تحمل أسماء الأماكن والمواضع..منذ شعراء المعلقات الأول والوقوف على الأطلال ..وحتى الآن أماكن كبيرة في الذاكرة والوجدان, وتشغل القلب بالبحث بين تفاصيل هذه الأمكنه ..
وفي ذاكرتنا ...تتخذ أسماء أماكن مثل:
جوفين...جيبول..طريق بسيسين..بنجارو...الزراعه.....أماكن حميمه جدا .
فهذه الأماكن ترتبط بأصدقاء وسهر وحب وجنون ..الا جوفين فهذه كانت مكان تجمعنا السنوي ومكان السهر والتخييم
كانت هي الصديق...
-2-
مضى زمن لم أزر معظم هذه الأماكن .. حدثت فجوه في حياتنا ..امتدت من تاريخ تخرجنا من الجامعه وشملت معظم فترة التسعينيات تقريبا..
وتفرق الأصدقاء ضاربين في جهات الأرض الأربع ..ساعين وراء الحلم والعمل ...فالذي سافر للتحصيل العلمي والذي سافر للتحصيل المادي ,والذي هاجر نهائيا ,والذي تزوج وانزوى ,والذي سجن ..
الشلّة الكبيرة ..التي كان يوجد دائما في قلبها من تسعة الى عشرة أفراد ..وعلى يمينها ويسارها العشرات ..تقلصت حتى بت لا تجد في عتمات الليالي راكب رابع ليكمل طقم فريق شده..
أو راكب ثان لتحدي دق طاولة زهر أو منقله أو شطرنج..
غابت بعض هذه الأماكن بغياب الأصدقاء,فذبل طريق بسيسين بهجرة عمرو ,وهاجرت عائلة عمّار ,وأقفرت غرفة مالك وأجرّت الى طلاب الكلية البحرية.. وبنجارو تحيا باجازة حمزه السنويه فقط.
حتى جوفين هجرت بعدمافقدت بريّتها ..و دجّنوها ..عمّر أحد المسؤولين بجانبها فيللا وأقيم بجوارهامطعم .. ألا تشجعون السياحه !
بقيت جيبول صامده .
-3-
في كل عام كنا نأخذ زوادتنا ..ونصعد الى جيبول فبيت وضّاح المعلّق في حارة بيت الخطيب , مثل حجرة العيّاطه* في ضيعتنا.
وتنطلق أصواتنا بالغناء.. وعلى وزن عالسنفريان ..وربي ربي يا ربي ...كيف دعبلت العجّوره؟!
كنت أؤلف وأعد ..وكان الشباب يرددون...
جيبول الحبّيناها .........وبالعالي عليّناها
شجرتنا اللي حميناها..... ومجّدنا فيها الانسان.
.....
وفي حارة بيت الخطيب تجد البيوت مثل أعشاش الطيور البريه ,معلّقه بين أشجار السنديان العتيقه.. ونادرا ما ترى شجرة منها مقطوعه ..
كان شباب الحارة قد أعادوا تمثيل مسرحية (يعيش يعيش) لفيروز منذ سنوات ..وكان هناك ملعبا لكرة القدم بأعلى الضيعه كنّا قد لعبنا مع فريق بيت الخطيب في أواخر السبعينيات على ما أذكر مباراة وكنا نشكل يومئذ فريقا لكرة القدم اسمه نجم الساحل ..
.....
في احدى.. المرات كنا جالسين تحت السنديانه العتيقة أمام بيت وضّاح ..نعد أبريقا ضخما من الشاي , يليق بما بعد غداء مفتخر من الشواء..
واذ بصوت يعربش صاعدا باتجاهنا من أحد البيوت القريبه ...
لا تسقني شاي
ان الشاي تضنيني
بل اسقني قهوة بالهيل ...
يا عيني..!!
-4-
لا يكاد يمر شهر حاليا..الا وترانا في جيبول أو في المناطق التي تجاورها ..
وجرت عادة صديقنا علّوش أن يستل الموبايل ويرسل رسالتين , واحده لحمزه في السعوديه وأخرى لوضاح في أوكرانيا..
- أرسل رسالة لحمزة (ليكنا قاعدين عند الاستاذ علي واللحم يحمرّ بهدوء والكلب ينتظر )...فردّ عليه (وأناليكني قاعد عاشط الخليج ,..متل الكلب؟!)
- أرسلت رسالة الى وضاح في أوكرانيا ( لا تطوّل, هراني علّوش)..
فأجاب ( صحتين , اذا هيك ماني جايي, ذوقوا بعض مما ابتليتنا به).
فعلّوش لديه حيويه نادره ..برنامجه اليومي مثلا: فطور وعمل في طرطوس ,غداء في اللاذقيه ,سباحه في الشقيفات ,وبعد سهرة في جبلة يذهب مع حمزة لالتهام سوده مشويه في ساحة الشيخ ضاهر..
حتى اقترح حمزة مرة ..أن نقدم له في السر طلب هجرة الى كندا ونسعى فيه..
.....
منذ حوالي الشهر كنا عند الاستاذ علي كامل الخطيب استاذ اللغة العربية ..وكنت أردد بصوت خفيض بعض أبيات من الشعر أثناء قيلولة الغداء
.. ولقد ربطت بها طويلا ناقتي....
فانتفض من قيلولته وقال مصححا.. ولقد وقفت..
وأكمل :الأصايل توقف ولا تربط.
-5-
جيبول....
يا أم السنديان المتشعلق بالصخور ...
يا أخت الهواء الفذ ..والطود المكابر..
يا بنت الماء...
كم نحتاجك الآن..
في هذه اللحظات المعلوكه
والهواء المحتل..
والأفق المستحيل.
_________________________
*: حجرة العيّاطه : هي حجرة متطاولة ناتئه مشرفه على وادي كنكارو كنا نقف عليها ونصرخ فيتردد الصدى متجاوبا من أعماق الوادي بشكل متضاعف , وكأن الحجرة هي التي تصرخ ولهذا سمّها الناس بالحجرة العيّاطه.