آخر الأخبار

«من بعد هالعمر»: تحب فيروز أو لا تحبها.. تحب زياد أو لا تحبه

«من بعد هالعمر»: تحب فيروز أو لا تحبها.. تحب زياد أو لا تحبه
سحر مندور

خلال الأسبوع الماضي، بدا أن أجواء شباب العشرين اليوم، ليست كأجواء شباب العشرين أيام بيت الدين.
فلنبدأ من البداية.
فيروز وزياد وألبوم جديد وحفلة.
تلك رباعية كانت كافية لإخراج الشباب عن طورهم.
لم تطغَ الأسئلة على مشاركة زياد في الحفل. فالشباب باتوا يعرفون أن لزياد قراراته الخاصة، كما أنه واضح في الألبوم، سيعودون إليه، ليلاً، وغداً، وإلى الأبد. محفوظ، في البيت، حيث الآمان.
ولم تسد أسئلة حول الغناء «لايف» أو «بلاي باك»، بل أسئلة عن التذاكر، والموعد الملائم للتوجه إلى «البيال».
من هنا، بدا أن أجواء شباب العشرين اليوم، ليست كأجواء شباب العشرين أيام بيت الدين، عندما كان صدى الأكبر سناً يفرض نفسه بقوة علينا. حينها، كانت شرايين العنق تقفز من مكانها لتواجه وريث التشكيك بأن صوت فيروز آمن آسر في تبدلاته، مهما كان سنّها، وأن حضور حفلها نعمة، مهما كانت كواليسها. كانت الحناجر تشتد إلى أقصاها لتقول بذلك، علماً أن السماع كان كافياً لتأكيد ذلك.
ثم، من سوى تلك السيدة الآتية من زمن الآباء بادر إلى التوجّه إلينا بلغة تحاكي روحنا؟! من اكترث لخوض تجربة «خطرة» تصب في صالحنا، سواها؟
لم يضطر عشرينيو اليوم إلى ما اضطر بعضنا من المتماهين بالهوى مع فيروز على التعامل معه.
وحتى نحن اليوم، تحصّنا، وقد تحصّنت التجربة، وما عدنا مضطرين إلى خوض المعارك للإقناع بما نعيشه برفقة فيروز وزياد.
لكن، لا يعني ذلك أن الأجواء التي سادت أسبوع فيروز وزياد كانت كلها إيجابية.
فقد ترددت عبارات قاسية، تهدف إلى إلحاق الأذى بالإيجابية المسيطرة، كأن الناس لا يحتملون للناس فرحاً. فقيل عن جدوى فيروز، وعن معنى صوتها «من بعد هالعمر»، وتقزّزت نفوس من القدسية التي تحيط بها، وألمّت بآخرين دوخة ووجع راس.
فليكن.
إذ، «من بعد هالعمر»، بات بوسع المرء أن يحافظ على هدوء شرايينه وحنجرته، ويتقبل الاختلاف بالرأي. من تروقه التجربة، يدمنها، ويمتلئ بجمالها. ومن لا تروقه التجربة، فليغيّر «المحطة». ومن يتساءل عن جدواها، فليتساءل، والعمر أمامه طويل. أما مقشعرو الأبدان من القدسية فهؤلاء قصتهم قصة.
كانت «مقدّسة» تروي حب العذارى، وخفر الممارسة في القرية، ولبنان الأخضر الحلو، وتبدو بعيدة ممتنعة عن دنس الحياة اليومية. فلعنوا كلامها وتمرّدوا على سطوة صورتها. ومرّت السنوات، ولم تعد هي «المقدّسة» ذاتها، وقالت له «مش كاين هيك تكون»، وسألته «كيفك إنت» من موقع الند، وانكسرت بسبب كبر «المزحة هاي» وتوقيتها «بآخر هالعمر»، وشككت بالأمل بينما ترفعه، وحكت كلامي وكلامك، ... وبقيت مقدّسة يجب كسر هالتها، بالنسبة إلى مناهضي القدسية.
يشي ذلك بأن هذه السيدة تمتلك سطوةً على مناهضيها أكبر من تلك التي لها على مريديها. فالمناهضون يفرضون عليها القدسية، ويحاكمون الناس على حبهم لها، مهما تغيّرت هي. كأنهم يسعون إلى التحرر من سلطة فرضوها هم على أنفسهم، صانعين من هذا السعي إيديولوجيا جامدة، لا تتبدل بتبدّل الفصول، فلا يتحررون.
علماً أنها ليست سلطة.. علماً أنها متعة.
فقد أتى ألبوم فيروز الجديد محمّلاً بزياد، معجوناً بفيروز، يستكمل الرحلة التي بدأت بينهما، يسمعها المرء تنمو وتختمر بفعل الزمن و«العِشرة» الفنية، فتهدأ المعاني، ومعظمها معاني الحب المجهض، تهدأ ولا «تتقولب». إذ لا يضحي الكلام أكثر «أدبية» لكنه يخترع أبواباً جديدة ومساحات أبعد، في الشعرية العالية التي يمتاز بها نص زياد. شعرية لا تجرّد العاطفة، بل تصفها بدقةٍ تمنح كل شاب سنداً في حبه، وعمقاً في التعامل مع مشاعره. فعندما تقول فيروز اليوم، في أغنية «إيه، في أمل»: «شو بتخبّر أصحاب وزوّار / عني إنّي محدودة وبغار / بس حبيبي كرمالي / تنيناتنا منعرف شو صار»، تعود إلى الأذن معاني «روح خبّر» لزياد منفرداً، لكن من دون حرقة «ليك مع مين، عم بتحور عم بتدور عم بتكذّب ع الجمهور.. روح ع طول».
هناك شيء ما في الكلمات يمنح الروح هدوءاً في أساها، وهناك شيء ما في الموسيقى يمنح النَفَس سكوناً ينساب إلى آخر الرئتين.
هذا النفس الطويل، يتضح جلياً في أغنية «كل ما الحكي» ذات الموسيقى المغناطيسية (المستعادة من أغنية «كل الصفات فيك»). إذ يأتي اللحن رحباً، ودائرياً في آن. رحب، لعدم استعجاله في القول، ودائري كالعاطفة التي يرويها: «لا تفكّر بدّي / إنشا ومسوّدة / كل اللي بدّي / صدق الكلام». يذكّر لحن هذين البيتين باللحن في «كبيرة المزحة هاي» (التي استعادها الألبوم الجديد)، عندما تقول فيروز: «ما بعرف كيف بتحس وما بتعرف شو عم بتحسّ / ما بعرف كيف بتحب وما بتعرف إذا عم بتحب». لا يشبهه، لكنه يطيل الرمق، مثله.
في ألبوم فيروز الجديد، يتكامل الشاعر مع الموسيقار في زياد، فلا يتكئ واحدهما على كتف الآخر، بل ينصهران بهدوء، لينتجا بساطةً وسلاسةً في التعامل مع العصي عن الوصف. وفي قول الحب، ترد عبارات صالحة للتفكّر بالحياة، والسياسة، كما الوجود.
على مستوى السياسة، والمقاومة تحديداً، يمكن للمرء سماع: «مش قادر تلغي الماضي كلّه / والحاضر، مش حاضر محلّه» (قال قايل)، أو «قلتلي القناعة، هاي كنز ما بيفنى / وقنعنا كتير، وقد ما قنعنا تلفنا» (ما شاورت حالي). أما أسباب الوجود، الآن وهنا، فيمكن للمرء أن يلبسها رداء: «في أمل، إيه في أمل / أوقات بيطلع من ملل» (إيه، في أمل).
الأمثلة لا تنتهي، مثلما تحلّ اللغة كريمة في الألبوم، لا تشحّ.
الأفكار لا تنتهي، ولم يمرّ على السماع إلا أيام معدودة.
والشعور يأتي غامراً في الألبوم، يدعو الإنسان إلى صرف وقت أكبر في فهم عواطفه بدلاً من الاختباء خلف رد الفعل.
وإن كنت «أنا مش هي البنت اللي بتفكر فيّ»، حتى لو «بكرا رح تتندم عليّ»، فتعال نراقب «الأيام.. شو ضيعنا أيام».. لكن، أن «أقلّك قلقانة وإنت تفوت تنام»، فـ«يا سلام على حبك يا سلام». لقد انتهت القصة، وما بقي منها، بقي منها. كل قصة، هناك ما يبقى منها، مهما كان طعمه (قصة زغيرة كتير).
الأمل، مهما شكك فيه زياد، فقد صنعه بمجرد أن صنع لفيروز ألبوماً جديداً.
إنه الآمان الآتي من «الدائمة» (بحسب وصف الزميلة «الأخبار» لفيروز).
لقد كان أسبوعاً نسيمه نقيّ.
أظهر زياد، كعادته، مكامن الوجع، توقف عندها، سمّاها بأرق الأسماء، فلم ينكأ الجرح، بل احتضنه من خلال الاعتراف له بالوجود. وصنع لفيروز ألبوماً صادقاً في علاقته مع الناس وحال حبهم وأيامهم وبلدهم.
مرة جديدة في رحلةٍ لا تخيب: شكراً فيروز. شكراً زياد.
لقد ابتسمتما لنا، ومنحتمانا الحضن.. بينما لا يكلّ الآخرون عن التهجم والشتم.

