آخر الأخبار

دراسة في رواية الاحتجاج للأديب نبيه اسكندر الحسن

لقد سبق إن رأينا أنه من الضروري وضع نظرة جدية لكتابة الرواية عند الأديب الروائي نبيه اسكندر الحسن والذي يبلغ ذروته في كتابته لرواية الاحتجاج التي دخلت في أمواج بحر من التحولات التاريخية، التي حلت بالمنطقة العربية وهي ترتبط بين رؤيته وبين ما يجري ومن خلال هذه الرؤية يوحي الكاتب للقارئ نمط المعالم الكبرى لتاريخ المنطقة والتحولات التي حلت على المكان والزمان ، فهو يرى بأن الوجود البشري من الناحية الروائية يكون ممكناً بسبب زمانيته والزمانية تؤكد قوة الرواية في قدرة تجذب المتلقي وتبين الأصالة للعمل الكتابي وأهمية كشفه بتصميم على الإمكانات التي اختارها الأديب إذ أنه يعود بتصميم إلى ذاته بواسطة الانفتاح على الآخر وتأريخ ما يمر على أرض الأمكنة التي تسيرفيها مراحل الرواية فالاحتجاج هي حصيلة عمل حقبي يتداخل فيه الكثير من التنقل والتنوع في أصول المعرفة وتداخل أنماطها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والنفسي ، فهو يرى أن الرواية هي مركز الاهتمام المتكامل بين الوجود والتاريخ ،وهو يعمل على تحديد الحاضر المتأزم وكيف يمكن للمستقبل أن يكون منظوراً من خلال الطابع العام لكل مفاهيم المعرفة ، واحتمالاتها المقبلة فهي علاقة بين التغيرات والرفض الذي ينمو باستمرار فمشكلة المعرفة ترتبط بكل ما يتضمن من تطورات على المستوى الثقافي فإذا انتقلنا من المكان إلى الزمان نلاحظ أن الزمان تنظمه اهتمامات الأديب فهناك وقت نذهب فيه إلى دراية بكل ما يحيط بنا ، ولكن الكاتب يختار على المدى المنظور والبعيد رؤيته وذاته التي تنبثق منها كل قراراته .

فقد تحدث الكاتب نبيه الحسن بصفة خاصة عن حقيقة الذاتية التي سيطرت على المقاربات التي التجأ إليها في معظم روايته ومن خلال لغته التي تفهم في إطار احتجاجه على ما أعتقد أنه تخريب للواقع ، وقتل للحقائق الموضوعية ،فهو يرى الحقيقة تتضمن ذاتيتها فهي ليست شيئاً غير شخصي بل هي شيء يمتلكه داخلياً ولا شك أن الأثر الفلسفي الثقافي يظهر من خلال طروحاته وهذا يعني أن التفكير هو الذي يجعل الحقائق تطفو وتظهر كما هي على حقيقتها بعيدة عن التزيف والدجل ، وعموماً فإن المعنى الذابل والمنطفئ للحياة ،هو الذي أحاط بكل المكان الذي يتحدث عنه الكاتب "الحسن" لكثرة المصائب التي لحقت بهذا المكان فما كان منه إلا أن تملكه القلق والتوجس والضيق ، وقد يكون في بعض الوجوه الحقيقة يفضل أن ينظر إلى الواقع على أنه مفتاح أساسي لفهم هذا القلق المتربع على كل شيء حتى على عقله ، فالانفعال لا يعني شيئاً إذا لم يقترن بتطلعات كبيرة تغير مسار الأحداث الأليمة التي تواجهه ، وعلى رغم تأكيده على أهمية الانفعالات إلا أنها لا تشكل أي تغيرات في طريقة التعسف والإحباط ، عند المتسلطين على شخوصه طوال عملية البناء الروائي .

