-------------------------------
في اليوم التالي رن جرس الهاتف وجاءني صوت الأخ / أبو سليم / مدير مكتب السيد الرئيس قائلا :
- مرحباً ست أم علي
- أهلا وسهلا
- السيد الرئيس يريد أن يشكرك
- أهلا وسهلا
وجاءني صوت السيد الرئيس
- مساء الخير
- أهلا وسهلا
- كانت جلسة لطيفة وأشكرك
وهنا أخرجت كل الذي لم أستطيع قوله وجها لوجه وقمت بالترحيب به بكل الكلام الذي ساعدتني ذاكرتي عليه وشعوري تجاه قائد البلد و بطل حرب تشرين الذي شرفنا بزيارته.
في اليوم التالي اتصلت بالأخ تحسين وأعدت إليه مفروشات منزله شاكرة إياه جزيلا فلقد / سترنا / أمام الضيوف.
في عام 1975 وعندما كان أبو علي مشغولا إلى الرأس بعمله ومكلفا بمهام إضافية عدا عن رئاسة مكتب العمال القطري بالإشراف على بناء وإقلاع عدد من المصانع في البلد وبرئاسة لجنة إعمار مزارع الدولة لبناء قرى الغمر في الجزيرة وكان عمله يقتضي التنقل الدائم بدأ القلق يعود مرة أخرى مع بداية أحداث لبنان وبداية عمليات الاغتيالات من قبل الأخوان المسلمين وكان زوجي يتلقى تهديدات وكان أسمه في قوائم تم اكتشافها في أوكار الإخوان على رأس من يتوجب اغتيالهم .
وزادت القيادة الحراس على باب بيتنا إلى ما يقرب من عشرين رجلا يتناوبون على مدى ال 24 ساعة ولم تعد الحياة بسيطة وهادئة ودخلت في جو يتنافى مع طبيعتي الإنسانية وهي أني أحب الناس كل الناس وأحب البساطة والإنسانية في التعامل بين البشر ولا أحب إيصاد بابي لأي أحد .... لكن دخول الناس بسهولة إلى مضافة منزلنا صار صعبا دون أن أعلم من الطارق بسبب الوضع الأمني ... كل هذا كان يقلقني ولا يعطيني تلك الميزة التي كانت تفرحني وهي رغبتي الجامحة بمساعدة الطارق على الباب .
حتى أن إشكالا حدث مرة مع جارنا الأستاذ / عدنان السواس / وهو مهندس حلبي محترم وزوجته روسية -رحمها الله- وكان الحرس جديدا لا يعرفه وخرجت إلى الشرفة وصحت على الحارس أنه كيف يمنع / أبو عمار / من صف سيارته قرب البناء وهو الجار وأوصيت لجميع الحرس أن يراعوا الجيران كلهم ويعاملونهم أطيب معاملة .
في هذا العام هرب أهلنا في لبنان إلى سورية وكان منهم شعراء وفنانون وعلماء حتى الفنان الكبير / فيلمون وهبي / سكن في فندق الفاندوم ولم يكن لديه قرشا في جيبه ليدفع للفندق فعلم أبو علي بالأمر عن طريق الأخ سليمان نصر الدين وقام بالواجب ودفع الفاتورة من ميزانية مكتبه واتصل بالسيد الرئيس شارحا له الوضع فأثنى الرئيس على ذلك وطلب إليه أن يستمر وأن يرعى كل الفنانين اللبنانيين الذين يطلبون المساعدة والحماية ... وهنا أرسل زوجي إلى الرحابنة والسيدة فيروز رسائل تضامن ومحبة وقال لهم أن لهم بيوت أخوة في سورية تنتظرهم حين يرون أنهم في حال الخطر أو حين يريدون زيارة الشام .
وبدأ الأحباب الرحابنة يزوروننا ونزورهم وصاروا أهلا وأصحابا .
