آخر الأخبار

الدولة وتعزيز العيش المشترك

الدولة تعريفا
بداية اقترح أن أقوم بتحديد لمفهوم الدولة الذي اعتمدت عليه، فالدولة - أعني بها - أرض محددة جغرافيا وشعب أو شعوب تتفق بينها على هذه الحدود وعلى ضرورة العيش متجاورة مع بعضها البعض، آخذا بعين الاعتبار أن الدول تبنى على إرادة المواطنين للعيش معا في وطن سيد حر مستقل، ولم أتدخل هنا لا في معنى الأمة ولا في معنى القومية أو غيرها
الشعوب في الدولة
قد تكون الدولة تضم شعبا واحدا أو شعوبا متعددة، والعصر الحديث جعل من الصعوبة والاستحالة أن تكون هناك دولة يقطن فيها شعب واحد، ذو عرق واحد وله اتجاه سياسي واحد، وانتماء ديني واحد.
وبما أننا نرغب الحديث عن الدول التي ننتمي إليها كمجموعات دينية دون الدخول في تفصيل المجموعات العرقية، يجب علي بتقديري ضرورة الاعتراف بصعوبة التفريق بين المجموعات العرقية والدينية في الشرق على الأقل.
إن الإطار العام الذي اعتمدته هو عالم سقطت فيه الحدود الفاصلة التي كانت تؤمن نوعا من التجانس في جماعات بشرية واسعة. ونحن نشهد حاليا حركة واسعة تكبر يوميا أكثر فأكثر، تجعل الشعوب واللغات والأديان تتداخل . ويؤدي ذلك أن تُطرح عندها مشكلة تعايش تلك الفئات المختلفة ضمن الوحدة الوطنية .
تتكون المجموعات الدينية الرئيسة في المنطقة من أتباع الديانتين الأكثرية الإسلامية، والأقلية المسيحية ، وهذا لا يعني مطلقا عدم وجود ديانات أخرى منها على سبيل التعداد لا الحصر الزرادشتية والازدية والصابئة والموحدين وغيرهم.
مشاكل أتباع ديانات الأقليات
لكي تناقش الدولة كيفية تعزيز العيش المشترك، يجب أن تعرف هذه الدولة ما هي الطروحات التي تطرحها الأقليات والأكثرية.
تندرج مشاكل أتباع ديانات الأقلية (لم استخدم صيغة جماعات الأقلية) من الناحية السياسية (التي نستطيع ترجمتها إلى الأصوات الانتخابية) في التعداد القليل نسبيا لأتباع هذه الديانات، لأسباب متعددة لن أناقشها كي لا أشكل خروجا على البحث، ونتيجة لعدم الوعي العام لاختيار الأكفأ في أية أماكن، لأجل ذلك يتم التعامل - انتخابيا أو تعيينا - مع ذلك الذي ينتمي للمجموع دينيا واقل منه عشائريا وجغرافيا وغيرها، أضيف للناحية السياسية، ناحية اجتماعية متمثلة بعامل الخوف من الآخر، مع ما يشكله من إسقاطات، مهما كانت صفة هذا الآخر.
أما طروحات الأكثرية حول الأقليات فهي تكمن في عدم الثقة من ولاء - وليس الخوف - هذه الأقليات وربطها بمصادر جغرافية وعرقية متعددة .
المسؤولية الملقاة على عاتق الدولة
بما أن الحوار بين الأديان لم يعد شأنا لاهوتيا صرفا أو سجالا فكريا أو ترفا نظريا، وإنما تحول إلى حاجة وضرورة في عالم اليوم ترقى إلى مستوى رفيع إن أريد له النجاح في بلورة مشروع تاريخي إنساني مشترك، ولما كان الجمع بين الدين والدولة أمر يعود إلى العصور القديمة والعصور الوسطى، التي كانت فيها الدولة بحاجة إلى الدين لدعمها والمحافظة على وحدة أبنائها، وبما إن الدول اليوم، تحتضن مجموعات متنوعة متشابكة من الأعراق والأديان، فيجب عليها أن تحاول تقريبهم من بعضهم البعض - في حال جهلهم - للحفاظ أيضا على مبرر وجودها، ونتيجة للهجرة المتزايدة من بلد إلى آخر تتشكل أعراق جديدة متنوعة متداخلة - وتزداد تداخلا مع الوقت - وُجب على الدولة أن تضع منهجا عاما مزدوجا للتعريف بهذه الأعراق وما تمثله من حضارة من جهة وتعريف هذه المجموعات بالمجتمع الجديد وما يمثله من مجموعات متنوعة.
