'بعد 31 عاماً لا تزال إسرائيل تدفع ثمن المعلومات التي قدمها ع.ل ضابط المخابرات الإسرائيلي، للسوريين. فالمعلومات التي قدمها للسوريين، تصلح لأن تكون موسوعة حول الجيش الإسرائيلي ودولة إسرائيل. بل إن بعض هذه المعلومات، ورغم مرور 31 عاماً لا تزال 'حية' وذات قيمة، وكلفت اسرائيل أموالاً طائلة لتصليح الأضرار الناجمة، تلك التي يمكن إصلاحها فقط، ناهيك عن جهد المئات في العمل المتواصل لسنوات طويلة، لتقليصها. ويقال أن حجم الخسائر بالإضافة الى سنوات العمل المضني لا تقل عن الأموال التي صرفت والجهود التي بذلت في تطوير وبناء طائرة 'لافي'.
' المخابرات الإسرائيلية '
- فمن هو ع.ل ؟
ع.ل من مواليد حيفا، تميز بذكائه وذاكرته القوية وسعة معلوماته الى جانب فضوله في المعرفة إلى حد الجنون.
تم تجنيده للجيش في قسم المخابرات، وكان يتقن الكثير من اللغات وخاصة اللغة العربية وتشمل اللهجة السورية والمصرية والفلسطينية.
في حرب الغفران 1973، خدم ع.ل في وحدة الإنذار المركزية في المخابرات العسكرية 'أمان'، التي تعرف اليوم برقمها 200/8 ، وكانت وظيفته التنصت والتحليل، وقام بوظيفته على أكمل وجه.
استدعي عشية الحرب، يوم الجمعة، الى موقع التنصت للجيش الإسرائيلي في جبل حرمون، فخرج من بيته في حيفا وفي يده كتاب 'تنفيذ الأوامر القتالية لسلاح الطيران الإسرائيلي'، والحديث هنا عن كتاب يعتبر بمثابة 'التوراة' لسلاح الطيران، هذا الكتاب هو حلم أي جهاز مخابرات معادٍ من حيث المعلومات .
بقي ع.ل أثناء الحرب في موقعه في جبل حرمون، وقصة موقع حرمون معروفة، فقد سيطرت عليه القوات السورية، فقتل من قتل وأسر من أسر من الضباط والجنود، وكان ع.ل من بين الأسرى.
وفور وصول الأسرى الى دمشق قام السوريون بالفصل بينهم، ولم يحاول ع.ل إخفاء هويته ووظيفته، بل تحدث اليهم بلهجة سورية متقنة معرفاً نفسه. أدرك السوريون بدورهم أن أمامهم غنيمة لا تقدر بثمن. وعلى الفور أفرد عن باقي الأسرى البالغ عددهم عن 67 أسيراً، وتم تحويله الى معتقل منفصل. حيث كان بانتظاره محققون ذوو كفاءة عالية، وتمكنوا من إقناعه أن دولة إسرائيل قد انهارت في أعقاب حرب الغفران المباغتة. ولإنصاف ع.ل. يقال أنه قد صدق ذلك من أعماقه! وفهم أنه من العبث التكتم على أسرار دولة قد انهارت.
لم يتكلم ع.ل. ولم ينبس ببنت شفة، وبدلاً من إشغال المحققين، فقد قدم له السوريون الأوراق وقام هو بدوره في الكتابة. كتب كل شيء وكتب عن كل شيء، وملأ دفاتر كثيرة بخط يده.
ولغاية يومنا هذا، ورغم مرور 31 عاماً تقريبا على ذلك، ما زال يمنع نشر المعلومات الدقيقة التي كتبها في حينه. فقد كتب كل ما يعرفه عن الجيش الإسرائيلي، وكيفية جمع المعلومات، وعن الأجهزة والمعدات والأشخاص والمواقع، فقد كان يعرف أكثر مما يسمح اليوم بمعرفته، بل وكتب عن التسليح الدقيق والسري وعن مصادر المعلومات. ومن معتقله كان منفرداً عن باقي الأسرى، كتب 'القصة السياسية' لإسرائيل: مبنى المجتمع الإسرائيلي والأحزاب. وكانت المواد التي كتبها تكفي لملء موسوعة حول إسرائيل، أو بالأحرى فقد قدم لهم، وللمرة الأولى في التاريخ، ما يمكـّنهم من الفهم العميق للتطورات في الدولة والجيش.
لم يكن المحققون السوريون بحاجة إلى توجيه الأسئلة، فقد اكتفوا بمتابعة ما يكتبه بتلاحق وغزارة، كما لم يلجأوا إلى التعرض بالأذى لهذا 'النبع الفوار' الجالس أمامهم ويفيض بالمعلومات باسطاً على عشرات الدفاتر الحقائق عن إسرائيل وفي الأساس عن الجيش الإسرائيلي، والأهم من ذلك أسرار الجيش الهامة والخطيرة.
لم يتوقف ع. ل. عن الكتابة، ولم يتوان عن الكتابة حتى عن 'قصص النميمة' حول كبار القادة والضباط منطلقاً من قناعته بأن إسرائيل لم تعد قائمة!!.
وبالطبع فقد كان الرد السوري سريعاً، فخلال الحرب تحرك الجيش السوري بناء على المعلومات التي قدمها ع. ل. بسخاء. وتجلى ذلك بوضوح في سلاح الطيران السوري وفي عمل المخابرات السورية.