/ بو عميد / أو / أبو عماد / والأولى باللفظ اللبناني هو فلمون -رحم الله ترابه- فلمون / يغني اسوارة العروس مشغولة بالدهب / فلمون يغني أنا خوفي من عتم الليل والليل حرامي
فلمون ... هو فلمون الكبير .
في أول زيارة ل / بو عميد / إلى بيتنا حكى لنا عن ظروف الحرب اللئيمة و عن قسوتها وعما حدث له حيث توقف الفن والمسرح الذي كان يعمل فيه ويأكل خبزه منه ..
وروى حادثة تروى وأتمنى أن تسعفني ذاكرتي لعدم إنقاص حرف منها وهي أنه تلقى نصيحة أبان الحرب أن يذهب إلى السعودية ليمدح أحد الأمراء الكبار ليحصل على مال يسمح له بإكمال حياته دون عوز وبالفعل ذهب إلى جدة وهناك في أحد القصور جعلوه ينتظر ساعة ويزيد حتى دخل عليه سموه وسأله :
- وش تشتغل أنت ؟
- أنا شاعر يا مولانا
- شاعر !؟ ونادى على حراسه صائحا
- اندهوا ل فليحان ابن فعيلان
ودخل بعد دقائق رجل في الثمانين من عمره وقد تبقت في فمه بعض الأسنان للذكرى فقط وأمره الأمير صائحاً
- قل ... قل يا شاعر (بلهجته البدوية)
وبدأ أخونا يزبد ويرعد وقال ومال وهاج وماج أكثر من عشر دقائق ولم أفهم عبارة واحدة مما قال ... ثم التفت سمو الأمير قائلا:
- رد عليه ... رد عليه
وهنا لم أدر ما أفعل وأنا لم أفهم كلمة مما قال فجاءني وحي الشعر قائلا :
حلوي سايقة بنجمي
ونجمة تحوم عا نجمة
ومنكل هالحكي اللي حضرتك قلتو
(....) أم اللي فهم كلمة
وانفجرنا ضاحكين بقوة من حضرة هذا الفنان الكبير وكان الضحك يلفه حزن دفين على حال وصل إليها عباقرة و فنانون بهذا القدر و
ملوك الحرب و الفساد يعشعشون في كل مكان
رددنا الزيارة ل / بو عميد / / أبو عماد / في البيت الذي خصصته له الدولة في دمشق وكانت جلسة رائعة ذقنا فيها طعام السيدة الكريمة / أم عماد / ثم غنت أم عماد بصوت شجي وقال أبو علي لفلمون :
- أم علي صوتها حلو وتغني غناء جميلا ( كان والدي قوالاً ) وأمسك أبو عماد بعوده وعزف أنا خوفي من عتم الليل وغنيت معه
- أنا خوفي من عتم الليل
والليل حرامي
يا حبيبي تعا قبل الليل
وعيني لا تنامي
كانت ردة فعل فلمون : يا بيي ي ي ي ي
غنيتها من كل قلبي وكانت عيوني و قلبي تشاهدان حبيب العمر ( عبد الله ) وهي خائفة من أن يأخذه شيء ما مني ولم أكن أعرف هذا الشيء ولكن المستقبل سوف يصدق لي مخاوفي .
في هذه الأيام كان يحدث تنقلات بين حرس القيادة و اتخذ قرار بتبديل كامل للحرس عندنا و كان حرس البيت قد صاروا مثل إخوة لنا فهذه طبيعتي التي افتخر بها و كنت أزور منهم من تلد زوجته في البيت مثلاً و كانوا يشكون لي همهم و مشاكلهم فكلهم كانوا مكافحين في الحياة و بالكاد تكفيهم مرتباتهم و كان أولادي يعتبرونهم اخوة لهم . المهم أصدر قرار بنقلهم و تبديلهم ذات صباح و رأيت هرجاً على باب البيت و عندما فتحت الباب كان (فيصل) و هو أحد الشباب يبكي في الباب قائلاً:
- خالتي أم علي بدهن ينقلونا من عندكم !