( أخذتها الذكريات إلى الماضي نبشت ركامه حتى غيبها النوم ،رأت نفسها في عرض البحر على متن زورق يشق عباب الماء ،تطاير شعرها الغجري ليشكل نخلة تستظل بفيئها الأجيال ،قدمت لهم الفاكهة بلح الرافدين ، شعرت بأن الله عوضها بملايين الأبناء عوضاً عن ولدها *ص33

من المعترف به عند الكاتب أن الانفعالات تمسك بلب الحدث وتحيط به وتجعله مقيداً بكثرة المتغيرات فهو يؤكد على التغيرات التي تحدث عند الشخص من خلال حالته النفسية ويحاول أن يركز على هذه الاعتبارات التي تقع في منطقة وسط بين عمليات النفس والجهد وبين قوى العقل والفكر ، ويرى أن هذه المشاعر يمكن أن تعمل في خدمة العقل والفكر ،ونراه يعمل من خلال سورة الغضب التي تجلب الدمار لكل ما تصل له يدها فهو يرى الضربة الأمريكية الحاقدة على العراق .

(و فجأة

شقت الحيتان الأمواج ،حاصرت الزورق طوقته من كل الاتجاهات ،انبرى قرش جشع من صنف الحيتان ،فاتحاً شدقيه بغية التهام الزورق برمته ، لكنه اكتفى أن يضرب خاصرته الشرقية ضربة كادت أن تحطم أضلاعه صرخت -احمنا يا رب ) ص33

وفي هذا الصدد نرى الكاتب نبيه اسكندر الحسن، قد استفاد أن يذكر ملاحظات ما جدة، حيث وجد في أن فهما لمشاعرها بذاتها لم تكن إلا من خلال وعيها بالوجود الفعلي لنفسيتها والتطورات التي مرت بها، و أيا ما كان وجودها في هذا العالم، فإن مشاعرها تؤكد، وتشهد بأنها جزء من هذا المكان، الذي ابتليت به، .فهي ليست ذاك الآخر المغتصب، لكرامتها والناهب لمالها وحياتها وكيانها، بل هي رمز لكل المرحلة، وهي الوسيط الذي يعمل في المكان الأصلي لكل الأحداث، وهنا تكون المشاعر والانفعالات، هي الطريقة التي وجدت فيها نفسها ماجدة وصابر، عندما التقيا في مقهى الروضة ،وباقي الحوار الذي يؤكد همجية العدو الأمريكي ونيته في التحرش بسورية فنرى الكاتب الحسن يحاول أن يبين الشعور في صيغته الجمعية كيف أحبط ما أرادته تلك الحيتان الغادرة ،متمسكاً بالمشاعر الجمعية ومن باب الدقة قال لنا الأديب بأن الشعور ضرب من التجريد ،فنحن لا نعرف بوضوح سوى مشاعرنا نحو العالم بشكل محدد أما مدى نوعية هذه المشاعر وتحديد معالمها فيمكن أن تتضح من كون قدرتنا على تفسير ما أراده الكاتب بفهمنا للغة ِ ومستوياتها وقدرتنا على فهم علم النفس والفلسفة حيث تذخر الرواية بتلك الألفاظ التي تصف المشاعر عند ماجدة وعلوان / الضد وصابر البطل الذي يهب في كل الأزمنة والأمكنة بحسه المرهف كسمة يتميز بها وهو يدرك الأمور بانفعال حساس وهادئ ومع ذلك فحتى وجوده مع ماجدة يتميز بظلال أرادها الكاتب أن تكون غيوماً تحيط بالمكان والزمان فصابر الحبيب هو الحبيب الأول وعلوان هو الزوج الماكر الذي أوقع بماجدة بتهمة الزنى وأكد التهمة بشهود زور .

ويبقى الأديب الحسن معتمداً على مهمته في تصنيف المشاعر في حقل روايته ويبين الفروق الدقيقة بين الشخوص من خلال هذه الأمزجة فهو يظهر لنا بعض المشاعر البدائية كزوج أم ماجدة وجارات أمها فهم على الفطرة والرقة في التعامل معها ولكنها ظلت تحبس أحاسيسها دون أن تعرّف عن نفسها .

