آخر الأخبار

في دمشق.. عندما تشقّ المدينة بابها العتيق

«هيدي أكيد مش الشام»، تستدير عين ربيع إذ يتسابق مع آلة التصوير لتسجيل المشاهد. فالشام في عقله البيروتي كانت مدينة المسلسلات السخيفة والمخابرات المخيفة والمطاعم والأسواق الرخيصة. لم يكن يعلم أن العصر الجديد وجد بابه إلى مدينة الزمن.
ماذا حصل لتتبدل شامه فجأة في هذا الحيّ؟
الشام التي في عينيه هنا على البولفار «أوروبا منذ مئة عام، أوروبا العربية». ترتفع شارة فندق «فور سيزون» العالمي فوق مجمع تجاري سياحي ضخم. في الشارع، لافتات «آيشــتي» و«موكا» و«كوستا» و«ليناز» الأجنبية، لكنها مكتوبة بلغة الوطن. «الآن أفهم ماذا كان يقصد أبو هاني في النقّ». كان يعني النواحي الصاخبة الحديثة مثل القصاع وشعلان وباب توما والمهاجرين والصبورة.
في الصباح، لم يفهم ربيع تذمر أبي هاني من غلاء كل شيء. فأبو هاني يدير «فندق سوريا الكبير»، حيث إيجار الغرفة لا يتجاوز الألف وخمسمئة ليرة سورية، أي ما يعادل ثلاثين دولاراً. وأبو هاني يتذمّر في «المرجة»، أي في دنيا مختلفة اقتصادياً واجتماعياً.
نزل ربيع قسرياً في المرجة. وللمرجة «صيت» يلمحه في تعابير وجه سائقي الأجرة التي تشتد عند سماع اسمها. لكن ربيع ما كان ليلجأ إليها لو وجد غرفة في فنادق باب توما أو الساروجة التي تعـج بالوجوه الأجنبية. كان أمضى الليلة الفائتة، بعد وصوله من بيروت، متنقلاً من فندق إلى آخر، سيراً على قدميه. لم يعثر على مكان في «فنــادق السياحة» بسعر منطقي. أرخص ما وجد، 200 دولار لليلة الواحدة. أصابه اليأس، فبات عند مرشد، صديق له يقيم في «شقّة شبابية» في الدويلعة.
في الدويلعة، ينام عدة شبان، كل في غرفته الضيقة. ويسهر تحت بيتهم ملهى «فيدا لوكا» الرائج. تقصده السيارات بزجـاجها الأســود للدلالة على أهمية مستقلّيها. «في الشام السيارات التي تنعم بعازل زجاجي تنحصر بالمهمين فقط. هناك، بوظة أمية على اليسار، هي أهم بوظة في الشام». يهمس مرشد في محاولة لإضفاء بعض الرفاهية إلى الحي الشعبي.
صباح اليوم التـالي، انتقل ربيع بدقــائق قلــيلة وسيــارة صفراء إلى المرجة. حــط رحــاله عند أبي هاني، المتذمر من الغلاء. في فندق سوريا الكبير، مــياه الشـرب وورق المحارم ليست ضمن الفـاتورة. واللهـجة اللبنــانية ترفع جمــيع الأسعار. وأبواب الغرف تخــفي خلفــها رسالة مــن الإدارة تحذّر من الإسراف في استخـدام الميـاه، وتطـلب إطفـاء الأنــوار. في فنـدق سـوريا الكبير، تبـدو الشام فقيرة جداً.
بعد جولة في الشام الفقيرة الغنية والعتيقة الجديدة والمخيفة الآمنة، يزور ربيع المسحد الأموي والحميدية بفضول ومتعة. لكن موعده مع الدهشة التامة كان في مسيره من «ليناز» إلى «فور سيزون» مروراً بأسماء المقاهي الأجنبية. بضع خطوات تريه المظاهر الاقتصادية المفاجئة. بعد ليلة الدويلعة وصباح المرجة، لم يلمسه الانبهار الاقتصادي في الحميدية. لكنه صعقه في شعلان وأخواتها. تلك النواحي الحديثة الباهظة الأسعار، والعصريّة. لكن كل شيء «مضبوط» للحفاظ على الهويّة. ويدور همس بين شباب الشام أن أصحاب معظم المقاهي مقربون من الحكم.
