آخر الأخبار

الإنسان الكوني

ألا يُعتبر القرن الحادي و العشرون تتويجا لما توصلت إليه البشرية من ترويض للطبيعة و معرفة للعقل و لمنتهى إمكاناته؟ لقد صار العالم كما لم يكن قط قرية صغيرة سُلط عليها مكشاف فأيّ واحد منا يعجز عن الغوص في ظاهرة من ظواهر الطبيعة و أيّ واحد منا يعجز عن الإلمام بتواريخ الشعوب و صراعاتها في سبيل التطور و التحرر و الحياة الكريمة مهما بلغ فقرها المادي و محدوديتها العلمية أو التكنولوجية أو العسكرية. لقد بذل الكائن البشري منذ بدء الخليقة جهدا جبارا في مواجهة أهوال الطبيعة رغم جهله بأسبابها و نواميسها حتى معرفةِ ذاته و السيطرة على أسباب حياته و قـُوته فضلا عن بحثه الغريزي عن البقاء تدل على ذلك النقائش في الكهوف و مشاهد الصيد التي تجمع الإنسان و الحيوان في وضعية الاكتشاف والتعرف حتى الغلبة و الترويض.
هذا الإنسان -الذي اُستطاع عبر عقل يتطور بالتأقلم مع مختلف الوضعيات أن يعيد إنتاج ذاته و واقعه- جعل شبيهَهُ الإنسان مجرد جزء من الطبيعة قابل للسيطرة مثل أية فصيلة حيوانية أو ظاهرة طبيعية يمكن ملاحظتها و تكميمها مما جعله يسلب أملاك الشعوب و يصادر حريتها و يرد ثقافة الآخرين إلى ثقافته هو معتبرا إياها الثقافة الكونية التي يجب أن تتبعها كل الشعوب سواء كان ذلك بقوة الإعلام أو بقوة الحديد و النار و نشأ عن توحيد الثقافات ما يُسمّى بالإنسان الكوني و المواطن الكوني وصولا إلى المتلقي الكوني و هو الشخص القادر على هضم كل مجلوبات الثقافة الكونية و تطويع ثقافته الذاتية و الجماعية لها عوض تطويع الثقافة الكونية لما يحتاجه هو و يفكر فيه و إزاء هذا "التشويه اللغوي" لمفهوم الكونية يقع اختصار كل ما قامت به البشرية طيلة تاريخها في عدد قليل من السنوات هو يوم ميلاد النظام العالمي الجديد أي يوم سقوط كتلة الاتحاد السوفياتي و ظهور قطب اقتصادي و عسكري وحيد يحكم العالم.
أليس البشري الذي يتمسك بأرضه و يأكل من ثمرها ما يزرعه بيديه أكثرَ كونية من ذاك الذي يتماهى مع جدران بيته و ضجيج الشارع الذي يطل عليه و الصور التي تطلع عليه من شاشات قد اُختيرت برامجها مسبقا وفق رؤية سياسية و اُقتصادية معينة وفق تابوهات محددة تصنعها السلطة.
إن الإنسان الذي يعيش في إطار طبيعي يشعر بتعاقب الفصول و يرى السماء في كامل اُتساع مجالها البصري ليس أقل ذكاء من غيره و ما توهمنا به وسائل الإعلام التي تمدح المدن و وسائلها و تزعم أن الفكر يتطور أكثر في المدينة لاختلاف مؤثراتها و تصادم تياراتها ليس صحيحا فهذا الإنسان دون غيره أشبه بشجرة تشيع الهواء النقي و الطاقة الإيجابية، طاقة مَحبة الطبيعة و السلام مع الكون.
لقد صارت المدنية الحديثة تصنع سلالات بشرية معلبة تأكل نفس الطعام و تشاهد ذات البرامج رغم ما يبدو من اُختلاف نسبي بين البضائع الفكرية و التجارية إلا أن حرية الاختيار محدودة بـِكمّ الخيارات المقدمة و ليست حرية مطلقة.
و لا أدعو بهذا الكلام إلى العودة إلى الطبيعة و نبذ المدنية و لكن لا بد من المراوحة بين الإثنين و تأمل الذات من حين لآخر فأمراض المدنية و تشوهاتها لا تخفى على أحد و الإغتراب في الآلة و في الأنظمة الإجتماعية و نظام العمل ولـّد غربة الإنسان عن نفسه واُغترابَه في وسائل تعبير لا تُشبه مما نتج عنه صراع الإنسان مع ذاته و تآكله جسديا في شكل سرطانات و أمراض نفسية لا حدّ لها مما جعله يتقوقع في ذاتيته و لا يهتم بأخيه و جاره فضلا عن إثنيات أخرى و أمم لا تمتّ إليه بصِلة.
إن الكونية في بُعدها المدني تظل مسؤولية ذات شِق وجودي و آخر مادي إنها تعني الإضطلاع بوجودنا كبشر مسؤولين عن قيم إنسانية أساسية مثل محاربة الظلم و الفساد و الإعتراف للآخر بنفس الحق في الحياة و الكرامة و اُحترام رأيه و المدافعة عنه حتى عند الإختلاف معه، إنها الإرتفاع عن مصالح ذاتية مادية للحد من الخلل في توزيع الثروات في العالم و اُعترافٌ لصاحب الأرض (فلسطين) بِحقـّه مقابل الخطاب الإستعماري الذي يلتهم كل شيء و يشرّع الظلم بغايات موهومة مثل جلب الديمقراطية للعالم الثالث و كأن الديمقراطية مجرد مظلة تحمينا من المطر. أليست الأقليات المسحوقة في العالم و في الدولة الواحدة هي التي تصنع الفن الجميل و البصمة الإنسانية و الفكرة الراقية؟ أليس السجين في سجنه أكثر حرية من السجين الذي لا يعلم حتى أنه سجين و لا يجتهد للخروج إلى النور و تحطيم أغلال البهرج و الأنانية و احتقار من هو "أضعف" منه؟ و إذا كانت الكونية التي يقدمها الإعلام تعني "فوبيا" الآخر و السعي إلى اُمتصاص هويته و التحكم بعقله و إذا كانت الكونية تعني الهوية المائية و الذوبان في الآخر فبـِئسَ الخَلَفُ نحن للبشرية و لن نجني من إدارة ظهورنا لما أنجزه أسلافنا إلا أن ننسى مِشيَتَنا و نقلد "المِشيَة الكونية".