- كيف
- جاء أمر و يجب أن نغادر اليوم
و لم أعرف ما أقول له فلقد أربكني الموضوع و لم اقل له إلا ما يطيب خواطر الجميع حيث دعوتهم و تحدثت إليهم و تغدوا مع الأولاد..
المهم أن الحرس عندنا لم ينفذ الأمر و طلب بالفعل أن يذهبوا إلى السجن على أن يتركوا مهمتهم عندنا مقابل الخدمة في مكان آخر.
أقول ذلك بعد مرور كل هذه السنين بفخر و لكي أتوجه شاكرة لكل واحد منهم أينما كان و أنا التي أسمع من حين لآخر أو يزورنا بعضهم ليطمئن و منهم الأخ الكريم (أبو علي منزل ) و زوجته .
زارنا الجميع عاصي ومنصور وزارنا محاميهم ومدير أعمالهم في سورية الرجل الذي أصبح صديقا مقربا للعائلة بل ومحامي الشخصي الأستاذ نجاة قصاب حسن هذا الرجل ذو المكانة الاجتماعية المرموقة سيلعب دورا مهما في حياتنا المستقبلية وكنت ولا زلت أكن له مشاعر ود وأخوة - رحمه الله -
لابد هنا من أن أذكر و بسبب أن أصول عائلة زوجي تعود الى الريف الحموي و ليسوا من حمص أصلاً بل أتوا اليها مهاجرين بسبب ظلم الاقطاع مثل أغلب أسر الفلاحين ، و هم من قرية قرب بلدة مصياف تدعى (سيغاتا) و بقربها توجد غابة من الشجر و هي منطقة جبلية جميلة ، زاد من أهميتها أنها خرجت رجلاً عظيماً في تاريخ نضال السوريين ضد الاحتلال الفرنسي هو (بوعلي شاهين) و هو رجل قل مثيله في الشجاعة و التحدي و القوة الجسدية حيث تروى عنه حتى الان روايات تشبه الاساطير و لكنها ليست دون أساس بل لقد كان الرجل ثائراً حقيقياً (على طريقته) ضد الفقر و الظلم بكل أشكاله حتى أنه مرغ أنوف العسكر الفرنسي في الوحل و قتل عدداً منهم و صار مطلوباً و محكوماً بالاعدام غيابياً و لم يقبض عليه الا غدراً و بعد خيانة .
المهم أنه و بعد مرور كل هذا الزمن و عندما أصبح عبدالله في قيادة الحزب قام بواجبه تجاه أبناء هذا البطل الذي لم يأخذ حقه المعنوي كمناضل ضد الاضطهاد و الاحتلال ووظف ولده في مصنع السماد الازوتي الذي أشرف على اقلاعه في حمص حيث لايفوتني القول أن صلة قرابة تجمع بين بوعلي شاهين و عبدالله الاحمد و لاغرابة في ان يكون كلاً منهما (بوعلي) .
حيث زارنا ابن بوعلي شاهين بعد حيازته البكالوريا مع والدته و طلب من زوجي ان يجد له عملاً و هذا اقل ما يمكن تقديمه لاسرة هذا المناضل .
في هذا الوقت تقريباً قدمت المؤسسة العامة للسينما فيلماً عن بوعلي شاهين باسم (الفهد) من بطولة أديب قدورة و اغراء و تخللت الفيلم مشاهد احتج عليها أهل بوعلي شاهين حيث كانت اغراء الممثلة - وهي ممثلة جيدة- تقوم على الدوام في افلامها باغراء المشاهد . جاءتني زوجة بوعلي شاهين محتجة على الفيلم و قد نقلت احتجاجها هذا لزوجي و اظن انها رفعت دعوى قضائية لهذا السبب .
في يوم من أيام تلك الحقبة الزمنية اتصل بي الأخ الكريم ( أبو وائل ) محمد ناصيف مسلما ثم قال : أم علي , الإمام موسى الصدر يريد أن يأكل من طبخ بيتك ...
