آخر الأخبار

الأمن الثقافي العربي ,التاريخ نموذجا

عندما بدأتُ هذه الدراسة دخلتُ إلى مواقع الانترنت فوجدتُ ملايين المواقع الأجنبية التي تتحدث عن الأمن الثقافي وأهميته, وبنسبة أقل بكثير باللغة العربية(!), وقرأت الكثير من المقالات الهامة لمثقفين عرب انتبهوا إلى أهمية الأمن الثقافي وكتبوا عنه, لكن مع الأسف فإن المثقف العربي في واد والفعل المؤسساتي العربي في واد آخر.
من هؤلاء المثقفين الشاعر اللبناني طارق ناصر الدين الذي تحدث عن الأمن الثقافي العربي قائلاً: «لتحقيق الأمن الثقافي علينا أولاً بالفرز بين المثقفين العرب وبين المثقفين الأجانب الذين يغتصبون الهوية العربية لتنفيذ أدوارهم. لم يعد جائزاً ولا بشكل أن يحتل مسؤولية الصفحات الثقافية في الصحف والمرئيات أشخاص لا علاقة لهم بالعروبة إلا وظيفة تدمير ثقافتها لصالح من يمول هذا الإعلام, الحرية سلاحنا, وإن الاحتلال عسكرياً أو ثقافياً هو عدو الحرية الأول, والتخلف دينياً أو وطنياً هو عدو الحرية الثاني. والأمن الثقافي العربي محاصر بين هذين العدوين. وعلى المقاومة الثقافية أن تحمي صدرها وظهرها معاً, فالمحتل يطلق على صدر الثقافة رصاصه وصواريخه, والمتعصب المتخلف يغرز في ظهر الثقافة خناجره المسمومة»1.
وأيضاً المفكر السوداني الدكتور حسن بشير محمد نور الذي يقول عن الأمن الثقافي: «إن مفهوم الأمن الثقافي في المجتمع يرتكز على معايير معينة منها وجود ثقافة وحضارة وطنية تجعل المواطن يعتز بها باعتبارها وعاءً حاملاً للموروث الثقافي برموزه وأفكاره وقيمه، مع ضرورة الاعتزاز بالذات خصوصاً في بلد متعدد الثقافات والأعراق والأديان كي تتمازج في تنوع حميد وتتعايش مع بعضها دون تضاد. من المهم والحال كذلك العمل على تحديد أسس وقواعد لثقافتنا والعمل على منع حالات الإختراق الثقافي والغزو الفكري، لكن ذلك يتم ببناء وترسيخ القدرات الثقافية لاستعادة الأمن الثقافي المفقود»2.
دعونا أولاً نعرّف الثقافة: إن ثقافة أمة هي مجموع مكوناتها الفكرية والمادية وإنتاجها الإبداعي العلمي والمعرفي عبر التاريخ.
إذن التاريخ هو حامل وخازن بل وحارس هذه الثقافة الأول, وعندما نقرأ قولاً للخطيب "الروماني" شيشرون يقول «من لا يعرف التاريخ يبقَ طفلاً أبد الدهر», لا نستطيع إلا أن نقف مطوّلاً عند هذا القول لأنه يلخص أهمية التاريخ في ذاكرة الأمة ونضج ثقافة أفرادها. ولنسأل: ما هو التاريخ أصلاً ولماذا من لا يعرفه يبقى قاصراً غير ناضج بالمعنى الآخر لكلمة طفل؟
نجد الإجابة لدى أكثر من مفكر منهم الدكتور الباحث أحمد داوود الذي قال: «إن التاريخ هو أخطر العلوم الإنسانية شأناً, إذ أنه يحتضن نشاط الشعب المادي والروحي ومن خلاله تتحدد القسمات القومية والسياسية والحضارية لأفراد الأمة جيلاً بعد جيل, من هنا فإن جميع دول العالم المتقدم تنظر اليوم إلى تاريخها القومي نظرتها إلى أمنها القومي»3.
إذن التاريخ هو ذاكرة الشعب وثقافته, هذه الذاكرة التي تورّث للأجيال اللاحقة مكونات الهوية والشخصية, والتي تحمي صاحبها في المنعطفات التاريخية وتجعله أكثر حكمة وشمولية وموسوعية ومعرفة للأحداث والنتائج, وأكثر قدرةً على تفسير وتحليل مجريات التطورات التاريخية والتعامل معها, إنها الخبرة التاريخية التي لولاها لبقي الإنسان بالفعل طفلاً.
