آخر الأخبار

التراث الشفاهي فـي العراق ملامح عامة

العراق الذي نتداول اليوم البحث فيه، وطن لخمس حضارات منحت البشرية علماً وحكمة وقيما روحية وثقافية ما زالت تتفاعل مع العناصر المؤسسة والمطورة للحضارة الانسانية.

والعراق هذا، ما زال يحتضن الى اليوم خمسة أديان تتعايش في ربوعه منذ نشأة الاديان الى يومنا هذا، وفيه مواطن مقدسة ومزارات ومراقد للأنبياء والأولياء لمختلف الأديان والطوائف، ولكل من هذه الطوائف شعائر دينية وطقوس عبادة، ومواسم واحتفالات ومواضعات اجتماعية وتراث شفاهي.

خمس حضارات ، وخمسة أديان، في خمسة آلاف سنة، محيط لا حدود له من التجارب الانسانية المتنوعة من تاريخ وأشعار وأساطير وحكايات وطقوس وفنون وآداب وعلوم طبيعية وعلوم غيبية، فمن أين نبدأ وكلها بحاجة الى البحث والمراجعة والتقييم والتوثيق؟ وكلها ذات ابعاد وامتدادات في المعتقد الروحي والمحيط المعرفي والمزاج النفسي والنسيج الاجتماعي؟

وفي حدود ما يتعلق بالتراث الشفاهي، فلا أنا، الضيف المدعو لملء هذا الفراغ، ولا سواي ممن هم اهل الاختصاص، قادر على ان يلم كل هذا الشعاع المعرفي ويقدمه لكم بصفحتين او ثلاث، فالموضوع والحاجة اليه تدعوان الى البحث المنهجي المفصل واستخلاص المعالم في كل معطى من هذه المعطيات، وصولا الى ما يؤسس للتراث الشفاهي في أرض العراق أبعاداً تأصله، وتجعل منه مادة علمية تضيف الى المعارف الانسانية ما يعززها ويطورها.

وإذا كان الثلث الأخير من القرن العشرين شهد اهتماما وانجازا مهما في مجالات التراث الشعبي عموما في العراق، من خلال ما كان يقوم به المركز الفولكلوري، فان الحاجة الى التحليل العلمي لما جمع وحفظ من مواد تراثية، وخصوصاً ما كان متعلقاً بالتراث الشفاهي، ما زال دون مستوى الأهمية، واقل مما تدعو إليه الحاجة. ذلك أن مجموع المواد التراثية، مهما اتسع وكبر، يمكن ان يظل محدود الفائدة ما لم يحلل ويفهرس ويبرمج وفق السبل المتاحة في ايامنا. وهو أمر آمل ان نخرج بنتيجة عنه في هذا الملتقى.

وما دمنا في اطار التراث الشفاهي، فأنا احب ان استعرض أمامكم نموذجا من هذا التراث يتعلق بأطوار من الغناء الشائع التداول شفاهياً في العراق منذ آماد زمنية مختلفة، وهو مما ينتقل من جيل الى جيل محتفظاً حبخصائصه الفنية ومجالات استعماله. من ذلك:

1 - الموال:

هو صيغة شعرية تقوم في الغالب على سبعة أسطر؛ الثلاثة الأولى منها تختم بقافية متشابهة لفظاً ومختلفة معنى، تليها ثلاثة أسطر بقافية أخرى، مختومة بسطر سابع على قافية السطر الأول؛ ومثاله:

لآني الليل عضه الوكت لكن بقى جاه إله (أنا الذي عضه الزمن وبقي له جاه)

ما شفت أهل الشيم إلا سمعت جاهلا (أتى فأهلاً به)

بس إنتي تبقين ما بين الخلق جاهلة (تبقين من بني الخلق جاهلة بي)

كلما أشرج أشوفج رايحة بالغرب (كلما شرقت تغربين انت)

لا للمحبة بقت حوبة ولا للغرب (لم تبق حرمة للمحبة والاغتراب)

ضاع العمر والتي بيه تزهين مثل الغرب (الغرب شجر لا ثمر فيه)

بس ورق ما بي ثمر منه يترجا هله (ورق لا تمر يُرجى منه لأهله)

هذا هو الاساس للموال العراق، ولكن هناك مواويل تتخطى هذا المقياس فتمتد الى سبعة وعشرين سطراً بدل السبعة القياسية.