من عجائب فيروز
أسعد ذبيان

ما الذي فعلته فيروز أمس؟ ظهرت على خشبة المسرح وأدّت أغنياتها من دون أن تنبس بشفّة غير الغناء، كعادتها التي درجت عليها منذ ما بدأت الذاكرة تسجل. فيروز فعلت ما لم يفعله أحدُ منذ عقود. وحّدت شخصياتٍ من كافة الألوان، التقوا من دون زيف، عراة على الرغم من بدلاتهم الفاخرة، ولكنّ هذا نتركه لتحليل كتّاب العواميد السياسيّة.
فلنبدأ بالعنوان: "إيه في أمل" كأنّما اقتطعته من بابلو نيرودا: "أجل، حالنا لا بأس بها، شكراً لكم، ما زال لدينا أمل".
فيروز وحّدت التصفيق، لا تشجيع على طريقة الحكمة أو الرياضي، بل على إيقاع الموسيقى والمهارة، والأخيرة سيدة نفسها، أو كما يقول محمود درويش: "والوحي حظ المهارة إذ تجتهد". ولذلك كان الوحي مخيماً فوق الأجساد التي تمايلت كلها بالألوف دفعة واحدة، على صوتٍ ملائكيّ غنّى "سلّم على بكرا".
فيروز أخرجت مئات الناس من عالمهم للحظات، فالعارضة نست جسدها في صمت اللذة، وصاحب المنصب خانته ذاكرة الشهوة فعاد طفلاً قبل الجشع بلون الصدئ، وكل منّا نسي من هو في الاسم ليكتشف من هو في المضمون. وحدهم قلّة بقوا معلّقين تبهرهم الأضواء لا البصيرة، هم من قال عنهم نيتشه انّهم لا يجيدون الرقص، فالحذار منهم.
فيروز حققت أحلام مئاتٍ بأن يتذكروا يوماً أو أن يخبروا أحفادهم أنّهم شاهدوها على منبر المسرح، وكانوا هناك بالجسد، وكانوا هناك بالروح (بالطبع تنقص المسافة عنها متراً واحداً كلما أضفنا عاماً بعد الأربعين). فيروز صنعت أغلفة الصفحات الأولى وعناوين الجرائد، ليرتاح المسافرون بين الحروف من أسماء جلاديهم. غطاها الأبيض بفستانٍ ودزينة من مصابيح الإنارة المسلطة عليها، كأنّما هي ملاكٌ مرسل (لا بل كانت ملاكاً يوحي)، وطوّقها المحبين من كل حدبٍ وصوب.
فيروز جمعت العاصمة مع شتات الوطن، والمغترب مع إبن الريف، العتب الوحيد أنّها لم تجمع الكادحين مع أرباب رزقهم. عانقت فيروز بحفلتها الأجيال، بأغانٍ لها تذكّر بمجد الزوج وشقيقه، وفواصل غنائيّة من نتاج الإبن والذي كما قال درويش أيضاً وبتصرف: "سُمّي باسمه مصادفة، وانتمى إلى عائلة مصادفة، وورث ملامحها والصفات".
فيروز دقّت باب الذاكرة في كل قلبٍ ليستحضر من ماضيه أو واقعه نحتاً لحبيبٍ أو وطنٍ أو شوقٍ لكمال، عندما صدحت تغني: "يا سلام على حبّك يا سلام". سمحت السيدة لجنينٍ في عقلنا أن ينمو، أن يشهق بكائه الأوّل بعد أن بعث حياً، سمحت له أن يتنفس بعض الأوكسجين قبل أن تقتله الاستراحة الأولى.
وحده عندما استفاق الضوء، رأينا أنفسنا نخرج من المنام الجميل. كان على العصافير أن تغرّد خارج السرب (وذلك حقّها) فرقدت الأنا الجماعيّة لتستيقظ الفرديّة في كثرٍ، استعرضوا الستان والحرير وآخر رهصات الموضة مدبرين نحو المأكل والمشرب قبل أن يعودوا خالي الوفاض.
فيروز شيّدت للمنافسة صروحٍ بيننا، فكان الصحافيّ يضيء بالولاّعة الدرب القصير أمام أنامله لتكتب جملة أم كلمة تعينه على نصٍ ينشر في الصباح، في حين قرر الموسيقيّ أن يرسم الدنيا نوتاتٍ، ويؤلف سوناتا. وقس على ذلك، بمهندسٍ سيشيّد مشروعه الجديد مع نظامٍ يستعين بمقياس ريختر لاكتشاف أدنى تحرّكات في جوف الأرض، والأرض هي نفسه، والحركة موسيقى، وآلة التسجيل عقله.
كانت فيروز تؤدي معنا كما قال نيرودا: "أود أن أعمل معك(م) ما يعمله الربيع بالأزهار". فيروز أعطت لزحمة السير للمرّة الأولى سبباً يليقُ بها، فلا رئيس مرؤس يمرّ ويسد شرياناً في بيروت، ولا شجارا يؤدي لإغلاق نصف العاصمة، حتّى سائق التاكسي الذي اعتاد شتم إدارة المرور، خشع لاسم فيروز عندما عرف سبب الزحمة. أردف يقول: "فليوفقها الله، تعطي من قلبها، صحتين عليها"، كان يفكّر بها لأنّها أعطته دائماً ولو ملكت أكثر منه.
فيروز قدّمت ذلك، زاداً يقتات به شعبٌ بأكمله. عندها نفهم مثل المسيح عندما أطعم ببضع أرغفة الخبز والسمك وفرة من البشر. فيروز البارحة، أعطت لكل شيءٍ قيمته، للملابس الفاخرة، للعطور، للألوان، لتصفيفات الشعر، للهندام، لكل تفصيلٍ خارجيّ، لأنّه لمن هو مثلها نستحق أن نتبرّج، ومن ثمّ طوّت كلّ ذلك في عتمةٍ لتكون هي وحدها النجمة.
فيروز أعطت للكلمة رونقها كأنّها تعيد ما قاله لويس أراغون: "لا شيء يسلخ بعد الآن، الكلمة المغناة عن الشفاه"، قبل أن يضيف: "إننا نتكلّم الأغنية نفسها وتربطنا الأغنية نفسها، والقفص هو القفص". والقفص كان الجسد، أمّا فيروز فقد حررتنا.

إيه...في أمل
سمر عبد الجابر

كم كنت بحاجةٍ في هذا الوقت بالذات
في هذا الأسبوع بالذات
حين شعرت فجأةً أني حقّاً في صحراء
حين أدركت مجدّداً كم لا زلت وحيدةً
حين عاود الحزن زياراته الصباحية والمسائية لي كصديقٍ حميم
كم كنت بحاجةٍ
إلى سببٍ بسيطٍ للسعادة
بسيط جدّاً
كأغنية جميلةٍ إلى هذا الحد

موعـدي معـك
كارول كرباج

تألقتُ في هذا المساء. خلعتُ يومياتي الباهتة ولبستُ فستاناً رمانياً. عطرتُ نفسي واستعددتُ لموعدي معك. مشاعري تلتهمني لحظة دخولي مكان اللقاء. لا اعرف إن كان موعدي مع الحب أم مع الذاكرة أم مع الأمل أم مع الوطن المفقود.. أم مع نفسي. أعرف أن موعدي كان معك، أنت فيروز.
اخترقت أنفاسك حواس جسدي على أنغام موسيقى الحفل وعلى وقع صفيق جماهيري كثيف.. دخلت بثوبك الأبيض، كوميض أمل، لتقولي لشعبٍ بعثرته احتمالات الفتن والحروب والظروف الاستثنائية، «في أمل، إيه في أمل.. أوقات بيطلّع من ملّل».. ولتقولي لي شخصياً ما زال قلبك يخفق، ما زالت عيونك تدمع، ما زلت تحلمين.. وما زلت موجودة!

***

غنيّت لي ـ وربما لنا ـ محطات حياتي الكبيرة والصغيرة منها. فكنت تلومينني بحنية لكن بكلمات حادة «هالأيام، شو ضيعنا ايام، هالأحلام، شو كبّرنا أحلام..» فأدمع وأشعر بقلبي ينقبض من التأثر. وكأننا في حديث صباحي نتشارك هموم الحياة على فنجان قهوة. أشرد فأعود إلى الحفل وأسمع صديقتي تهمس بتأثر «فيروز تحكي قصتي في هذا المساء!»، فإذا بصديقي يجيبها مازحاً: «هو زياد أسقط كل فشله العاطفي على فيروز». فنضحك.. قبل أن تنقطع أنفاسنا مع «الله كبير» فندمع.
فنبتسم من جديد ونرقص على وقع «منحوس مش منحوس للّي حظّو متلي، ومش يعني للّي تجوز بكير أكلة، بتّم ما بتّم منّو هم كل الهم، انو يجف عنّي النق ومعهن نق هو أهلي». ما أروع شخصيتك المتمردة مع زياد!
مهلاً مهلاً أشعر بزيادة خفقان القلب مع سرعة الإيقاع. ارحمنا يا زياد لا نتحمّل مزيداً من الإبداع!