لهذا فقد كان العرب يحرصون أشد الحرص على تدريس التاريخ لأطفالهم, فهذه زنوبيا تدرس التاريخ منذ أن بلغت الثانية عشر إذ تقول في مذكراتها: «كان كورنيليوس مكلفاً بتعليمي التاريخ, وكان الغضب يقفز إلى قلبي لإلباسهم لعقلي اللبوس الروماني عندما كان يردد على مسامعي بأني قد ولدتُ رومانية بفضل المرسوم الذي أصدره الامبراطور السوري كركلا مانحاً فيه المواطنية الرومانية لكل قاطن في حدود الامبراطورية (في فترة الحكم السوري للامبراطورية الرومانية)»4.
وإن العرب من أكثر الشعوب التي وعت أهمية الإحساس بالعزة القومية وإنجازات الأجداد, وعرفوا أن هذا الشعور القومي هو الذي يبقيهم موحّدين ويحميهم من طمع الطامعين. لكن هذه العزة أضحت اليوم مدعاةً للسخرية والتقريع تارةً بحجة رفض البكاء على الأطلال وطوراً بفعل غزو ثقافي حقيقي نال من الذاكرة الحضارية لهذا الشعب وشكك به واتهم تلك العزة بالشوفينية القومجية. يقول طارق ناصر الدين في هذا الصدد: «الأمن الثقافي مستباح ومخترق حتى تفاصيله, و"العروبة" مرفوضة في الوسط الثقافي المسيطر حتى كرابطة انتماء, والدفاع عن الأمة أو القومية أصبح هرطقة رجعية»5. إن واقع العرب اليوم بالطبع يفضي إلى الشعور بالخزي والخجل لكن هذا الخجل ليس مبرراً أبداً ليجعلنا نتبرأ من هذا التاريخ ونقذفه بشتى أنواع التهم, والأبشع من كل ذلك هو إهماله تماماً لتتلقفه أيدي العنصرية الغربية الاستعمارية وتفعل به كما فعلت بالأرض العربية تقطيعاً وتجزيئاً وتشويهاً. «إن الأمة العربية من أغنى الأمم تاريخاً ومن أفقرها وعياً لهذا التاريخ, كل الديانات التوحيدية في أرضها وهي تعاني التطرف والانشقاق والطائفية, وتخوض أو يراد لها أن تخوض حروباً عنصرية، ويتكاثر فيها الشعوبيون وتحتل الشعوبية أعلى منابرها, إن عجز المثقفين الوطنيين والقوميين عن مواجهة الاحتلال الثقافي المعادي لأمتنا أصبح نوعاً من التواطؤ أو الاستسلام»6.
من هنا سوف نتحدث عن تزوير تاريخ العرب وأهم من خضع لهذا التزوير هو تاريخ سوريا تحديداً. إذ أن الغرب الاستعماري قام بتزوير تاريخه وتاريخنا, تاريخه ليسبغ عليه الفضائل والتفوق التاريخي ويجعل من أثينا وروما معلمتين للبشرية, وتاريخنا ليمحو منه كل فضل وكل دور حضاري ويسحب منه سبق الحضارة الأولى والأعظم التي رفدت أثينا وروما بأجمل ما تملكان. هذا التزوير الذي انعكس على واقع الأرض السياسي في كيان مصطنع ومركَّب ومشوَّه هو "إسرائيل" التي قامت على فبركة تاريخية هي كذبة الأرض الموعودة ليهود العالم في فلسطين, وقاموا في سبيلها بتسخير كل أدوات الفكر الغربي ومؤسساته لتأليفها وتسويقها وتفعيلها, بينما في الحقيقة التوراة تحدثت عن قبائل عربية آرامية سكنت اليمن, وإن ابراهيم الذي وعده الرب بتلك الأرض هو جد الأنبياء جميعهم, (إذ أن النبيين موسى والمسيح من فرع اسحاق ابن ابراهيم, والنبي محمد من فرع اسماعيل ابن ابراهيم) قبل ظهور الدين اليهودي, وإن الأرض الصغيرة التي تمتد بين نهري الفرات والنيل في بلاد غامد وليس في سوريا ومصر والتي لا تتجاوز مساحتها مساحة الملعب أعطيت لأبناء ابراهيم الآراميين العرب وليس ليهود العالم كما أصبح في التزوير.
هذا المثال الصارخ والمعاصر يعطينا فكرة حقيقية عن ارتباط الأمن الثقافي بالأمن القومي بشكل كبير.

والآن لنرى ماذا فعلت الدول الغربية الاستعمارية "ثقافياً" لتحقيق أطماعها السياسية ولتدمير الحصانة الثقافية في بلادنا:
1- قامت بتزوير تاريخ العرب كما ذكرنا بشكل متعمد ومقصود وممنهج من خلال:
-تقسيم الشعب العربي القديم إلى شعوب وأقوام وأعراق مختلفة لضرب الهوية العربية, وإلى هذا الأمر تنبّه المؤرخ الفرنسي الكبير بيير روسّي قائلاً: «إنه هوسنا هو الذي قسم شعباً إلى شعوب أقرباء كالمؤابيين والعموريين والآراميين والفينيقيين والسوريين... الخ, لماذا؟ لأننا نريد أن نميز بينهم خصوصيات عرقية أو طائفية تجبرنا على أن نضع بينها العبرانيين»7.