تلتقط عينه مشهد حديقة ضخمة نظيفة رائعة قرب مفاجأة «فور سيزون» ومجمعه التجاري. يلجأ إلى مقعد تظلله أشجارها المصفرّة. موظفات يعبرن بلباسهن الرسمي. رجال شرطة بعصيهم الكهربائية. رجل مسنّ متّسخ ينام على العشب الأخضر تحت شمس الثانية عشرة ظهراً. عائلة تتجمع على مقعد مجاور. وعشاق في كل الزوايا.
ما كاد يلتقط أنفاسه حتى التقط نظره المتحف الوطني إلى يساره. سار وسار ولم يصل إليه. يسأل وجهاً في الطريق فيعيده إلى الخلف: «ممنوع العبور إلا على جسر المشاة».
خمس عشرة ليرة سورية تعرفة دخول ربيع اللبناني (مع إبراز بطاقة الهوية) إلى المتحف الوطني. أقلّ من 500 ليرة لبنانية. مقهى متواضع تحت شجرة عتيقة يتربع في يسار المتحف. يسأل ربيع عن اختصاص المقهى طمعاً بتذوق أحد الاختراعات الشامية اللذيذة. يرد النادل الضاحك: «نحن مقهى ثقافي». يسأله عن النسكافيه وعن الشاي، والجواب نفسه لكل الأسئلة. في النهاية يتم الاتفاق على النسكافيه وعلى أن المقهى ثقافي. ثلاثة أقداح من القهوة العصرية ومياه للشرب، بثلاثمئة ليرة سورية، أي ما يعادل سعر فنجان واحد عند «ليناز» في حيّ آخر في الشام. يرتفع حاجب ربيع حيال التناقضات المتكررة. يبتسم وهو يدفع الفاتورة. ويمضي حول حديقة المتحف يمشي بين تماثيل وآثار عمرها آلاف السنين. يمشي مذهولاً كمن يحجّ في التاريخ.
في المتحف، يسأل رجلاً بلباس مدني فقير عن المدينة التدمرية. الجواب: «قيد الترميم، لكن هناك صالة ما قبل التاريخ، سأدلّك إليها». يلتصق الرجل بربيع صامتاً متجولاً حوله، طمعاً بسؤال آخر. يحتار ربيع، هل هو رجل مخابرات أم هو دليل سياحي..؟ يمرر له خمسين ليرة فيبتعد قليلاً، من دون أن يغيب.
تتعب قدماه ولا تتعب عيناه. في سوق الأشغال اليدوية المركون خلف المتحف، يحمل ربيع لوحات لثلاثة رسامين وحجارة عليها نقوش بأبجدية «أوغاريت»، وشالاً لصديقته وفانوسا نحاسيا صغيرا وعقدا عليه ختم ملك ما من التاريخ. كل تلك التذكارات والهدايا بأقل من ثلاثة آلاف ليرة سورية. خمسون دولاراً من الذكريات التي ستتوزع في شقته البيروتية. «هذه هي الشام التي كنت أتكلم عنها، وليس تلك المدينة المتقدمة القائمة حول الطرق الواسعة النظيفة. لم أكن أتوقع أن أراها مدينة منظمة وراقية.. أسقطت أحكامي المسبقة، وتهت في تناقضاتها الاقتصادية»، يقول ربيع.
ليلاً، نبيذ عتيق في مطعم فينو روسو الراقد على السور ناحية باب توما. ربيع سكران بذهوله. أسكرته المدينة العتيقة بوشاحها العصري. يرفع يمناه، ويشرب نخب المدينة، ويتمتم لصديقه: «كأسك يا صديقي وكأس المدينة التي تشبه بيوتها، كما قلت لي همساً بحاجبين مرتفعين: إن الباب العتيق المغلق، بدأ يفتح قليلاً، والدليل، تلك الشوارع الباهظة ولافتاتها الأجنبية ومصارفها ومؤسساتها. فتح الباب وظهرت منه حياة خلف الجدار العالي. خرجت منه طيور تغرد عالياً بأصوات جميلة. لكنها ما زالت تغرّد داخل السرب».
غدي فرنسيس
19/10/2010
(السفير)