***

في هذه الأمسية أيضاً استحضرت شيئاً من طفولتي. أتصدقين أن تجربتي مع الكلام على عمر الثلاث سنوات كانت برفقة صوتك؟ أمي تسأل «قلتلك شي؟» وأجيبها «لالالا»، فتضحك وتسألني مجدداً «زعلتك شي؟» وأجيبها مجدداً بذات العناد الطفولي «لالالا». أخبرتني كل ذلك من سنوات حين كنا نتصفح ألبوم الصور.
لا أدري إن كنتُ تعلمتُ الرفض والتمرّد من هذه الأغنية، المؤكد أنني نشأت على صوتك. وانتمائي للذاكرة، للقرية والوطن كان عبرك أنت. أنت فيروز. إلا إن «المواعيد والعناقيد ولبنان الجديد» لم تكن سوى «لبيداً» يا أم زياد. والوطن ليس إلا «جراراً» مكسورة بالطائفية والعنصرية! أخشى فعلاً من حقيقة أن وطني هو صوتك، لا أكثر!

***

تحت المطر وأنا أمشي عائدة من حالتي الفيروزية، اتصل بي صديق ليسألني عن الأمسية. فصمت ولم اعرف كيف اصف له حالتي، فقطع صمت المكالمة: «لا داعي، كنت أصغي إليها من مصر». لم يستطع الحضور لأن الأمن العام اللبناني قد يطالبه بألفي دولار على المطار وهي لم تكن بحوزته. ولو كانت، فهو سئم فعلاً من بعضهم (أكثرهم)، دعاة حرّاس «الجرة» (او الأرزة) من الغرباء! فقلت له «وما ذنب فيروز؟ أولئك لا ينتمون إلى وطنها».
لا يهم، فهو كان يستمع اليك «حتى لولا الصوت بعيد». التزم بتوقيت الحفل وقمع الكلام من حوله محذراً كل من حاول أن يخترق قدسية صوتك «بالوقت لي بتتكلّم فيه كلام فاضي، فيروز بتغني! عاوز اسمع!!».

***

سهرت حتى الفجر بعد أمسيتنا. استمعت إلى رقّة صوتك وقلبي يرقص على أنغام موسيقى ابنك العبقري. لا بأس، فبعض المواعيد لا تترك مكاناً للنعاس لأننا نولد معها من جديد. وأنا ولدت، يا فيروز، في هذه الأمسية للمرة الثالثة. فولادتي الأولى كانت مع الحياة والثانية مع الحب. وولادتي معك كانت مع الأمل.. والحلم بإنجاب طفلة، إن ولدَت من «حب أخير» سأسميها فيروز.