-جعلت كل مدينة في سوريا التاريخية دولة ومملكة, فمدينة ماري على الفرات هي مملكة ماري, وايبلا مملكة, وبابل مملكة, وصور مملكة, وأرواد الجزيرة السورية التي لا تتجاوز مساحتها مساحة مدينة واحدة مملكة!, وذلك لضرب الشعور بالانتماء إلى وطن واحد هو سوريا, كأن نقول اليوم مملكة دمشق, ومملكة حلب, ومملكة حمص... الخ, كأنما هي شعوب منفصلة لا يجمع بينها دولة سورية واحدة ولا شعب سوري واحد سكن عدة مدن ولا هوية تجمع بينهم.
-قسّموا اللغة العربية بلهجتيها الرئيسيتين الفصحى (لهجة قريش) والسريانية (لهجة كل الأنبياء قبل النبي محمد, والتي تفرعت عنها الكنعانية - الفينيقية أو الحامية) إلى لغات, فأصبحت لديهم لغة بابلية ولغة كنعانية ولغة آرامية ولغة آشورية ولغة أكادية ولغة تدمرية... الخ, وكأن كل مدينة اخترعت لغة خاصة بها ولم تتكلم لغة الشعب الواحد كأن نقول اليوم عن لهجة دمشق لغة ولهجة حلب لغة ولهجة الساحل السوري لغة ولهجة مصر لغة ولهجة المغرب لغة وهكذا.., وهذا بالطبع لضرب القومية الواحدة إذ أن اللغة تعتبر من أهم حوامل القومية وهي التي توحد الشعب. بينما يؤكد جميع الباحثين المنصفين عرباً وأجانب أن هذه لهجات للغة واحدة هي اللغة العربية: «أظهرت الدراسات حول اللغة الأكادية (السريانية) التي كانت اللغة العالمية والسائدة أن معظم التراكيب اللغوية والقواعد ومصادر الأفعال وجذورها وتصريف الأسماء والصفات فيها تشبه اللغة العربية الحالية, وكثير من الكلمات المستخدمة في اللغة العربية سواء الفصحى أو العامية موجود في الأكادية وهذا يؤكد الوحدة الحضارية لسكان هذه البلاد منذ أقدم العصور»8.
وكما سادت لهجة القرآن مع الإسلام كانت السريانية هي لهجة الإنجيل, لهجات للغة واحدة. فإذا أردنا مثلاً أن نقول بالعربية الفصحى (لسان سكان قلب جزيرة العرب وهو لسان النبي محمد) الجملُ يرعى العشبَ, بالسريانية تصبح جملو روعي عسبو. إذ أن هناك فرقين فقط بين العربية الفصحى وبين شقيقتها السريانية: الأول أن العربية الفصحى معربة أي تخضع لقواعد النحو والصرف فالفاعل يحرَّك بالضم والمفعول به منصوب وهكذا..., بينما السريانية لا تخضع للإعراب والنحو فدعيت بالعجمية أي غير معربة, ولهذا نقول عن أسماء عربية قديمة كابراهيم واسماعيل ودمشق بأنها ممنوعة من الصرف لأنها في الحقيقة لا تخضع للنحو وهذا لا يعني أنها ليست عربية كما صار متداولاً اليوم نتيجة جهلنا بلغتنا القديمة. والفرق الثاني هو أن الأبجدية السريانية تتألف من "أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت", والعربية الفصحى تضيف ستة أصوات إضافية للأبجدية السريانية هي "ثخذ وضظغ", لهذا سميت بالفصحى لأنها تفصح عن أصوات حلقية صعبة النطق.