لا شك أن الدولة - برأي - غير معنية بفرض رأيٍ لعقيدة ما مقابل عقيدة أو عقائد أخرى، أي أنها لا يجب أن تتدخل - إلا في الحدود الدنيا - في التركيز على التقريب في العقائد الدينية، وهي في المقابل يجب عليها أن تكون سباقة لحمل راية خلق الثقة بين أطراف المجتمع والتركيز على المعاملات الإنسانية
من هنا كان لا بد لي أن أضع تصورا - برأي - عن كيفية دعم الدولة لتعزيز العيش المشترك إن بين أبناء الوطن الواحد أو بين أبناء العالم اجمع .
1 - في المنهج السياسي :
* التفكير بإقامة نظام سياسي يكفل الحقوق السياسية المشروعة بشكل متساوٍ لكل المجموعات - مهما كان عددها - ولا يجب أن يكون مرتبطاً بعددية مطلقة، وبحيث أن هذا النظام يمنع هيمنة دين أو طائفة محددة على بقية المجموعات لأسباب دينية. وتحضرني فكرة ادونيس القائلة "الدولة التي تقوم على أساس ديني هي، بالضرورة، دولة غير عادلة، لأنها لا تقدر أن تنظر إلى مواطنيها المختلفي الأديان، أو المتفاوتين في إيمانهم، نظرة واحدة، ولا بد من أن تفضل بعضهم على بعض"
* تغذية المواطنة بالنسبة لكل الفئات الدينية المنضوية ضمن المجموعات المتعددة، وتوضيح الفارق بين القومية والدين، علما أن هناك بعض الإشكالات الناتجة من عدم الإحساس الصحيح بالمواطنة والانتماء القومي، فبالنسبة للدينين المسيحي والإسلامي، يربط المسلمون مواطنيهم المسيحيين بالغرب نتيجة شعور خاطىء ترسخ لدى المسلمين، إضافة أن المواطنين المسيحيين يرون في مواطنيهم المسلمين أنهم تخلوا عن تضامنهم معهم على حساب تضامن كل مسلمي العالم أولا، ومع اعتبار أن المواطنة هي الحالة التي تمكن من جعل الثقة عنصرا طبيعيا في معركة الحياة، فيجب على الدولة رعاية حالة المواطنة المبنية على روح الثقة المتبادلة، لأن النضال من اجل الثقة لا يكمن في حشر الأشخاص بالكلام الأجوف عن الثقة في ظل حالة خوف من الآخر تنعكس بشكل عدم ثقة.
* ضرورة اقتناع الدولة بان بنية الطوائف الدينية، مهما تنوعت هذه الأديان، عندما تخضع لتحديد دستوري، وخصوصا بإشراف دولة مجهزة تجهيزا قويا بوسائل تجعلها تفرض احترام القواعد التي تمليها، يمكن لها أن تساعد في عملية التنمية، والتطور. لأن هذه المجموعات الدينية كانت على امتداد مئات السنين هي الحافظ الغيور للمثل والمقدسات الشعبية، واهتمت بشكل دقيق لكي تنتج نساكا ذوي قدسية، وبناة دولة، أكثر من إنتاج مغامرين عباقرة أو أشخاص مهووسين بحب السلطة.