لم يتوقف السوريون، الذين عملوا بمهنية وكفاءة عاليتين، عن تشجيع ع. ل، وواصلوا تقديم الأوراق البيضاء له واستلامها مليئة بالمعلومات بخط كثيف وصغير. وفي مرحلة معينة قرر السوريون إشراك آخرين في 'إحتفالهم' بهذه الغنيمة. فقاموا باستدعاء محققين من الإتحاد السوفييتي (سابقاً)، ونقلوا ع. ل الى إحدى الفيلات في أطراف دمشق. حيث واصل حديثه أمام المحققين الروس الذين جاؤوا خصيصاً للإستماع ولرؤية هذه 'المعجزة' الإسرائيلية - ماكنة الكتابة التي لا تتوقف. وبعد الروس جاء المصريون ليشاركوا بدورهم في هذا الإحتفال، وبالطبع لم يخيب أملهم ع. ل، بل روى على مسامعهم كل ما طلبوا سماعه.
كاد السوريون لا يصدقوا ما يقوله ع. ل، من فرط المعلومات التي يعرفها بالنسبة لشخص واحد.
من جهتها فهمت اسرائيل أثناء الحرب حجم الأضرار التي يمكن أن يسببها ع.ل. فالمخابرات الإسرائيلية حاولت استرجاع ما يعرفه ع. ل، وشيئاً فشيئاً بدأ يتضح للمحققين في الأمن الميداني أن الحديث هو عن كارثة حقيقية. ولما لم يُجدِ توجيه التهم، فقد انتظر الجميع موافقة السوريين على تبادل الأسرى. وكانت الإفتراضات تشير الى ان السوريين سيقومون بتحديد موعد التبادل بناءً على وتيرة التقدم في التحقيق مع ع. ل ، فمن غير الممكن أن يتركوا 'فريسة' لم يسبق أن وقع بين أيدهم مثلها.
بعد فترة طويلة من وقوعه في الأسر، نقل ع.ل الى زنزانة مع باقي الأسرى الإسرائيليين .
جلس ع.ل في الطائرة من دمشق الى اسرائيل وهو يرتجف من شدة الخوف يتخيل أنه فطن الى جبل الأوراق التي تركها خلفه في دمشق، لم تعد إسرائيل بالنسبة له شاطئ الأمان. وعلى متن الطائرة التقى بشمعون لافي (سيمون) الذي سيتولى مهمة التحقيق معه في الأشهر الثلاث القادمة.
نقل ع.ل الى شقة في تل أبيب تحت حراسة مشددة، وبقي هناك ثلاثة أشهر يقص على محققه ما حصل في دمشق وعن آلاف الأوراق التي ملأها بالمعلومات التي يجهل محققه سيمون الجزء الأكبر منها.
وفي كل مساء طوال تلك الشهور اجتمع طاقم مشترك بين عدة أجهزة لتحليل 'صورة اليوم'، وفي كل صباح وضع ملخص مخابراتي خاص على طاولة رئيس الحكومة، ووزير الأمن ورئيس هيئة الأركان وعناصر أمنية أخرى. وبموجب الملخص، كانت تستبدل الوحدات، والوسائل، يجري التخطيط لوسائل جديدة والتخلي عن وسائل قديمة استثمر فيها الملايين.
جلس العشرات في كثير من الوحدات، يعملون تفكيرهم في كيفية التغلب على هذه الكارثة. وقد قال رئيس شعبة المخابرات العسكرية (أمان) في حينه يهوشفاط هركابي، والذي كان يتلقى نسخة من الملخص الصباحي: 'في كل صباح، كنت أبكي من جديد'.
وفي تلك الأيام ايضاً طلبت رئيسة الحكومة في حينه غولدا مئير رؤية الرجل الذي كان من الممكن أن يقال عنه في ظروف مغايرة 'بئر الأسرار الذي لا ينز باي قطرة'. وبعد أن تلقت تقريراً من الشاباك حول ما حصل، خرجت مصدومة وهي تتساءل: 'كيف حدث هذا لنا؟'.
ترددوا كثيراً في الجيش الإسرائيلي في أمر محاكمته. وكان لسان حال الكثيرين يميل الى تمزيقه إرباً، إلا أنهم في النهاية تنازلوا عن ذلك بسبب تقارير الأخصائيين النفسيين حول وضعه النفسي..
سكن ع.ل بعد ذلك في الشمال، وبدأ بمزاولة عمل يعتاش منه، وقد عرف كثيرون أنه كان قد وقع في الأسر، ولكن قلائل من يعرفون تفاصيل ما حدث، وفي مرحلة معينة بدأ يكتب للصحف بشكل أسبوعي، يكتب كل شيء عن كل شيء، يقترح ويمتدح ويقدم النصائح...
رفض ع.ل بشدة إجراء مقابلات، ولكن في المقابلة الوحيدة التي أجريت معه عام 1990 قال:' يوجد فرق كبير بين النوايا وبين النتائج. أنا لم أهرب إلى دمشق ومعي حقائب مليئة بمواد في غاية السرية، يجب تفهم الوضع النفسي لإنسان يقع في الأسر'.
بقلم : د . سمير محمود قديح
باحث في الشئون الأمنية والإستراتيجية