2-إنكار الحضارة عن العرب وتكريس نظرة العربي "البدوي المتخلف القبيح الشكل والأخلاق!", وتسويق مقولة أن العنصر العربي "المتخلف" جاء مع المد الإسلامي بقوة السيف والتعطش لسفك الدم, مع أن التاريخ خلدّ امبراطور روما السوري فيليب العربي قبل الإسلام واسمه في كل المدونات التاريخية "فيليب ذا آراب", وامبراطور روما الليبي أيضاً سبتيموس سفيروس أصر على إطلاق لقبي "الفينيقي والعربي" عليه. ومع أن التاريخ يشهد على أن هؤلاء المسلمين الذين جاؤوا مع الإسلام إنما قاتلوا ليس حباً بالقتال وسفك الدم بل قاتلوا من أجل تصحيح مسار التوحيد الذي اتخذ على أيدي الاحتلال البيزنطي مساراً منحرفاً جعله يمسك برقبة المنطقة الحضارية التي هي سوريا التاريخية باسم الدين ويقتل أهلها النصارى بسبب اختلاف النظرة للمسيح تماماً كما فعل الصليبيون الفرنجة من بعدهم. فالقتال كان للتحرير وليس من أجل نشر الإسلام ضد المسيحية بقوة السيف كما صار متداولاً اليوم. وإن هذا العنصر (العربي المتخلف!) قد أخرج شعب أوروبا كله من عصور الظلام التي كان غارقاً فيها تحت سلطة الكنيسة المتخلفة التي تنكرت للمسيحية المشرقية واضطهدتها واحتكرت المسيح لنفسها. وجعل هؤلاء (العرب المتخلفون!) كل مدينة في اسبانيا وأوروبا فيما بعد كما قالت الباحثة الألمانية زيغرد هونكه في كتابها شمس العرب تسطع على الغرب «منارة حضارية وثقافية وعمرانية وعلمية خرّجت الكثير من علماء الغرب الذين تتلمذوا على يد العرب مسلمين ومسيحيين ويهود». ومن ثم نسب هذا الغرب العنصري كل الاكتشافات العلمية العربية إلى التلاميذ الأوروبيين ككوبرنيكوس وغاليلو ودافنشي ونيوتن وغيرهم... وكأن الآشوريين الذين عرفوا الأبراج وأطلقوا على الكواكب أسماءها, وعرفوا الكسوف والخسوف, وقسّموا السنة إلى 365 يوم بناءً على مدة دوران الأرض حول الشمس, واليوم إلى 24 ساعة مدة دوران الأرض حول نفسها منذ آلاف السنين, لم يكونوا يعرفون أن الأرض تدور حول الشمس قبل "كوبرنيكوس" الأوروبي المعجزة في العصور الوسطى!
3-اخترعوا مجموعات عرقية وزرعوها في جسد آسيا العربية القديمة (التي كان اسمها سوريا كما يقول هيرودوتس) كالشعب العبري والشعب الآري, بينما يقول بيير روسي في كتابه مدينة ايزيس: «إن التاريخ المصنوع للعبرانيين هو الصمت الكلي المطبق, فلا العمارة ولا الكتابات المنقوشة على الآثار ولا القوانين تكشف أثراً ولو قليلاً للعبرانيين»9.
والعبرانيون ليسوا إلا الآراميين الذين عبروا النهر فسموا بالعابرين!, لكن طبعاً مؤسسات التزييف الصهيوني جاهزة دوماً لتحويل أية مقولة تخدمها إلى حقيقة مطلقة مقدَّسة, فجعلوهم شعباً واخترعوا لهم لغة أسموها "عبرية" هي الآن خليط بين الآرامية وبين لغة ألمانية قديمة على يد اليهودي الألماني أليعازر بن يهوه عام 1910 بأمر من الحركة الصهيونية.
وإن مصطلح "آريين" ليس إلا بدعة غربية ليس لها وجود في التاريخ القديم, وفي هذا يقول بيير روسي: «إن جميع العقول قد انحنت أمام هذا الاختراع المتولد عن خيال اللغويين الألمان الذي هو العنصر الهندوأوروبي - الآري والعنصر السامي, لكن الحقيقة أن تعبيري "سامي" و"آري" ليسا شيئاً ولا يدلان على شيء, وإن تعبير "آري" ليس إلا اختراع بسيط»10. لكن ألمانيا هي بدورها تريد وجوداً تاريخياً لها في منطقة الثروات العربية فلم تجد وسيلة أخرى غير اختراع أصول مشتركة تجمع بين الألماني وبين ساكن هذه المنطقة (مع أن الألمان كانوا سكان كهوف يأكلون لحم البشر حتى القرن الرابع ميلادي كما يؤكد المؤرخون), فجاء اختراع هذا "العرق الآري المتميز" نسبةً لايران مع أن ايران ينتهي نسبه إلى سام بن نوح السرياني, إذن أي عرق آري متميز هذا الذي يجمع ايران بهؤلاء الألمان؟؟!, لكن كل شيء وارد عند هؤلاء الذين حولوا التاريخ إلى خيال فانتازي وكل ما يجب علينا فعله هو فتح الأفواه والعقول انبهاراً بنظرياتهم العجيبة والتسليم بها دون نقاش.
