بنطلون أسود، قميص أزرق، شعر يصل إلى الكتفين، ولهجة فلسطينية. كلّ شيء في
تيريزا هلسة يوحي أنها امرأة عادية. لكنها ليست كذلك. هذه المرأة الخمسينية،
خطفت عام 1972، مع ثلاثة من رفاقها في «منظمة أيلول الأسود»، إحدى طائرات
شركة «سابينا» البلجيكية، وأجبروها على الهبوط في مطار اللدّ في فلسطين
المحتلّة.
من فلسطين، إذاً، البداية. عكا تحديداً. تلك المدينة التي كوّنت وعي هلسة
ورافقتها منذ طفولتها. هناك عاشت، سنين جميلة، وسعيدة. كانت إسرائيل أمراً
واقعاً، وكانت عكا جزءاً من الدولة الصهيونية... ومع ذلك كانت طفولتها سعيدة.
لم تكن تيريزا الصغيرة ضالعةً في السياسة. الصورة كانت مختصرة بالنسبة إليها:
إسرائيل احتلّت فلسطين وهجّرت شعبها. ببساطة الأطفال هذه، دخلت إلى «الحزب
الشيوعي»، للمشاركة في النزهات والمخيّمات. إلى أن سمعت الشاعر توفيق زيّاد
يلقي قصيدته الشهيرة «أناديكم»، وفهمت معنى أن يكون الإنسان فلسطينياً ــــ
مع العلم بأنها ولدت لأب أردني وأم فلسطينية. تردّد اليوم بيتها المفضّل في
القصيدة بتأثّر كبير «أنا ما هنت في وطني». تعيدها أكثر من مرّة، «توفيق
زيّاد كان مناضلاً وقومياً أكثر من كلّ من انتقده».
تلك كانت أيام الطفولة التي انتهت سريعاً، وانتهت معها الأيام الجميلة. نحن
في عام 1970، إسرائيل تُلقي القبض في عرض البحر على ما عُرف لاحقاً بـ«مجموعة
عكا»، وتقتل أحد أعضائها قاسم أبو خضرا. عند تشييعه، منعت قوات الاحتلال
معارفه من فتح تابوته منعاً لاكتشاف عمليات التعذيب التي تعرّض لها الشهيد.
استشهاد أبو خضرا كان كفيلاً بتحويل حياة تيريزا المراهقة، إذ مثّلت هذه
الحادثة نقطة محورية في حياتها. في تلك الفترة، أي مطلع السبعينيات، نشطت
العمليات الفدائية النوعية داخل فلسطين وخارجها، ولم تعد الأرض المحتلة تسع
طموح الفتاة التي كبرت فجأة. 23 تشرين الثاني (نوفمبر) 1971. لا تزال تذكر
التاريخ جيداً. يومها اتخذت قرارها: هي أنثى، وللنساء حقّ المقاومة في الصفوف
الأمامية رغماً عن أنف الجميع. حملت ما تيسّر من أغراضها الشخصية. تركت منزل
ذويها مع إحدى رفيقاتها في النضال. أما الهدف، فلبنان، رأس حربة المواجهة مع
الاحتلال. كان هذا تمرّدها الأوّل والأخطر ربما.
عند الحدود الفلسطينية ــــ اللبنانية، تاهت الفتاتان لثلاثة أيام إلى أن
وصلتا إلى إحدى القرى الحدودية، فدخلتا نزلاً لتناما فيه. أثناء استراحتهما،
أتى ولد صغير وأخبرهما أن صاحب النزل سيتّصل بالدرك اللبناني لإلقاء القبض
عليهما، وطلب منهما الهرب. ومن قرية إلى أخرى، لم يكن مرحّباً بهما. جلستا
على الرصيف منهكتَين وجائعتَين. تبتسم تيريزا كثيراً عندما تصل إلى هذه
المرحلة من حياتها. ترفض ذكر أسماء القرى التي لم تستقبلهما، لكنّه القدر
ربّما «شاء أن نلتقي ونحن على الرصيف بمجموعة من مقاتلي حركة «فتح»».