خـلِّ عينيـك تدمعـا...
هنادي سلمان

الحواس كلها مستنفرة للتلقّي.
يكفي تجاوز السلالم التي تفضي إلى الكراسي المعدّة للحفل لكي يختفي الزمان، والمكان، ولا يبقى إلا هنا والآن. هنا، حيث تعتلي هي القلوب والنفوس قبل الخشبة، والآن، حين تحمل أكثر من سبعة آلاف شخص إلى دنياها، دنياهم، حين تغنّي.
هم ناسها. لا يشبهون ناس الهُنا والآن القائمين خارج أبواب المكان المعدّ للحفل. لا يشبهون حتى أنفسهم قبل تجاوزهم للعتبة الفاصلة بين الخارج الماطر المزدحم، والقاعة التي سويّت لاستقبالهم وهم يتقاطرون لرؤيتها، والاستماع إليها، علّهم يستعيدون بعضاً من حالهم، ولو لفترة ساعتين من الزمن فقط.
ناسها يشبهونها. ناسها هم الصورة المشتهاة لما يجب أن يكون. الصورة المشتهاة التي تمعن في الابتعاد تحت وطأة التفاصيل اليومية الطاحنة.
هنا، في القاعة، تذوب الفوارق. لا أغنياء وفقراء، لا أطفال ومسنين، لا سنة ولا شيعة، لا مسلمين ولا مسيحيين، لا عونيين وقواتيين، لا 8 ولا 14. لا لبنانيين ولا فلسطينيين أو سوريين أو مصريين أو أردنيين أو أجانب.
هنا أفراد، بحسّ مدنيّ نادر على هذه الرقعة من الأرض، تركوا ما يفرّق بينهم خلف العتبة، ودخلوا تجمعهم هي، بصوتها، وبما تقوله من كلام في الحب وفي الوطن، في القرية وفي المدينة، في الماضي وفي الحاضر.
هنا، سيدة تجاوزت الستين تتأبط ذراع والدتها المسنّة، تسأل الحاجب بلطف وهي تمسك ببطاقتها عن المكان المخصص لهما. هناك والد ووالدة وأبناؤهما يتوجهون باسمين إلى مقاعدهم ويحيّون، على الطريق، معارفهم المنتشرين في المكان. ملابس نظيفة مكويّة، إحساس خفيف بالتهيّب، وفي العيون الكثير من التوق والتوقّع.
هنا، في النقطة الأقرب التي ستجمعهم بالسيّدة، والآن، فيما يدنو موعد لقائهم معها، أفراد يضحون لساعتين من الزمن، متساوين، يجمعهم صوتها ولا يفرّق بينهم، يحملهم إلى حيث يشتهون أن يكونوا: مكانة عليا من الرقي والاحترام.
يبادلونها احترامها لهم باحترام ذاتهم أولا. يبادلونها ما تقدمّه لهم من رقي، برقيّ يتغلغل في داخلهم، يحملهم إلى حيث نسوا أنه يجب أن يكونوا. لا انتهاك هنا للنفوس، لا استسهال، لا تفصيل ترك للصدف. السيدة تقدّم لهم ما يليق بهم، وهم يستعيدون، لساعتين من الزمن، إيمانهم بأنهم لا يستحقون أقلّ من ذلك. تحملهم إلى حيث يجب أن يكونوا، تعيد إلى وجوهم صورهم المشتهاة، وإلى قلوبهم أحاسيس صادقة، مجرّدة، تبكيهم وتضحكهم، تطربهم، تحلّق بهم في رحلة في الزمان والمكان. تعيدهم بالذاكرة إلى الطفولة، ثم تصحبهم من جديد إلى حيث هم اليوم. تفعل كل ذلك، وأكثر. تتغلغل إلى مكنونات كل واحد منهم، بصوتها، تروي قصته هو وحده، فيما هي تغني لهم كلهم. هم، ناس السيّدة، ومعهم وقبلهم ملايين ممن لم يتمكّنوا من المجيء إلى حضرتها.
تحترمهم السيّدة، في اللحن وفي الكلمة، في التوزيع وفي العزف، في الصوت الذي يصدح، برغم السنين والتعب والقهر، يصدح ويقول كما لا يقول أي صوت آخر. هو الصوت الذي دمغ الجميع على امتداد الوطن. الوطن الأكبر، الذي لا يبدأ من الناقورة ولا ينتهي عند حدود «النهر الكبير».
صوت الصباح هو صوتها. ملاذ العاشقين، وأغنية الأطفال والأعياد، والمؤمنين بالوطن على اختلافهم: وطن النجوم، ووطن المقاومة، وطن صبحي الجيز ووطن راجح.
صوت دائم، قائم، قال ويقول، قديمه لا يشيخ، يستريح قليلاً ويبقى قادراً، بمجرد أن يعود، على أن يحكي اليوم بلغته ولحنه وهمومه. وصوت للغدّ، صوت لن يزيده الوقت إلا صقلاً ورسوخاً.
صوت يروي براءة الطفلة التي، في العليّة، مالت بها الأرض وهي تكتشف، مع الفتى، لعبة الكبار. هل نضجت لتصبح المرأة التي تلوم، بوهن، الفتى الذي أضحى رجلا، وصارت لمّا تقول له «قلقانة... بتفوت تنام؟».