4-إلغاء اسم سوريا ومحو ذكرها من كل التاريخ القديم من أجل تفتيتها سياسياً وإطلاق أسماء جغرافية على دويلاتها, فنهر الأردن دولة, وجبل لبنان دولة, وفلسطين مشروع استيطاني ليهود العالم, والعراق دولة, وقسموا الجزيرة العربية كلها إلى دويلات, وحتى سوريا المتبقية من هذا الفتات مستهدفة في أمنها وثقافتها وفي تكريس التعدد العرقي والمذهبي لضرب وحدة شعبها التاريخية, وإطلاق تسميات جيو- سياسية كالشرق الأوسط, آسيا الوسطى, آسيا الأمامية, آسيا الصغرى, الشرق الأدنى.... الخ, وعهود الحضارة فيها تسمى كالتالي: عصر البرونز, النحاس, الحديد, الثورة الزراعية, ثم عصر هلنستي, روماني, بيزنطي, ثم إسلامي ومملوكي... أين السوريون؟؟! ألا يوجد عصر سوري أبداً؟؟ أم أن السوريين كانوا "حشرات" تقتات على حضارة الآخرين! أم ربما هبطوا من المريخ في فترة ما ووجدوا أنفسهم بالصدفة على الأرض السورية بين حضارات الآخرين؟!!, المهم عدم ذكر سوريا وطمس الحضارة السورية لصالح اختراعهم الفذ "الشعب العبري والشعب الآري" ولكل العناصر ال"أوروبية الحضارية عبر التاريخ"!!. هكذا يكتبون تاريخنا!, وادّعوا أن كل ما تذخر به سوريا من آثار قديمة إنما هي آثار يهودية لشعب عبري!, وأصبحت النجمة السداسية السورية الموجودة في الزخرفة القديمة منذ آلاف السنين رمزاً لوجود يهودي, وتناسوا أن الدين معتقد فكري يمكن أن يعتنقه الشخص أو لا لكنه لا يجعل منه شعباً ولا عرقاً, وأن اليهودية كدين ظهرت في الألف الأول قبل الميلاد بينما الحضارة السورية تعود للألوف العاشرة والسابعة والثالثة قبل الميلاد وهي من صنع الشعب السوري ولا أحد سواه, وإن الحضارة السورية التي اختلفت مراكزها بين دمشق وبابل وآشور وتدمر وأثينا وروما هي أول حضارة علمية عمرانية عرفها التاريخ وهي الحامل الأساسي الأول والأوحد للعنصر العربي الذي أوجد الحضارة العربية. هؤلاء السوريون المعمِّرون أُطلق عليهم عدة تسميات منها "عموريون", وهي كتركيب لغوي تعني المعماريين البنائين, وتذكر كتب التاريخ أنهم أول من بنى أثينا وروما وجاء ذكرهم في المدونات اللاتينية باسم "ميموريتي".
5-التعتيم على الأصول السورية لحضارتي أثينا وروما والأباطرة السوريين الذين حكموا العالم من خلال الامبراطورية الرومانية.
6-مصادرة الوثائق التاريخية وسرقة الآثار الأساسية من أجل تزييف الحقائق التاريخية وإعادة تصنيع التاريخ ليتناسب مع مخططاتهم وأهوائهم, ثم تصديره إلينا بحجة البحث والتحقيق, وصارت سوريا عبارة عن "ملتقى حضارات" بدلاً من "مهد الحضارة".
7-تعميم التوصيف الخاطيء والمزور لآثارنا السورية لتصبح رومانية - بيزنطية - هيلينستية - صليبية - عثمانية... وغيرها من المصطلحات التي تحمل كل شيء إلا الهوية السورية أو العربية فكلاهما مستهدف من قبل مؤسسات الصهيونية. (انظروا مقالتنا الأخيرة "الآثار في سوريا رومانية بيزنطية؟ أم عمورية عربية؟ إلى متى ننسب حضارة المعلمين إلى تلاميذهم").
8-التجسس على واقع العرب وحاضرهم السياسي بحجة البعثات الأثرية والتنقيب في المدن القديمة, «وإن تركيا وايران هما الدولتان الوحيدتان اللتان انتبهتا إلى هذا الأمر حتى سمحتا للبعثات الأثرية بالتنقيب في أراضيهما شرط عدم تهديدها لأمنها القومي, ففي نهاية القرن التاسع عشر برزت ألمانيا كدولة جديدة في ميدان علم الآثار وقامت فرنسا وبريطانيا اللتان احتلتا سوريا بعد الحرب العالمية الثانية بأبحاث أثرية بحّرية تامة, وحوّل الأركيولوجيون اليهود علم الآثار فيها وتحديداً في فلسطين إلى علم شوفيني ذي صبغة صهيونية»11.