هذا من ناحية الشكل، أما من ناحية المصطلح فهناك من يسمي هذا النوع من الشعر بـ(الزهيري)، والراجح أن (الزهيري) هو أسلوب أداء للموال كان يتقنه الملا جادر الزهيري، من أهالي زهيرات في محافظة ديالي؛ والاختلاف في التسمية لا يشير الى أي اختلاف لا في البناء ولا في طرق الأداء.

على أن هناك محاولات حديثة في التعامل مع هذا الفن، لم يذكرها باحثو تاريخ الموال العراقي، وأنا أذكرها هنا زاعماً أنني أشير اليها للمرة الاولى، وهي تلك المحاولات الجدير بالنظر التي يمارسها الشاعران سعدي يوسف وعبدالكريم كاصد في استعمال اللغة العربية الفصحى المبسطة التي تقوم على نفس البناء الهيكلي للموال؛ وهي تجارب منشورة للشاعرين تتوخى توطئة الفصحى للتعامل مع هذا النمط الشعبي، ولم يتناولها أي باحث في تاريخ المقام العراقي.

2 - العتابة

بناء يقوم على اربعة أسطر، ثلاثة منها بقافية واحدة وبمعنى مختلف، تختم بسطر رابع بقافية مختلفة، هي إما الف مقصورة أو ممدودة، وإما باء أو تاء أو قاف، أو حرف آخر، وأغراض العتابة مختلفة، يغلب عليها السمر واستعراض مآثر العشيرة والافراد المرموقين، وقد تستخدم في استدرار عواطف الناس والتماس معونتهم في الاعياد والمناسبات حيث يأخذ المنشد بتعداد مآثر الممدوح مستعيناً بربابته على ذلك. ولكن أغراضها تتعدى ذلك ايضا الى قصص وحكايات واسعة التداول قليلة الحظ من الواقع. ومثالها:

قلوب الناس طين وقلبه مرمر (المرمر الرخام)

ولفراقه الشهد بلهاي مرمر (العسل صار مرا بلهاتي)

يطيف احبابنا بهداي مر مر (مر بنا مروراً يا طيف الأحباب)

واختل بين ثنيات الأهداب (إختل ?543; اختبئ)

و :

حنيني ما برد لحظه ولا جن (لم يبرد حنيني ولم يستكن)

ودواليب الدهر بحشاي لاجن (من لاك الشيء يلوكه)

أنا العايش بجوكتكم ولاجن (أنا من جوقتكم، ولكن)

بعيد وما تقربني الأشواقْ

ويتفق باحثو هذا النوع من الشعر على أن العتابة من مبتكرات عشيرة الجبور في العراق.

3 - البوذية

لا احد من الباحثين جاء بتفسير مقنع لمعنى (البوذية أو الأبوذية) فكل ما قيل بشأنها لا يعدو أن يكون ضرباً من الافتراضات والاجتهادات التي لا يسندها دليل مقنع.

وهذا الضرب من الشعر الشعبي يشبه في بنائه العتابة التي سبق ذكرها، ولا يختلف عنها إلا في بناء السطر الرابع الذي يسمى (قفلاً)، حيث يقفل بالياء والهاء فقط؛ كما تختلف في الأغراض التي تستدعي القول: حيث نرى الدافع الذاتي يأخذ منحى واضحاً في نماذجها، كما أن إحساساً من الثقة والصدق يمتلك قائلها، ومثالها:

يهلْ تسألْ عليَّ شلون حالي (كيف حالي؟)

أخبرك صار حال الضيم حالي

أريد يظلْ زماني وياك حالي (من الحلاوة)

ترى مرْمرْ بحلكي اليوم ميه (صار ماؤه مراً في حلقي- في فمي)

وأداء هذا النوع شائع في مناطق الفرات الأوسط وجنوب العراق على الأغلب. ولهذا النوع كما للعتابة، مغنون معروفون في المجالين.

4 - النايل

وهو ضرب يقوم على بيتين بقافية واحة، ويغلب عليه طابع اللوعة والحنان، ومثاله:

يا خوي بيك الرجا ولأجلك تعنينا (تعنَينا إليك، وبك الرجاء)

ودموع عيني همتْ لمن تلاكينا (همت الدموع عند اللقاء)

والنموذج منه:

نايل جتلني ونايل غير ألواني (نايل قتلني وغير ألواني)

ونايل بشوقه سجين الروح خلاني (جعلني سقيم الروح)

على أن هناك نماذج كثيرة مما يخرج على النطاق الذي ذكرناه.

