائيل «معبودة» و«محظية» واميركا، تخشى ان تتسرب التكنولوجيا النووية من كوريا الشمالية الى بلدان عربية، فهي تشترط عليها حتى عدم استخدام التكنولوجيا النووية «المانية» بحجة انها ذات تكاليف باهظة. ولذلك تحاول اميركا ان «تشتري» وقف بيونغ يانغ لنشاطها النووي عبر تقديم العروض والهبات والمساعدات بارقام «اسطورية» لان كل ما يهمها ـ بعد ان فشلت الضغوط والتهديدات ـ ضد كوريا الديموقراطية في التخلي عن التكنولوجيا النووية فقط التي وصلت حد انتاج السلاح النووي، هو ان لا توقف كوريا الشمالية انشطتها التكنولوجية النووية فقط، بل ان تدمر ما انتجته من اسلحة نووية لان ذلك يشكل قلقاً لاسرائيل حتى لو كانت كوريا في اقصى الارض، لمجرد احتمال تسرب التكنولوجيا النووية من كوريا الديموقراطية غير الخاضعة للارادة الاميركية وغير المتعاطفة مع الكيان الصهيوني، ولانها ذات سياسة مستقلة غير خاضعة للهيمنة.
وهذه القاعدة نفسها، تسعى السياسة اصهيو ـ اميركية لتطبيقها على ايران عبر عرض «حوافز» معينة عليها من جانب «الترويكا» الاوروبية وهي عروض تشمل مساعدات تقنية جانبية لا تساعد على تطوير مشاريع التكنولوجيا النووية التي تريدها ايران، اضافة الى مساعدات وحوافز اقتصادية عينية ونقدية، ورفع اسم ايران من «لائحة الدول الداعمة «للارهاب» وغيرها من العروض التي يشكل كل «حافز» منها استفزازاً للكرامة الوطنية الايرانية..
اما لماذا تركب اميركا هذا الركب الملتوي والخشن مع ايران في دفع الاوروبيين لتقديم هذه الحوافز فلأنها تطبق معادلة وضعت بالاتفاق مع الكيان الصهيوني: فان كل ما يزعج اسرائيل من السياسة الايرانية هو عدم قبول طهران التطبيع معها، اضافة الى ان القدرات الدفاعية الايرانية المتنامية ـ وليس تطوير التكنولوجيا النووية فقط ـ لان هذه القدرات الدفاعية الايرانية المتوفرة لدى قيادة ايرانية سياسيةة وعسكرية معترضة على اصل وجود كيان يغتصب «ارض فلسطين والقدس»..