9-التشكيك في العقل العربي والسخرية من إبداعاته على أساس مقولة الأصول غير العربية للعلماء العرب المسلمين الذين نفتخر بهم, وعلى هؤلاء رد الباحث شاكر مصطفى قائلاً: «يقول الكثيرون جهلاً أو عمداً أن علماء الإسلام ليسوا عرب, ونحن نعلم أن هذه النظرة تتغذى من الحقد على العرب لتمزيق التكوين الحضاري العربي في جذوره ورمي العرب بالعقم الفكري, لكن الحقيقة التي لا يريدون الاعتراف بها أنه في فترة المد الإسلامي تم الفتح غرباً وشرقاً على يد العرب الذين انتقلوا بعشرات الآلاف مع أسرهم باتجاه تلك البلاد واستلموا شؤون الدولة فيها, فأطلقوا عليهم تسمية البلاد التي سكنوها لكن بقيت أصولهم عربية, فأبو الفرج الأصفهاني على سبيل المثال هو حفيد مروان بن محمد, والشيرازي والرازي من سلالة أبي بكر»12, وابن سينا هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا عربي ولد لأسرة عربية في بخارى.
10-عولمة التزوير الذي صنعوه لتاريخ العرب ولتاريخ سوريا تحديداً لأن سوريا هي المستهدفة في منطقة الثروات والواقعة استراتيجياً على شاطيء المتوسط التجاري بين أوروبا وآسيا وأفريقيا.

والآن ننتقل إلى كلام أكثر ايلاماً, ماذا فعل العرب أنفسهم لتكريس هذا التزوير وتدمير أمنهم الثقافي والقومي؟
1-التتلمذ على أيدي مفكري الغرب العنصريين عديمي القيم والمعرفة والأخلاق في تاريخ العرب القديم, والتسابق لنيل الشهادات منهم وبالتالي الدفاع عن التزوير المنقول وتدريسه للأجيال العربية المتلاحقة وتثبيته في العقول.
2-إهمال التاريخ القديم لدرجة تثير الذهول وبخاصة تاريخ سوريا التي كانت هي قلب الكيان الحضاري العربي ومؤسسه ومبدعه وحامله الأوحد الذي نقله للغرب عبر البحر السوري (المتوسط) والبحر الأسود.
3-الاقتصار على تدريس تاريخ العرب السياسي حتى يصبح مادة منفّرة مثيرة للاستهجان والسخرية بدلاً من تدريس التاريخ الحضاري الذي يشمل الإنجازات العلمية والفنية والروحية والعمرانية لهذا الشعب في كافة المجالات بلا استثناء, وفي هذا يقول الباحث شاكر مصطفى: «لقد درسنا قصص الذبح والخصومات والحروب وهذا التاريخ السياسي الزائف, وما من أمة تحترم نفسها تعتبره مثلنا تأريخاً لها, فكل الأمم عندها منه ما يخجل وزيادة لكنها لا تكرسه, لكن التاريخ الحقيقي هو ما أعطته الأمة من نتاج حضاري جعل البشر أكثر سمواً»13.
4-تكريس وتعميم التوصيف الخاطيء الذي أطلقه الأوروبيون على آثارنا أيام الاحتلال الفرنسي والبريطاني (روماني - بيزنطي - هلنستي - صليبي..) وعدم وضع هذا التوصيف في دائرة النقد والتشكيك بل أخذه على أنه مسلمات مقدسة غير قابلة للطعن.
5-تثبيت القطرية والتسميات الإقليمية وكأنها كانت موجودة عبر التاريخ كدول وهوية منفصلة بدلاً من رفض هذه الإقليمية على الأقل ثقافياً.
6-عدم أخذ زمام المبادرة في تصحيح التاريخ في سوريا وإهمال ربطه بمفهوم الأمن القومي كما تفعل كل دول العالم. بل إن كل من يتصدى لهذا التزوير ويعيد الحضارة لأصولها السورية يوضع في دائرة الاتهام بالشوفينية والمبالغة بالانتماء, وكأن الذين زوروا تاريخنا لم يكونوا شوفينيين في تعصبهم الأعمى ضد الحقيقة.
7-فتح الباب على مصراعيه أمام البعثات الأثرية وعدم التحقق من النتائج التي تدّعي التوصل إليها.
8-عدم إدراك أهمية الأمن الثقافي بل تفريغ المجتمع من الثقافة الحقيقية لتصبح مضموناً فارغاً مقتصراً على الشعر والقصة والمسرح, فيصبح المجتمع لقمة سائغة أمام الفكر الظلامي والتطرف, فالمجتمع لا يقبل الفراغ إما ثقافة بنّاءة تطلق الطاقات والمواهب وتحميها وتوصلها إلى النور, وإما ثقافة هدّامة تكبت الطاقات وتقتل الإبداع باسم مصطلحات زائفة نسجها عقل مريض كالعيب والحرام والكفر وغيرها من المفاهيم المتخلفة التي تُروَّج باسم الدين والتقاليد.