2 - في المنهج الاجتماعي:
* إن العيش المشترك مستحيل بين أناس يعد بعضهم بعضا كفارا، وان عاشوا معا فترة من الزمن، يبقى الرابط الذي يجمعهم سريع العطب ومعرضا للانحلال لدى أدنى خلاف يقع بينهم، لذلك على الدولة أن تعمل على خلق مؤسسات تخصصية ذات ثقل تشجع على اللقاء، وأن تكون لها المقدرة الإعلامية القوية، يكون من أهدافها خلق ورعاية تيار فاعل هدفه الحوار وإزالة الشوائب من كل فكر، ويجب ألا تمارس الدولة على هذه المنظمات سلطة مركزية، بل سلطة إشراف ودعم لكي لا يكون اللقاء مجرد تبادل آراء سطحية وتلقائية لا تأتي بجديد.
* تركيز الدولة على الحقل الاجتماعي وليس الروحي من خلال مؤسسات متعددة تشترك فيها جميع المجموعات، يكون هدفها متنوعا بين الجمعيات الخيرية المشتركة والتي تملك مؤسسات طبية وغيرها، إلى جمعيات ثقافية ورياضية وغيرها، وبهذا تكون الدولة تغذي الطريقة الخاصة بكل واحد في فهم القيم الإنسانية وتحقيقها في واقع الحياة.
* رعاية الدولة لمنهاج تعليمي تربوي في المدارس يتضمن فكرة قبول الآخر والتوعية لفهم هذا الآخر الذي يختلف في دينه وحلقته الاجتماعية، وهنا يجب الاتفاق على برنامج ديني للأديان بحيث تعرض في كل برنامج فكرة عن الدين الآخر لا علما عقائديا فقط من حيث ماذا يعبد؟ وغيرها، بل قيما إنسانية وروحية واجتماعية، واذكر هنا وصية الإمام علي بن أبي طالب إلى مالك بن الاشتر عامله على مصر (مع ما تمثله مصر من ثقل ديني مسيحي آنذاك) عندما قال له " الناس صنفان، إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخَلق"، ويجب الاهتمام أكثر بأن يكون المدرس الديني من أهل الاختصاص، (ليس رجل دين بالضرورة) لأن التطرف الديني لدى (كل الاديان) يعود في جزء كبير منه إلى هؤلاء الذين يمهدون الجو النفسي لتبريره.. وهو أي فرد لديه الفرصة للتأثير في الآخرين وفي أفكارهم، ومن أجل ذلك لا يجب معاملة الحصة المدرسية الدينية كأنها لإكمال النصاب الحصصي للمعلم فقط.
خاتمة
إن المشاكل التي تعانيها الدول من اختلاف الحضارات - في العصر الحالي - يمكن لنا بشيء من التقريب ، أن نختصرها إلى اختلاف في الديانات وما يمثله هذا الاختلاف من عادات وتقاليد وغيرها، وهنا تكمن أهمية الحوار والعيش المشترك بين مختلف المجموعات، وهنا تكمن أهمية خلق ظروف مؤاتية عملية للتقريب واحترام الآخر، وعدم التراجع عنها، على أن لا يقف ذلك في مجال البروتوكوليات والشكليات فقط، إضافة إلى ضرورة إلغاء التقية من حياتنا للعيش بصدق وشفافية مع الآخر، فعلى الدولة يقع عاتق الانتباه لعدم وجود مندسين لأسباب استغلالية مصلحية بين أولئك الذين يعملون في حقل الحوار والعيش المشترك، يشوهون لأسباب مادية بحتة متنوعة، السير في الخط الصحيح، ويجب الانتباه أنه في غالب الاحيان يستخدم الموضوع الديني لأسباب سياسية، ومن هنا على الدولة عدم استغلال الطوائف والمجموعات الدينية المتعددة لأسباب إعلامية وشكلية بحتة تندرج تحت بند المصالح السياسية.
يمكن للمسيحية والإسلام وباقي الديانات الدخول في حوار ديني، يبنون عليه علاقاتهم في الحياة والعيش المشترك. وهذا الحوار الديني يتضمن نقطتين أساسيتين: أولا الاعتراف بواقع الاختلاف الديني وبالحق في الاختلاف وثانيا التركيز على نقاط التلاقي في العقيدة والأخلاق بين كل الأديان .