تحكي الفتاة التي انتقلت من السؤال «مين قال غمرني مرتين وشدّ، ولا ردته إيدي، ولا هو ارتد... شو بيفضحوا أسرار»، إلى تجنب سؤال الحبيب «لمّا ع الباب يا حبيبي منتودّع، وبيكون الضو بعدو شي عم يطلع...»، إذا كان «حتروح وما ترجع»...
هو الصوت ذاته الذي غنّى مكة، والقدس، ودمشق، وبغداد، وجنوب لبنان وبيروت. غنى الوطن المتخيّل وغنى الوطن الواقعي. رتّل في الكنائس، وارتفع ينصف الحق في وجه الباطل.
الصوت الذي شدا على وقع الألحان والأنماط كلها، العربية والشرقية والغربية، الجاز كما البوسّا نوفا، «اللبناني» و«العربي»، وتمكّن في كل مرّة من أن يحمل الناس معه إلى حيث يكون، ولو بعد حين.
بذكاء، تبدأ الحفلة بالأغنيات الجديدة. تتوقف الأنفاس وترهف الآذان الساعية لالتقاط الكلام والإبحار مع اللحن في رحلة اكتشاف ما أعدته السيدة لناسها.
أن يجلس سبعة آلاف وخمسمئة شخص للاستماع معاً، للمرة الأولى، لعمل فنيّ جديد. وأن يخترق ما يسمعون النفوس، ويتغلغل مستقراً بين الضلوع، فتدمع الأعين تارة، وتبسم الشفاه طوراً. يحمل الصوت كل الحضور، معاً، في آن، إلى حيث يشدو، في الشكل وفي المعنى، في اللحن وفي الكلمة، ومعهما وقبلهما الدمغة التي لا شيء يشبهها: صوتها، صوت السيّدة.
ترتفع الهامات، وتصفق الأيدي، تعلو صرخات الاستحسان، يقف من يقف، تهتزّ الرؤوس على وقع ما يحدث السمع في النفوس من معنى: كل واحد في فكره وقلبه معها، له وحده تغني، يفعل كما يشعر، ليس هنا والآن سواه معها، وصوتها.
تغنّي «سلم لي عليه» وكيفك إنت»، و«اشتقت لك»، قبل أن تعلن أن «في أمل» حتى لو كان نابعا «من ملل»...
ثم ينتقل الصوت، في الجزء الثاني من اللقاء، إلى الأغنيات «القديمة»، ومن بين الحضور من طبعت هذه الأغنيات فصول حياته كلها، ومن بينهم من يكتشفها للمرّة الأولى.
بخفر، تمرّ على «الديار» التي لم يعد من الممكن اليوم أن تسمى وطناً، وتختار أن تجمع كل الحضور بأغنية «بعدنا.. من يسكن الروابي..» فتنجح.
وتنجح في أن تحمل الكل في رحلة واحدة من «يا ريت» إلى «وطى الدوّار» إلى «الطاحونة»، إلى «الصيادي»، إلى «حمرا سطيحاتك». هي تشدو، والحضور يلتهب حماسة ويزداد اقترابا منها، والتصاقا في ما تقول. يصل استنفار الحواس والمشاعر إلى حده الأقصى حتى تأتي لحظة الذروة : «أمي نامت ع بكير...».
سبعة آلاف وخمسمئة شخص كل ليلة، على امتداد ليلتين. خمسة عشر ألف شخص رفعهم صوتها إلى حيث يجب أن يكونوا، إلى حيث يستحقون أن يكونوا. وحده صوتها يقدر على ذلك. صوتها هي، السيدة بحجمها الصغير وقامتها العالية. بما تختار أن تلقيه في وجههم وبما تحجم عن إشهاره، بآمالها وإحساسها، بقوتها وضعفها، وبالطاغي غيابه من دون أن يغيب للحظة، زياد الرحباني.
صفقوا كثيرا، طالبوا أن تعيد كثيرا، أعادوها مرتين إلى المسرح، يحاولون تأخير اللحظة التي كانوا يخشونها منذ أن بدأ الحفل: لحظة انتهاء حضورها بينهم، لحظة غيابها عنهم.
تعود مرة أخيرة لوداعهم «بكرا برجع بوقف معكن، إذا مش بكره اللي بعدو أكيد.»... ثم تتوارى خلف الستارة. لا يذعنون، يستمرّون في التصفيق والمطالبة بأن تعود، أن تبقى بينهم قليلا بعد. من يريد العودة إلى العاصفة المستعرة في الخارج؟ من يريد أن يعود إلى فخ الجمود والسوقية المنصوب في الزحام المفتعل والخانق؟ من يريد العودة إلى ما يحدث اليوم فعلا داخل حدود هذه الأرض؟
ما زالت هناك لحظات قليلة للبقاء هنا، الآن، حيث الستارة العملاقة ابتلعت السيدة التي غادرت للتوّ. ترى، هل كانت تبتسم فرحة، أم أن عينيها دمعتا؟