9-عدم ايجاد نواة حقيقية تقوم بتحويل التصحيح إلى فكر مؤسساتي يُعمَّم على كل مؤسسات الدولة الثقافية والسياحية والإعلامية والتعليمية والخارجية.
10-عدم تسويق الحضارة السورية وعولمتها, بل على العكس الخجل منها والخجل من نطق اسم سوريا على هذه الحضارة والتبرع بها لغيرنا من الرومان واليونان بفضلٍ لم يصنعوه وليسوا أصحابه.

والآن, بعد كل هذا الحديث الزاخر برائحة المؤامرة من جهة والتقصير من جهة أخرى, ماذا يجب علينا أن نفعل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟
1-يجب تصحيح المناهج في كليات التاريخ السورية لتدريس تاريخ سوريا الحقيقي بعد تصحيحه وتدريس كل التاريخ العربي, لأن سوريا ما زالت رغم كل المؤامرات أمل هذه الأمة, ومن يريد التخصص في تاريخ سوريا والعرب من كل دول العالم عليه أن يأتي ويدرس الحقيقة على أيدي العرب, فنحن لا يمكن أن نمنح شهادات بتاريخ أميركا للأميركيين ولا بتاريخ فرنسا للفرنسيين, لكن من يريد تاريخ فرنسا يذهب لفرنسا ومن يريد تاريخ سوريا فليأتِ إلى سوريا ليتعلمه والمعاملة بالمثل. إن العرب مع الأسف هم الوحيدون من بين الشعوب الذين يستوردون تاريخهم كما يستوردون السيارة والثياب وعلبة الكبريت.
2-يجب تدريس المثقفين في سوريا (المعلمين وأساتذة الجامعات والإعلاميين والأدلاء السياحيين والدبلوماسيين....) تاريخ سوريا الحقيقي الذي أعاد إليه الروح قلة من الباحثين منهم أحمد داوود الذي لاقت مؤلفاته رواجاً واسعاً دون ردة فعل مؤسساتية بقرار مسؤول عالي المستوى يأخذ على عاتقه هذه المهمة القومية والوطنية لتعميم هذا التصحيح أو حتى مناقشته لمعرفة الحقيقة.
3-يجب إطلاق الندوات على مستوى محلي وعربي وعالمي لايجاد كوادر مثقفة تتلقى هذا التصحيح وتتبناه ليصبح هذا الكادر بمثابة جيش ثقافي وإعلامي متسلح بالعلم والمعرفة ليدخل دائرة الصراع مع الصهيونية ايديولوجياً ويكون رديفاً للصراع السياسي- العسكري كما فعلت الصهيونية تماماً. فالمعركة منذ تزوير تاريخ سوريا أضحت معركة ثقافية بالدرجة الأولى.
4-تعميم التاريخ الحقيقي الصحيح على كل مؤسسات الدولة وتسويقه للخارج وحمايته واعتباره رمزاً أساسياً ومقدّساً للأمن القومي.
ومن أجل فك الالتباس بين مسألتي العروبة والحضارة السورية نقول:
إذا كانت العروبة هي المهد الكبير الموغل في القدم فإن سوريا هي المكان الذي انطلقت منه أول حضارة وأول إنجازات حضارية, وهي منطلق الانتشار الحضاري بكل أشكاله من علوم وفنون وقوانين ودساتير وشرائع وآداب.... من شرق المتوسط إلى غربه الأوروبي ومن ثم العالم, حتى كان الأجداد السوريون يسمون بالسادة المعلمين. لهذا فإن إطلاق تسمية الحضارة السورية على إنجازات الأجداد في تدمر وبصرى وأوغاريت وماري وايبلا وآشور وبابل وروما وأثينا وجرش وبعلبك وكل المدن القديمة على امتداد سوريا القديمة ليس مراهقة وطنية أو فكرية بل هي الحقيقة التي قالها الكثير من المنصفين في الغرب, «إن على كل إنسان متمدن في العالم أن يقول بأن لي وطنين, وطني الذي أعيش فيه, وسوريا».(أندريه بارو - مدير متحف اللوفر السابق في باريس ورئيس بعثة التنقيب في مدينة ماري السورية).