رفع مقاتلو «فتح» الأسلحة على الفلسطينيَتين. وأخذوهما إلى التحقيق. «بعد
أيام، اقتنعوا بأننا مناضلتان، ومع ذلك أرادوا إلحاقنا بنضال الصفّ الثاني».
والصف الثاني هو المركز نفسه الذي هربت منه تيريزا، فإما أن تكون في ساحة
المعركة، أو لا تكون.
هكذا كان، بعد أشهر من التدريب، وصلها الخبر السعيد: ستشاركين في عملية خطف
طائرة «سابينا». حفظت ورفاقها الثلاثة الخطة جيّداً: يغادرون مطار بيروت إلى
روما بجوازات سفر مزوّرة، ومنها إلى ألمانيا ثمّ بلجيكا. تتوقّف تيريزا عن
سرد قصّتها لتوضح أمراً التبس على كثيرين أثناء استعادة عملية الخطف هذه: «لم
يكن هدفنا إطلاق سراح أسرى كما قيل، ولم نكن نرغب بقتل اليهود الذين كانوا
على متن الطائرة، بل كنّا نريد تسليط الضوء على «منظّمة التحرير الفلسطينية»
والظلم الذي نتعرّض له».
تيريزا هلسة وعلي طه (كان يومذاك أباً لخمس فتيات صغيرات) وزكريا الأطرش
وريما عيسى. كان ذلك في أيّار/ مايو 1972. وصل الفدائيون الأربعة الذين
ألّفوا «مجموعة وليم نصار» إلى بلجيكيا، وخبّأوا الأسلحة في أجسادهم وداخل
علب البودرة. واستقلّوا الرحلة رقم 572 من بروكسل إلى تل أبيب، على متن خطوط
الشركة الوطنيّة البلجيكيّة «سابينا». تواصلت الرحلة بسلام، إلى أن قرّر قائد
العملية، علي طه، أنّ وقت التحرّك قد حان. تقدّم إلى غرفة القيادة، وأبلغ
القبطان أن الطائرة مخطوفة. أجبروها على الاتجاه إلى مطار اللد، وهناك هبطت
خلافاً للخطة الموضوعة، وكانت تفترض أن تبقى في الجو. فتحوا الأبواب وأعلنوا
مطالبهم. لكن ما حصل لم يكن في الحسبان. تواطأ الصليب الأحمر مع قوات
الاحتلال، وأخفى الجنود في سياراته. وما هي إلا دقائق حتى اقتحم الإسرائيليون
الطائرة وقتلوا طه والأطرش، وأصابوا تيريزا بكتفها. وعندما حاولت الزحف
للوصول إلى المتفجرات، أطلقوا عليها رصاصة ثانية. لكن عملية الانتقام لم تقف
عند هذا الحدّ، بل طعن جندي إسرائيلي تيريزا في كتفها وهي على حمالة الصليب
الأحمر.
انتهت العملية، وبقيت تيريزا 12 سنة في «معتقل الرملة للنساء»، ولم تخرج إلّا
آواخر عام 1983 بعد عملية تبادل أسرى. من فلسطين إلى مصر فالجزائر فتونس، إلى
منفاها الأخير... في الأردن. هناك، عاشت المرحلة اللاحقة من حياتها، تزوّجت
وأنجبت ثلاثة أولاد، واستوعبت صدمات ما سمّي مرحلة السلام التي تلت اتفاق
أوسلو. «مع أوسلو، شعرت كأن نضالنا لم يكن سوى قليل من الملح ذوّبوه في كوب
من الماء». اليوم، تنظر إلى الوضع الفلسطيني بحسرة. أما الحلّ للتقاتل
الداخلي فبسيط بالنسبة إليها «لنحفر حفرة في الأرض ولنرمِ فيها كل قياداتنا،
وننتج قيادات شابة جديدة».