هي الأم وهو الابن الذي يكتبها شعراً
غدي فرنسيس

هو الابن الذي يكتب الأم شعراً.
هو العفوي البسيط الذي يتكلم بآلامنا اليومية. وهي أمه. وهي الإمرأة. هي التعب والعتب. العذاب العذب.
تقف كالملائكة، ترفع يمناها مغنية عاصي ومنصور وكلّ الناس، فتحضن تحت ردائها كل من جاروا عليها. «كل الهم إنو يخفّ عني النق، ومعهن نق، هو أهلي».
تأخذني إليها، إلى حزني في حزنها، إلى صلابتي في صلابتها.
إنها ستّ الزمان، برمزيتها. تقف على الخشبة البعيدة، بصوتها السبعيني الصامد، تسافر بي إلى جوف الذاكرة.
تدغدغني القشعريرة انتقالاً من أغنية إلى إغنية.
أحبها أكثر على لسان ابنها. هذا الزياد الذي يسكن في حواسيبنا وآرائنا ونظرتنا إلى كل شيء. فإن لم تكن كل ما هي عليه، فهي أمه. هي من أنجبه. وهي زوجة أبيه عاصي.
هي التلال والنجوم والخريف الذي تغنيه. تستعير به برتقال القمح الحزين مع المغيب. وتكتب عمري بكلماته.
تنسكب كلماتها في الروح. تؤجج جرحاً عتيقاً. تلفّ بياض العين لمعة إذ ترتسم مشاهد الماضي أمامي. ويصيبني الحزن الرقيق.
تخاطب حبيباً عبثياً، فأصبح فيها الحبيبة. تخاطب زوجاً مهملاً فأصبح منها المرأة. تتألم فيجتاحني الألم. تعلو وتهبط راحتاها، تتشابكان أو تتباعدان... وفي حركتها البسيطة الصارمة تبعث الرسائل من الجسد إلى الأجساد. تنطلق الأفواه سحراً، تعلو الأيادي والحناجر لتجاريها. وتعجز.
أتنفسها بين سبعة آلاف مشاهد آخر. ورغم الناس والزحمة، يأخذني حضورها، أتفرد بها. أفتح بيني وبينها خطاً من الألم الجميل. اسمعها تقولني، تغنّيني، تنصهر كتلة الإحساس لتصبح رسولة الأسى الذي مرّ من الماضي إلى الحاضر.
وددت لو اصطحبت كل الماضي ليشاهدها معي. تمنيت لو أحتفظ بها لترجمة قلبي للحبيب. من هذه الامرأة المتعالية على الجراح، أستمد القوة.
كأنها رفعت يمناها، وحضنت تحت الرداء الأبيض الملائكي، رحابنة منصور وعاصي، حين سافرت بنا إلى الكروم والدوالي مغنيةً، «بعدنا، هل تنزل النجوم، تلهو على التلال؟».
تستعير من قصصي عباراتها البسيطة. وتصير جزءا من تكويني. تصير الـ«صباح ومسا وشي ما بينتسى». تصير تماماً كما الحقول التي تتكلم عنها. كما المياه والزهور والجبال. تستعير من الخريف صورا ترقص على أنغام سماوات زيادها الموسيقية.
أحبها، أحب الأحزان التي تتكلم معها. أحب الذكريات التي تستفيق على صوتها. أحب صباحاتها ومساءاتها. أحب كأسها الليلي. أشتاق لمن أقاسمهم صوتها. أعشق منها وفيها كل العاشقين إذ تعلو السيدة على جراحها.. «يا سلام على بكرا يا سلام».