وقلت له: يا مرحبا وهذا شرف لي ولبيتي بل وليدي التي ستطعم رجلا بهذه الكرامة.
وجاء الإمام موسى الصدر في اليوم التالي إلى بيتنا ومعه رفيقه الذي اختفى معه فيما بعد وكان في الحضرة رجال كرام منهم ( أبو وائل ) وآخرون وكنت حينها أود أن أدخل مسلمة عليه وقلت لأبي علي :
هل لي أن أغطي رأسي فسمع الإمام حوارنا فصاح :
- يا بو علي أم علي أختي ولتدخل كما تحب .... ومددت يدي مسلمة من اليمين فلم يسلم رفيقه أما هو فهجم قائلا : أم علي أختنا
ودخلت وسلمت عليه وكنت أرى النور في وجهه الكريم وأقسم بالله العظيم أنني كنت أشعر أنني في حضرة نورانية ولم أكن أعلم لا أنا ولا أحد غيري أن هذا الرجل سيسافر بعدها إلى ليبيا لكي يختفي إلى غير رجعة وحدث ذلك بعد مدة من زيارته وهو الذي كرر مرارا ,
- أم علي كلما أتيت إلى الشام سأتغدا عندك .... وغاب الإمام موسى ولم يعد . -فرج الله غربته - ورحمه
في نفس الفترة تواصلنا مع الأستاذ الكبير نزار قباني أيضا فلقد دعاه أبو علي إلى منزلنا أكثر من مرة وكانت صداقتهما عميقة ترسخت بعد أن قدم الشاعر الكبير لرواية ( أبو علي ) : عندما يتوهج الحلم واتصل مرة قباني إلى البيت يسأل عن ( أبو علي ) فحاورته وكلي سعادة وقلت له :
- أحب شعرك أستاذنا الغالي ليس فقط لأنه فن جميل بل لأنه رسالة تدافع عن المرأة وتحاول رفع الظلم الواقع عليها في مجتمعنا لأننا مجتمع يعطي كل شي للرجل ويلوم المرأة حتى على أبسط شعور قد يخالج قلبها .... ودعاه زوجي إلى الغذاء فرفض قائلا :
- لا أريد أن أرى أم علي وقد تعذبت من (الطبخ) اعزمني إلى المطعم ثم نشرب القهوة عندك , أنا أعرف كم تعذبونها وغيرها في مطابخنا , أريد أن أرى الست أم علي مرتاحة وصوتها الملائكي على الهاتف يدعونني لكي أتعرف على هذا الكائن .
جاء الشاعر الكبير إلى بيتنا ودار الحوار عن كل شيء فقال
أن زوجته ( بلقيس ) رحمها الله كانت ترد على المعجبات بنفسها وتناديه لكي يتكلم معهن لا بل كانت أحيانا تكتب على ورقة صغيرة ساعة موعد تقترحه إحداهن ومكانه ...
وسألته :
- هل تؤمن بكل ما تكتبه ؟
أجاب
- أنظري ( أم علي ) الحقيقة غير ذلك
لقد خطبت ابنتي وخرجت عدة مرات مع خطيبها فناديته قائلا
-تعال ( ولاه ) واكتب كتابها حتى لا نتزاعل !
هنا قلت ( لأبو علي ) ضاحكةً:
ممكن حضرتك تطلع شوي بلكي الأستاذ نزار بيكتب فيني شي قصيدة ومستحي منك ؟ وضحكنا جميعا !
سألني نزار ماذا أحب من شعره
فقلت :
عيناك كنهري أحزاني
و أني خيرتك فاختاري
كان لقاءً رائعا مع هذه القامة الشعرية الكبيرة لن أنساه ما حييت وكنت ولا زلت اعتبر البشر الذين لا يحبون الشعر يغادرون بشريتهم إلى شيء آخر .
يتبع...