( عادت إلى مدينة حمص تذكرت القرية التي عاشت طفولتها فيها وهي تشق عباب الليل تذكرت أمها التي قضت ولم ترها ، وتذكرت زوج أمها ورغم قسوته صفحت عنه ،لم يكن باستطاعته أن يقف غير ذلك الموقف لأن العرف ينطوي على كل أبناء جلدتها ،فقررت أن تزوره لعل العرف يكون قد تغير بعض الشيء )ص 35

ومن خلال بعض التحليلات التي يقدمها الكاتب الأديب نبيه اسكندر الحسن نرى الأبعاد التي يعاني منها الشخوص وخاصة من خلال أفعالهم التي يمارسونها وهو يؤكد على الخصائص الايجابية عند هؤلاء الشخوص مثل الحرية - والقدرة على الاختيار وهذه السمات الايجابية قد أخذت مكانها مقابل سمات أكثر سلبية واعتدالاً كما سميت ـومع هذا لم يكن الكاتب غافلاً عن العناصر المأساوية وسواء تأكدنا أو لم نتأكد من القول بأن القلق هو أهم السمات التي أكد عليها الأديب وعمل على فكرة أن القلق يصاحب ممارسة الحرية وأنه بالنسبة لمصيره فإن لهذه الأفعال جوانبها السلبية والمأساوية .

( حمله صابر على ظهره ،وانتحى مكاناً بعيداً عن الطريق خوفاً من عتمة تزجهم في كمائن التيه ،وجد صخرة كبيرة ترتكز على قاعدتها ،قمتها مندفعة إلى الأمام كجناح طائر النعام ،جلس القرفصاء بظل الصخرة وبهدوء مدده على الرمل وراح يتلمس الساق عله يعرف هل كسرت ساق أبي فادي ،أم مجرد تشنج ،ثمة قافلة عسكرية تتقدم باتجاه بغداد أضواء الآليات تشق العتمة ، وخوفاً من حزم الضوء ،لاذ بحفرة كان يدرك إذا سقطوا بين أيادي الجيش سوف يتهموا باتهامات تؤدي إلى الإعدام ،لكن القافلة مضت دون أن يراهم أحد) ص78

لقد رصد الأديب الحسن ما يجري في العراق ،واستخدم الواقع ليدل على العامل المحدد لوجود شخوصه في هذه المعمعة فالواقع لا يعني نفس ما تعنيه كلمة الوقائع فعندما نقول أن شيئاً ما واقعي فنحن نتحدث عن حالة موضوعية يمكن ملاحظتها في العالم أما الوقائعية فهي الجانب الداخلي للتمسك بالوقائع .

وقد استمر الكاتب الأديب القاص والروائي الحسن في تواصل وتعامل مع كل مجريات الحياة اليومية للواقع المكاني و الزماني مترجماً ذلك بتحرك شخوصه ،وتنقلهم عبر البيئة الجغرافية التي يلتزمونها ،فالتسلط والغزو ،وقتل الأبرياء والانغماس في الجريمة من قبل دول كبرى ظهرت لا إنسانيتها ومدى توحش عصاباتها وما قاموا به من جرائم لا تمحوها كل قوانين العفو الدولية الموجودة في هذا الكون ، إنها الحروب (الإبادة ) التي سيطرت على المكان في جنوب لبنان وفي فلسطين والعراق ، وأفغانستان والعدو واحد لكل هذه الأماكن حيث ركب أساطيله وجاء كغاز وقرصان لا يفهم إلا لغة القتل وتحطيم الحضارات ودفن الموروث بعنجهية المنتصر ومصاصي الدماء .

إنه الكاتب نبيه اسكندر الحسن الذي رصد في الكثير من رواياته العمل الإنساني ومقاومة الجشع والتسلط والاغتصاب برواياته التي جاءت من الفدية إلى غضب النورس إلى عاشق أخرس إلى بحيرة الملح بأجزائها وهذه رواية الاحتجاج تأتي تتويجاً لما كتب وقدم من خلال حركة فنية رائعة .