لم أولد على يديك من قبل
لمياء الساحلي

لست بصدد تكرار ما قيل عن قيمتك بالنسبة لنا كجماعات وأفراد، ولا عن كونك أيقونة، وأنك جزء أساسي من ذاكرتنا الجماعية، وأننا نسير خلف ذلك الضوء الذي وحدنا نراه يخرج منك.
لن أكتب باسم أحد فهذه لحظة أنانية كما يوم الجمعة الماضي في حفلة «بيال».
سأخبرك «قصة عن حالي» لا يهم إن كانت «بشعة كتير أو حلوة كتير».
لا أذكــر إن نمــت باكراً في الليلة السابقة كي يأتي يوم الجمـعة أسرع، ولكنـي استيـقـظت كمن لديه «همّ»، وكان لديّ الشعور نفسه كما قبل توزيع العلامات في المدرسة، خصوصاً إذا كانت «الرّيسة» ستوزّعها.
بكيت كثيراً في ذلك اليـوم، وانهمر المطر غزيراً مع دمـوعي. ومرّ الوقت ببطء كما في ليالي الشتاء بضيعتي البعيدة، إلى أن انتهى دوام العمل وحلّ بعدها الموعد.
مارست كل الطقوس التي تمارس قبل حفلاتك. انتظرت في الزحمة ساعتين. وركنت السيارة بعيداً. وأكملت سيراً. حتى تأخّرت عليك.
بدأت الحفلة قبل وصولي. اعتليتِ المسرح من دون أن تتسنّى لي فرصة الشعور بك تدخلين.
تسمّرت عند المدخل وقوفاً كما يجب أن أستقبلك، وبقيت أراك تغنّين «سلّملي عليه»، من دون أن أسمع صوتك. كنتِ بعيدة ولكن واضحة بقدر شوقي إليك. وبين «سلّملي عليه» و«كيفك إنت» كان عليّ الوصول إلى مقعدي، ولكن بلا جدوى، فركعت كي لا أزعج أحداً، تماماً كما يجب أن أصغي إليك.
انتهت «كيفك إنت» ووصلت. جلست في ذاتي التي كانت قبل دقائق مزدحمة بألف فكرة وشعور وأحد. كان عليّ أن أفتح لك قلبي «على وسعه» كي أحتويك، أنت وكلّ هذا الكم من الحزن والفرح الذي جلبته معك. قد أكون بكيت في ذلك اليوم لينجلي كل الازدحام فيّ وتكون ذاتي بكاملها لك في تلك الليلة.
ومع كل أغنية كنــت أشــعر بك أنت، لا كفكــرة ولا كأيــقونة ولا كحدث ولا كحــالة، كـنت أشعر بك قلباً وجسـداً. أو انتابتني كل اختلاجاتك. كل نبضاتك. كل حزنك. كل فرحك. انتابني كلّك. جسدك انتابني. وقلبك انتابني.
ولم أبك، أردت أن أقوم بواجبك بأكبر قدر من الفرح الذي يليق بك. وفرحت، فرحت، فرحت.. سمعت كل شيء أردت أن أسمعه. انتبهت لكل شيء. صفّقت. رقصت. لوّحت بيديّ. ضربت على رأسي. صرخت. وقفت. قمت من مكاني مراراً. ضحكت. ابتسمت طويلاً.
وحلّت أغنـية «إيه في أمل» وقلتِ «بذكّرني فيـك لون شبابيك» بكل ما فيها من ارتفاع في بحّة صوتك، وأتبعتها بـ«حبيبي» مراراً.. و«في ماضي منيح بس مضى».. قد يكون الكلام، قد يكون الصوت، قد يكون اللحن، ولكني أعرف أنك قتلتني في تلك الأغنية، ولم تنفع محاولاتك لإقناعي بأنه «إيه في أمل»، ومع كل «إيه» كانت دموعي تنهمر أكثر، كأنّي أبكي عليّ، على موتي قتلاً على يديك.
قصتي معك بدأت في تلك اللحظة. لم تبدأ حين سمعتك، أو حين أحببتك. ولا حين شاهدتك لأول مرة في بعلبك عام 1998، ولا في «صح النــوم» في بعلبك مجدداً وفي «البيال» بعدها ولا في عمّان. ولا حين قلتِ «ت هَجّ بالحيطان وفلّ من حالو» في «ناطورة المفاتـيح»، ولا حين حفظت تلك المسرحية. ولا حين غفوت على صوتك في غرفتي بإحدى كنائس بيروت وأنت تتمرّنين في ليلة سبقت يوم الجمعة العظــيمة عـام 2004. ولا في أي أوف أو آه أو عـتابا أو مـوّال. ولا حــين أعـلنتِ أنكِ «شلح زنبق» ونقلت إليّ عدوى الزنبق.
قصتي معك بدأت حين قتلتني وولدت على يديك من جديد من الرحم ذاته.
شعرت بي أولد.. لم أشعر بولادتي من قبل.
ولدت على يديك.. لم أولد على يديك من قبل.
وأمي ولدتني.. بكينا سويا كل من وجعه الخاص.. و«نامت ع بكّير»...
أما أنا فمع كل نوتة، كنت أرتفع شيئاً فشيئاً إلى أن اعتليت غيمة من غيوم ذلك اليوم الماطر. وقلت لكِ:
أجلسيني «عن يمينك». لا حياة لي إن ابتعدت عنك مجدداً...
وسمعتك تضحـكين عليّ. تنزلين من بقعة الضوء التي وضعوك فيها، وتمسكين يدي ونخرج من «بيال» سوياً. نركض في برك المياه، ونستقلّ سيارة أجرة إلى المنـارة حـيث ألحّ علــيك أن تشتري لي ذرة مسلوقة. تستجيبين. نأكل الذرة. ألتصق بقدميك. تضعين يدك اليسرى على رأسي. ونسير نسير نسير إلى «بكرا».. أو «بعدو».. «أكيد».