5 - الدارمي

وهو يقوم على بيتين بشطرين ذوي قافية واحدة، كما قال أحد الظرفاء:

قولوا لأهل كركوك والناصريّة

قلبي نسيته هناك بالأعظمية

6 - السويحلي

وهو على سياق الدرامي تماماً، إلا أنه يقلب الصدر من الدارمي عجزاً والعجز صدراً؛ هكذا:

والناصريّة قولوا لأهل كركوك

بالأعظمية قلبي نسيته هناك

ونأمل ألا يغيب عن السامع والقارئ إتياننا بهذا القول الطريف تطرية للجو، والتماساً للدعابة والاحماض.

7 - المربّع

ويقوم على اربعة أشطر، ثلاثة منها بقافية متشابهة، ورابعها بقافية أخرى تسمى (قفلاً) وليس هناك حدود لقافية هذا القفل. وهو يؤدي بالصوت وحده بمرافقة التصفيق بالأيدي والترديد للمطلع، ويمكن أن يتناول مختلف الأوزان الشعرية. وهو شائع في المناسبات الشعبية حيث يتصدى قائد الجوقة المعروف بالحيوية البالغة الى التغنيّ بالأبيات الأربعة التي يتلقفها المحتفلون فيختموها بالمطلع، ومثاله:

صفّ القطا لمن مشنْ (مشين مثل صف القطا)

راحن لعد بنت الحسنْ (ذهبن الى مزار بنت الحسن)

بالإيد محلا يصفقن (ما أحلى تصفيقهن بالأيدي)

واشحلو يذبّن بستات (ما أحلى ما يلقين من أغان)

ويحضر بين هذه الممارسات الفنية عدد غير قليل من الفنون المعروفة؛ كالبستة والميمر والميجنة والكصيد والموليّه وغيرها مما يتعذر رصده في هذه العجالة، على أنني أحب أن أتوقف قليلاً عند نوع مهم من هذه الفنون التي شهدتها شخصياً في مدينة البصرة، وهي:

7 - الهيوة

وهي ضرب لم أقف على من تناوله بالتفصيل الذي يستحق، ولكن علاقتي الشخصية بعدد من فنانيه المرموقين، كالفنان طالب غالي والفنان حميد البصري اللذين انتجا في هذا النوع ما نقله من الطقوس الغنائية الشعبية المحدودة الى التعامل الشعبي الحي المتداول، عرفتني على ان فن (الهيوه) هو من جملة فنون ايقاعية تتضمن السامري والقادري والطمبورة والزيران، وهي بمجملها فنون موسيقية بصرية (نسبة الى مدينة البصرة في جنوب العراق)، كانت تؤدى في مناطق الساعي والمجيبرة والمطيحة وغيرها من المناطق الجنوبية لمحافظة البصرة، وكان من أعيانها يومذاك الفنانة (عودة المهنا) و(زكية الدكاكة) اللتان انتقلتا الى الكويت، وغيرهما. ومن هذه المجموعة انتقلت هذه الطقوس الغنائية من البصرة الى الخليج، وليس العكس.

والهيوة من الطقوس الغنائية الراقصة التي كانت تقام للافراح بمرافقة الطبول والتصفيق الايقاعي المتقن؛ وكذلك السامري ذو الايقاعات والدفوف؛ في حين كانت الطمبورة ذات الايقاعات الخفيفة مرصودة لطقوس الوفاة، والقادري ذو الدفوف ايضا للمناسبات الاجتماعية، أما الزيران فكان معقوداً لمعالجة من يتعرض لحالات نفسية وعقلية.

وآمل أن تكون لي عودة الى هذا التراث الشفاهي العراقي المرموق للتحدث عنه بشكل تفصيلي لم تنهض به هذه الملاحظات الخاطفة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

٭ عضو الهيئة العالمية لصيانة التراث الثقافي العراقي (اليونسكو)، وهذه المادة قدمت كورقة للمؤتمر الذي عقد في اليونسكو، والنماذج المذكورة هي من شعر الكاتب، والموال من شعر اخته، والمربع من شعر أخيه.
(نزوى)