إن الكثير منا يقع في الحيرة هل هذه الحضارة عربية أم سورية؟, ونجيب بأن العرب هم المجموعات الأولى من السكان لكن السوريين هم من انتشر منهم منذ آلاف السنين في منطقة آسيا العربية وسواحل المتوسط وبنوا دولة سرجون وحمورابي العظيمة, وأطلقوا اسم سوريا عليها, هذه التسمية التي استخدمها هيرودوتس للدلالة على سكان جزيرة العرب الممتدة حتى البحر الأسود شمالاً. إذن هم سوريون والسريانية نسبةً إليهم انتشرت معهم, والفينيقيون جزء منهم, وهم الذين أطلق عليهم ول ديورانت وبيير روسي وأندريه بارو وزنوبيا وغيرهم الكثير اسم السوريين تحديداً. والعموريون هم السوريون البنّاؤون الذين أخذوا مهمة العمران على عاتقهم, إذ كانوا أينما حلوا يبنون مدناً في سوريا القديمة وسواحل المتوسط حتى أثينا وروما وهذا دليل على خلو المنطقة من الحضارة والعمران قبل حلولهم فيها. إن مسألة العروبة هي كمنبع نهر عظيم يسير في فروع تتفرع عنه, النهر العظيم اسمه سوريا, ومن النهر السوري يأتي الفرع الفينيقي الأصغر منه. المنبع واحد لكن الأنهار تخرج في مسارات مختلفة وكان للمسار السوري النصيب الأكبر والأعظم في الحضارة والعمران. يبقى المنبع اسمه العربي لكن النهر العظيم هو سوريا تماماً كما ينبع نهر النيل من هضبة فيكتوريا وكما ينبع نهر الفرات من هضبة أرمينيا. فلا يجوز نهائياً تغييب اسم سوريا بحجة الانصهار في العروبة, بل سوريا كانت عبر التاريخ واجهة العروبة ودفة سفينة الحضارة وعلماؤها كانوا قبطانات سفينة الحضارة ومناراتها وكانت هي المدافع الرئيسي والمصد الأساسي لها والبساط الحضاري الخصب لنشر الرسالات العربية إلى أصقاع العالم كله والمسيطر على التجارة العالمية والمحرّك الأبرز للإنجازات الحضارية والمعمّرة الأولى لمدن بلاد بحر عمورو (البحر السوري - المتوسط) والقارة الأوروبية.
إن مفهوم الأمن الثقافي إذن ليس اختراعاً ولا اجتهاداً بل ضرورة ملحّة موجودة لدى كل دول العالم.
وأول حاكم عربي تنبه لأهمية الأمن الثقافي هو الخليفة المأمون, إذ كان يعلم أن ما دعي بالرومان والإغريق هم عرب وسوريون نزحوا إلى البر الأوروبي لسبب أو لآخر وصنعوا حضارة أثينا وروما الفكرية والعمرانية والقانونية والسياسية, لهذا أمر المأمون بنقل العلوم الإغريقية والرومانية إلى العربية الفصحى على يد السريان تحديداً ومنهم ابن قرة وابن بختيشوع لأنهم الوحيدون الذين عرفوا اليونانية واللاتينية القديمة التي لم تكن سوى السريانية كتبت بالخط الفينيقي الذي سمي باللاتيني, وعندما أتموا هذه الترجمة هتف المأمون وهو يتسلمّ الكتب: "هذه بضاعتنا ردت إلينا", كان يعلم أنها بضاعة عربية قديمة وإلا لما كان لمقولته هذه أي معنى.
هل نستعيد ثقافتنا المستلبة ونحميها كما فعل المأمون في لحظة تاريخية؟
متى سنعيد لسوريا حقيقتها بوصفها ممدّنة البشرية الأولى والحضارة العظيمة ونلغي التزوير والتشويه الذي لحق بها؟
هل هذا مستحيل؟... أم أنه مسألة وقت؟... ومن يطلق شرارة البداية؟..

هامش
- انظر طارق ناصر الدين - الأمن الثقافي.
2- انظر د.حسن بشير محمد نور - الأمن الثقافي المفقود - موقع سودانايل.
3- انظر أحمد داوود في مقدمة كتابه العرب والساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل واليهود - الصفحة 7.
4-انظر برنارد سيميوث - مرجع الأوراق السرية لملكة تدمر زنوبيا - ترجمة هيثم سرية - الصفحة 2.
5-انظر طارق ناصر الدين - نفس المصدر.
6-انظر طارق ناصر الدين - نفس المصدر.
7- انظر بيير روسي مدينة ايزيس التاريخ الحقيقي للعرب - ترجمة فريد جحا - الصفحة 69.
8 - انظر عيد مرعي - تاريخ بلاد الرافدين - الصفحة 52.
9- انظر بيير روسي - نفس المصدر - الصفحة 25
10 - انظر بيير روسي - نفس المصدر - الصفحة 18.
11 -انظر يورهارد برينتيس - كتاب نشوء الحضارات القديمة - ترجمة جبرائيل يوسف كباس - الصفحة 10.
12 - انظر شاكر مصطفى - تاريخ العرب - الصفحة 54.
13 -انظر شاكر مصطفى - نفس المصدر - الصفحة 5.