التـي كانـت كأنمـا تغنّـي
جهاد بزي

إلى رنا، الأميرة الصغيرة، كبعض عزاء لها في حزن أيامها

لفّها نبيذ ما، وكانت، كأنما كانت أشياء عديدة.
كانت شتاء قديماً تنساب منه نقطة مطر على زجاج الباص يذهب إلى حيث الحروف الأولى. الألف والباء والتاء، تختال بالأبيض على اللوح. تكتب لغة في بدء لحظتها.
كانت خداً يحمرّ من حبٍ. كانت خطو ولد إلى حزنه وحده، من أذى مؤذٍ. كانت أثر ابتسامة على غياب وجه. كانت دفء يد تأخذ يداً طريا عودها إلى ملاذها من كل خوف.
وكأنما كانت كل ما مررنا به وظللنا نجهله. مدن لم نفهمها. قصائد لم نحبها. أحلام لم نفسرها. روائح عطور وشوارع ومقاه وصباحات لم نعرف ما الذي تريده منا.
كانت جروحاً اعتقدناها التأمت. كانت بســاتين وشواطئ وبـيوت قرميد وشموساً وأقلام تلوين وقطع حلوى. كانت فتنتنا بالبساطة العابرة. إضحاك طفل، طبطبة على كتف صديق، عناق أمّ، تبادل ابتسامة مع غريب، إصغاء لصمت فجر. فرجة على عينين تنظران في باقة ورد.
وكانت ندماً على فعل لا يمحى. كانت أيام إحباط وساعات وحدة. كانت آلاماً وكانت شجناً وكانت حزناً وكانت غضباً وصراخاً وكرهاً. كأنما كانت أشياء كثيرة. كأنما كانت عمراً نحيا قليله ونسهو عن قليله. كانت عمرنا الذي نعيشه.
كأنما كانت خجلاً على عنق. كأنما كانت ملمس وردة نسيت وجفت في كتاب نرفعها ويحرقنا حنينها. كانت زهو الشاعر بسطور قصيدته عنها. كانت فراغاً كحلياً سكبه الليل في كأس خلا لتوه من آخر النبيذ. كانت لازورداً يسكبه الله كل فجر على التي تدور. صوتها كان التي تدور.
التي كانت كأنما تغني. في نورها وَقَفَتْ، ذراعها تنثر في سهول القلوب بذور خبز آتٍ وشعر ونثر وموسيقى ولوحات وموت وولادة. تنثر شجن حب لن يعود، وخيبات صداقات كُسّرت، تنثر سهراً على حمى جباه صغيرة، وقبلاً سريعة على خدود، تنثر أكفاً تلوح في مطارات، تنثر مناديل تلوّح لراحلين. تنثر دموعاً في عيون مغمضة. تنثر خيالات في الغيوم. تنثر أوهاماً في عالم يحتاج إلى وهم ليبقى. تنثر ابتسامات على المرايا. تنثر خمراً على الليل وثمراً على أشجار، وقشاً على بيوت عصافير، وقلوباً وأسهما وأحرفا على خشب أشجار وطاولات مقاه ومقاعد مدارس. تنثر تمايلاً تقطفه النساء يحكن منه شالات على الأكتاف.
تنثرنا وتلمنا وتنثرنا وتلمنا. تلهو بنا تلك التي كانت كأنما تلهو بنا. تقف في نورها وتنثرنا في صوتها. تبعثرنا. نتحرر منّا ومن جاذبيتنا. نرتفع ونهيم ضائعين في كل أزماننا وكل أوقاتنا. نلتقي كل من عرفناهم. نمر في كل صورنا وأحاسيسنا المضبوبة. تختلط علينا حيواتنا وتكون في فوضاها أحلى. تعصر عنباً لتُسكر الساعات، فتتوقف ثوانيها عن الجري، وتروح ترقص. ويصير الزمن كالنوم، بلا منطق وبلا ترتيب. لا ماضي له ولا حاضر ولا آتي. يصير زماناً واحداً كثيفاً، ونصير كأننا قطن خفيف في فضاء خفيف. ويلفنا صوتها الذي كطعم النبيذ إذ نغمض أعيننا ونحلم بطعم النبيذ.
كانت نبيذاً تلك التي كانت كالنبيذ. وكانت كأنما تغني، كأنما كانت واقفة في نورها، وكأنما لم تكن. كأنما هي سرابها. كأنما هي هكذا، لا تأتي إلا حين نغمض أعيننا على ما في قلوبنا. كأنما لم نسمع صوتها أبداً. كأنما صوتها فينا. نغرق في داخلنا لنبحث عنه، وإذ نظن أننا التقطناه أفلت منا، ولفنا وعاد ينثرنا في أحلامنا نرانا فيها نبكي إذ نظن أننا نرى التي كانت كأنما كانت تغني.

تُعرّيك ثم تُلبسك من أثوابها
إبراهيم شرارة

لن أحضر الحفلة، أقول لنفسي. سأستعيض عنها بسماع متواصل لأغنيات قديمة. أمارس طقسي هذا عادة في المساء. لكن، قبل أيام قليلة من الحفلة، رحت أسمعها في أي وقت أختاره. أنتقي من مجموعة كبيرة أغنيات أحبّها. أختارها أنا، لا هي، لتناسب مزاجي المتأرجح.
موعد الحفل الأول يحين بعد يومين. غداً، أشتري الألبوم الجديد. لن أستطيع تأمين كلفة البطاقة. فالبطاقات المنخفضة الثمن نفدت كلها. أقول إن فيروز فاجأت الجميع، ثم أنتبه إلى أن الإعلان عن موعد الحفلين سبقهما بوقت طويل نسبيا.
لماذا إذاً لم أبادر باكراً إلى حجز بطاقة؟

***

تتأخر فيروز، والضوء الذي ينير الصالة يترك للحضور حرية الحركة والحديث. البطاقة بين يدي. والصوت الهادئ يخبر الحضور باقتراب موعد بدء الحفل. عليّ أن أستعد إذاً. أضع البطاقة في جيبي الخلفي. أسند ملصقات أحضرتها من الخارج إلى جانب المقعد. لا أريدها أن تعيق وقوفي عندما تطلّ السيّدة.
أختبر زاوية النظر. المسرح بعيد. ستبدو من هنا صغيرة. استعد للّقاء الأول. هل أقف؟ هل أصفق؟ سأصرخ على الأغلب. سألوّح بيديّ عالياً، ولن أجلس إلا عندما تبدأ بالغناء. أو ربما أظلّ واقفاً إلى أن تنهي الأغنية الأولى.
عليّ أن أستعدّ بالصورة التي تليق باللقاء الأول معها.
العتمة التي لفتّ الصالة تنبئ بوصول الفرقة. وصوت الموسيقى يقول إن فيروز ستظهر بعد قليل أمامي.

***

لم أستطع الوقوف. لم أصفق. لم أصرخ.
هطل صوتها فجأة عليّ، وتركني أستسلم لوقع أغنيات تختار هي شكل انفعالي معها.
هطل فجأة، ثم ترك للحياة أن تنساب كما تشاء، من دون تخطيط مسبق.

***

هكذا يفعل فيك حضورها:
يسخر من استعدادك لاستقبال الحياة وتوقّعها.
يعّلمك أن تستقبل الحياة بدل انتظارها.
يريك الجمال في لحظة عابرة، والصدق في حب بسيط، والفرح في تفاصيل صغيرة.
يمنحك الحنين إلى ذكريات تعلمها أو تجهلها.
يستعيد كلّ الحزن الذي في داخلك. يأتي به من سنين طويلة مرّت، ويعيده إليك كحزن عادي. حزن رقيق ينساب بين يديك كطفل تحرسه وترعاه.
يصنع من الملل أملاً. يقول لك إنه وهميّ ربما، أو صغير، لكنه سيكون كافياً ليخفف عنك الزعل.
يخبرك أنك ستزعل لا محالة، لكنه يمنحك القدرة على فرح يداوي الصعب من الأيام المقبلة.
يجعلك تبحث عمّا في داخلك. يجعلك تستعيده وتحضنه وتمنحه لغيرك، ليكبر ما فيك أكثر.
يغسل عنك الغضب والتعب والكره وثقل الحكايات القديمة.
وحدها فيروز القادرة على أن تفعل ذلك كله في حضورها.
وحدها القادرة على أن تُعرّيك، ثم تُلبسك من أثوابها.